شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
سياسات ترامب

سياسات ترامب "الابتزازية"... تهديد جدي لمكانة الولايات المتحدة في العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 11 أكتوبر 201805:39 م
"بوصفي رئيساً للولايات المتحدة، سأضع أمريكا دائماً في المقام الأول، مثلكم تماماً، فزعماء بلدانكم سيضعون بلدانكم دائماً أولاً، وينبغي أن يفعلوا ذلك دائماً". يحدد هذا الخطاب الذي ألقاه دونالد ترامب في أول ظهور له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 19 سبتمبر 2017، والذي اشتهر بأنه خطاب "أمريكا أولاً"، كيف يفهم الرئيس الأمريكي السياسة الدولية. فيه، قال إن "الدولة بمفهومها الوطني لا تزال أفضل آلية ووسيلة للارتقاء والنهوض بأحوال الإنسان"، وفيه قال: "لم يعد من الممكن أن يتم استغلالنا، أو إبرام صفقة أحادية الجانب حيث لا تحصل الولايات المتحدة على شيء في المقابل". تلقف العالم هذا التوجه الأمريكي الجديد بقلق. فقد ذكر ترامب في خطابه كلمة "سيادة" أو "سيادية" 22 مرّة، هو الذي يُفترض أنه يقف على رأس الدولة الكونية التي تجد جزءاً كبيراً من عوامل قوتها في سياقات "العولمة". وفي الحقيقة، لم يكن قلق العالم بلا مبرّر. ما قاله ترامب في خطاب مكتوب تعاون عدة مختصين في كتابته وتنميق عباراته كان يظهر واستمر في الظهور بشكل صلف في تصريحاته وتغريداته. فالرئيس الأمريكي أظهر أنه لا يأبه للمؤسسات الدولية ولا يحترم فلسفتها، ولا يحترم التزامات بلاده القانونية وتعاقداتها، وتتمحور أفكاره حول مبدأ واحد: المال، ما حدا بالبعض إلى وصفه بأنه "يرى العالم عبارة عن كازينو كبير تخسر فيه الولايات المتحدة النقود".

ادفعوا مقابل حمايتنا لكم

عقيدة ترامب الابتزازية تظهر في تصريحات كثيرة له، عادةً ما يتوجّه بها إلى حلفاء بلاده. وفي آخر هذه التصريحات الابتزازية والتي لا تمتّ إلى لغة الدبلوماسية بصلة، قال ترامب أمام تجمع انتخابي في ساوثافن في مسيسيبي، في الثاني من أكتوبر: "نحن نحمي السعودية. ستقولون إنهم أغنياء. وأنا أحب الملك، الملك سلمان. لكني قلت: أيها الملك نحن نحميك، ربما لا تتمكن من البقاء لأسبوعين من دوننا، عليك أن تدفع لجيشنا". هذا ليس أول تصريح مماثل لترامب، فقد قال في 29 سبتمبر إن الملك سلمان يمتلك تريليونات الدولارات، ومن دون الولايات المتحدة "الله وحده يعلم ماذا سيحدث" لبلاده، كما قال ما يشبه ذلك في أكثر من مناسبة سابقاً، لا بل اعتبر أن إيران يمكنها أن تسقط المملكة خلال أسبوعين لولا الحماية الأمريكية. وبدأ خطاب ترامب الابتزازي للسعودية منذ أن كان لا يزال مرشحاً للرئاسة، يتجوّل ويخاطب الجماهير في المهرجانات. ولعل الذروة كانت في الخطاب الذي وصف فيه المملكة بـ"البقرة الحلوب"، مطالباً إياها بدفع ثلاثة أرباع ثروتها مقابل استمرار حمايتها ومضيفاً أنه حين يتوقف ضرعها عن درّ الدولارات سيتم ذبحها! في تلك المرحلة نفسها، حين كان يسعى إلى مغازلة الناخبين الأمريكيين، وخاصة المتضررين من سياسيات الانفتاح الاقتصادي، ويعدهم باستقطاب استثمارات وخلق وظائف جديدة، أعاب ترامب على الرؤساء السابقين أنهم لم يأخذوا نفط العراق بعد احتلاله! يُكثر ترامب من ابتزار السعودية علناً وسبق أن قال بصراحة خلال لقائه بولي العهد السعودي محمد بن سلمان إن "السعودية بلد ثري جداً، ونأمل أن تعطي الولايات المتحدة بعضاً من ثروتها من خلال شراء أفضل المعدات العسكرية في العالم وخلق وظائف جديدة". ويبدو أن تعاطي الرئيس الأمريكي مع أمن حلفاء بلاده كأنه "بيزنس" بلغ ذروة غير مسبوقة، إذ كشف الكاتب جوش روغن في مقال نشره في صحيفة "واشنطن بوست" في الثاني من أكتوبر أن ترامب أخبر مجموعة من الأشخاص أن الملك سلمان اتصل به مؤخراً وطلب منه مساعدة أمريكا لبلاده في "عملية عسكرية واسعة"، فأجابه بأن الأمر مكلف جداً وعلى الرياض أن تدفع أربعة مليارات دولار مقابل ذلك.

"فن الصفقة"؟

هذا غيض من فيض تحويل ترامب قضايا حساسة جداً وفائقة الأهمية إلى مسائل مالية، مصوّراً بلاده كتاجر لا يأبه إلا للتربّح. ربط كل شيء بالمال لا يقتصر فقط على تعاطيه مع السعودية. عندما طلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من واشنطن تخفيض تمثيلها الدبلوماسي في موسكو، ردّ عليه ترامب بالشكر قائلاً إن ذلك يوفّر المال على الولايات المتحدة. كثيرة هي الأمثلة. في خطابه الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتهم أعضاء مجموعة أوبك بنهب باقي دول العالم وقال: "نحن ندافع عن كثير من تلك الدول بدون مقابل، وبعد ذلك يستغلوننا ويرفعون أسعار النفط. هذا ليس جيداً. نريدهم أن يتوقفوا عن رفع الأسعار". قبل ذلك، في الثالث من أبريل الماضي، ربط إبقاء الجنود الأمريكيين في سوريا بتكفل السعودية بتكاليف عملياتهم هناك وقال حرفياً: "إذا كانت السعودية ترغب في بقاء الأمريكيين في سوريا، عليها أن تدفع تكاليف ذلك"، معتبراً أن نشاطهم هناك يخدم المصالح الأمنية لدول أخرى. ويظهر ترامب أحياناً، في خطاباته التي تربط العلاقات الخارجية بالمال، كـ"بلطجي"، إذ لم يتوانَ مثلاً عن مطالبة المكسيك بدفع تكاليف الجدار الذي ينوي بناءه على الحدود معها، وهو طبعاً طلب ترفضه الأخيرة، متجاهلاً أهمية العلاقة الهادئة بهذا الجار الذي تعود آخر حرب معه إلى عام 1848. لعلّ هذا الأسلوب الابتزازي هو ترجمة ترامب السياسية لما أسماه سابقاً "فنّ الصفقة" وهو عنوان كتاب له يقول فيه إنه يركّز على "الأفكار الكبيرة التي تؤدي إلى أعمال كبيرة تجذب لي أموالاً كثيرة".

الإضرار بمكانة الولايات المتحدة

جزء أساسي من زعامة أمريكا للعالم تأسس على اختلافها عن الدول الاستعمارية السابقة، وإنفاقها على تخليص أوروبا من دمار الحرب العالمية الثانية وعلى دعم المؤسسات الدولية المعنية بالأمن والسلم العالميين، وتمويل مشاريع حول العالم لنشر قيمها.
أظهر ترامب أنه لا يأبه للمؤسسات الدولية ولا يحترم فلسفتها، ولا يحترم التزامات بلاده القانونية وتعاقداتها، وتتمحور أفكاره حول مبدأ واحد: المال، ما حدا بالبعض إلى وصفه بأنه "يرى العالم عبارة عن كازينو كبير"
يُضرّ ترامب كثيراً بمكانة بلاده بسبب تحويله العلاقات الدولية إلى مجرّد تعاملات نقدية، ويضرّ بالمبادئ الليبرالية التي تحكم النظام العالمي والتي أرستها بلاده بعد الحرب العالمية الثانية، بالشراكة مع دول أوروبا الغربية
ولكن إدارة ترامب تتبنى سياسات تناقض كل ذلك، ويلخّص فلسفتها سعيها إلى تخفيض المساعدات الأمريكية الخارجية وتخفيض ميزانية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو أس آيد). ولا تزال آثار وقفها تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) تنعكس على حياة مئات آلاف الفلسطينيين. يُضرّ ترامب كثيراً بمكانة بلاده بسبب تحويله العلاقات الدولية إلى مجرّد تعاملات نقدية، ويضرّ بالمبادئ الليبرالية التي تحكم النظام العالمي والتي أرستها بلاده بعد الحرب العالمية الثانية، بالشراكة مع دول أوروبا الغربية. يتأسس النظام العالمي على أسس الانفتاح الاقتصادي والتعاون الأمني، ويجد أسسه في المعاهدات متعددة الأطراف وفي الشراكات المعقودة بين الدول. وأحد أعمدة هذا النظام العالمي هو التضامن بين الأنظمة الديمقراطية، وبالأخص بين واشنطن وبين دول أوروبا الغربية (الاتحاد الأوروبي لاحقاً) وتحديدها لمخاطر عالمية تهدد الديمقراطية وتصديها لمحاولات فرض منطق القوة في العلاقات الدولية بدل منطق التفاهمات والاتفاقات والقانون الدولي، حتى ولو ناقضت ممارساتها خطاباتها في أحيان كثيرة. ولكن ترامب يضرب هذه الأسس بسياساته، هو الذي أدخل "البيزنس" في تعامل بلاده مع أهم آليات التعاون الأمني بين دول الغرب، حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إذ يخرج بين فترة وأخرى ليبتز أعضاءه ملوّحاً بصرف النظر عن الاهتمام بالعمل معهم بحال لم يزيدوا من إنفاقهم العسكري، لتنهمك إدارته في مساعي ترقيع الثقوب التي تحدثها رعونته. لا يفهم ترامب منطق الشراكة ولا يفهم أن بلاده تتعاون مع دول وتنفق في هذا التعاون المال في سبيل تحقيق مصالح عالمية مشتركة، فقد سبق أن طالب اليابان وكوريا الجنوبية بتحمل تكاليف الحماية الأمريكية لهما، لا بل طالب الثانية بمليار دولار كثمن لنظام "ثاد" الدفاعي الصاروخي، متجاهلاً أن تواجد بلاده هناك، بالقرب من الصين، ضروري لأمن واشنطن نفسها وليس لأمن طوكيو وسيول فقط. ومن الأمن إلى الاقتصاد، اصطدم رئيس البلد الذي يحيا اقتصاده على ثقافة الانفتاح بكندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي وفرض عليهم رسوماً جمركية، معيداً بلاده إلى انتهاج سياسات كانت تنتهجها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ما حدا برئيس مجلس أوروبا دونالد توسك إلى التحذير من "أول أعراض الانقسام داخل الجماعة السياسية الغربية". وفي الحقيقة، فإن الحروب التجارية التي افتتحها ترامب خطيرة جداً، فقد قدّرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في يوليو 2018 أنه إذا أعادت الدول الرسوم الجمركية إلى ما كانت عليه سنة 1990، سينخفض متوسط مستوى الحياة سنة 2060 بنسبة 14% عن السيناريو الذي كانت تتوقعه. وعلّق أستاذ العلوم السياسية الشهير جوزيف ناي على "الحرب الجمركية" بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بقوله: "علينا أن نولي الاهتمام لفرضية أن ترامب يرغب في تدمير مؤسسات النظام الدولي الليبرالي". وبرأي ناي، يمكن تصحيح أخطاء ترامب إذا بقي في سدة الرئاسة لولاية واحدة أما إذا جُدّدت ولايته فلا، لأن دول العالم لن تنتظر أربع سنوات جديدة وستسعى إلى إيجاد أطر بديلة، بعيداً عن واشنطن. وبالفعل، دفعت عدوانية ترامب أطرافاً عدة إلى البحث عن اتفاقات موازية بعيداً عن واشنطن، مثل توقيع الاتحاد الأوروبي اتفاقين للتجارة الحرة مع كل من الصين واليابان في يوليو الماضي، عدا عن بحث الأوروبيين عن آلية تجارية لا ترتبط بالمصارف الأمريكية بأي شكل لإنقاذ الاتفاق النووي مع إيران الذي انسحب منه ترامب وأعاد فرض عقوبات اقتصادية على طهران وهدد بمعاقبة كل مَن يتعاون معها.

تراجع الثقة بأمريكا

لم تكن مصالح الدول الاقتصادية خارج حساباتها السياسية يوماً ولكن الفارق الذي أحدثه ترامب يتأسس على أمرين: الأول، أنه لا يكتفي بتحقيق مكاسب بصمت، والثاني أنه لا يفهم فكرة المكاسب بعيدة الأمد ولا يفهم إلا بلغة الأرقام الظاهرة الآن على عقود موقَّعة. في أولى رحلاته الخارجية بعد تسلمه الرئاسة، حطّ ترامب في السعودية وأبرم معها صفقات ضخمة جداً فاقت قيمتها الـ350 مليار دولار وبعد ذلك عقد معها صفقات أخرى بالمليارات. ولذلك من الغريب أن نراه يمعن في التبجح بقدرته على ابتزازها، وعلى الأرجح يعود ذلك إلى رغبته الدائمة والجامحة في الظهور بمظهر القوي، هو الذي أضحك ممثلي 193 دولة حينما قال أمامهم في قاعة الأمم المتحدة إن إدارته أنجزت خلال سنتين أكثر مما أنجزته كل الإدارات الأمريكية على مرّ تاريخها! يشير الكاتبان إليزابيث ساوندرز وجيم غولغاير، في دراسة نشرتها مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، إلى أن "السياسة الخارجية الناجحة هي سياسة لامرئية بشكل كبير. هي تعني غالباً أن تدفع مقابل فوائد لن تراها بسهولة إلا إذا خسرتها، وستكون أهميتها واضحة فقط عندما تحتاج إليها بالفعل. وأحياناً، السياسة الخارجية الناجحة تعني أيضاً عدم الحديث عن الانتصارات الحقيقية". ولكن طبعاً، هذا لا يفهمه ترامب الذي يهوى التلويح بالعصا الغليظة. يأتي كل ذلك في إطار تفضيل الإدارة الأمريكية الحالية العمل بشكل منفرد، وعدم ثقتها بالمؤسسات الدولية وبالتعاقدات متعددة الأطراف التي تؤسس "النظام العالمي" الذي نعيش فيه وتحدد شكله. آخر الصيحات كانت اتهام محكمة العدل الدولية بأنها "مسيسة وغير فعالة"، وقبلها ظهرت اتهامات مماثلة للمحكمة الجنائية الدولية. وقبل ذلك انسحبت واشنطن من منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (يونسكو)، ومن مجلس حقوق الإنسان، ومن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومن اتفاقية باريس للمناخ، وفرضت (بالقوة) إعادة صياغة اتفاق التبادل الحر لدول أمريكا الشمالية (النافتا). أدت سياسات ترامب إلى تراجع ثقة العالم بأمريكا، بحسب ما تظهره استطلاعات رأي، آخرها ذاك الذي نشرته مؤسسة "بيو" للدراسات والأبحاث، وشمل 26 ألف شخص في 25 دولة، وأظهر أن 70% لا يثقون بترامب، مقابل 27% فقط. وطبعاً، لا يميّز الناس بين الثقة بشخص سيرحل وبين الثقة بدولة تستمر عبر مؤسساتها، ما يعني أن هذا الأثر مستدام. واللافت في الأمر أن نسبة أكبر أعربت عن ثقتها بالرئيسين السلطويين، الصيني شي جينبينغ (34%) والروسي فلاديمير بوتين (30%)، اللذين حلا مباشرة قبل ترامب وبعد كل من المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل (52%) والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (46%). وبيّن الاستطلاع نفسه أن 70% من الناس حول العالم، مقابل 28% فقط، يعتبرون أن أمريكا لا تأبه لمصالح الدول الأخرى، وهذه النظرة تهدد بجدية مكانة واشنطن كزعيمة للعالم. يستمر ترامب في مغازلة ناخبيه واعداً إياهم بمكاسب اقتصادية قريبة ويحرص على إظهار أنه يبتز العالم لتحقيق مصالحم، ولكنه لا يقول لهم إن المكاسب الآنية التي قد يحققها لهم ستنعكس عليهم سلباً في وقت لاحق، لأن أساس خلق الثروة ومراكمتها في الولايات المتحدة يتأسس على سياسات ومبادئ مناقضة تماماً للعقيدة الترامبية.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard