شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
متى سيقع الانقلاب المقبل في تركيا؟

متى سيقع الانقلاب المقبل في تركيا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأحد 24 يوليو 201606:37 ص
تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة لن تكون كتركيا قبلها. تصريحات رجب طيّب أردوغان في اليومين الماضيين تؤكد ذلك. حتى الآن، لا يزال المشهد التركي ضبابياً ومن العبث التأكيد كيف ستسير الأمور. وعلى الأرجح ستبني القوى التركية مواقفها تدريجياً بالتفاعل مع الأحداث ومع قرارات الرئيس المقبلة. ولتوقّع كيف ستسير الأمور في الأشهر المقبلة، من المفيد قراءة الدلالات "الكيانية" لمحاولة الانقلاب التركية، وقراءة الآثار التي رتّبتها الأيام القليلة الماضية على المجتمع والمؤسسات التركية، والتي لن تُمحى من ذاكرة الأتراك لوقت طويل. بعيداً عن التحليلات "المؤامراتية" التي تناولت الحدث التركي، وبعيداً عن التحليلات المبنيّة على نسق الصحافة الاستخباراتية (ولكنّها للأسف لم تكن تمتلك معلومات استخباراتية)، حتى الآن، لا يَعرف ما حصل بدقة إلا قلّة من المشاركين في تنظيم محاولة الانقلاب.

دلالات محاولة الانقلاب

اسمان تردّدا كثيراً في اليومين الماضيين لتفسير الحدث التركي: مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، وفتح الله غولين، زعيم حركة "خدمة". الأول ورد اسمه لأنه مرسي قيم الدولة العلمانية، تلك القيم التي تذرّع بها الجيش أربع مرّات للانقلاب على السلطة السياسية؛ والثاني ورد اسمه لأن أردوغان وقادة "العدالة والتنمية" فعلوا ذلك. في الحقيقة، الشخصان ضالعان في محاولة الانقلاب، ولكن بالتأكيد ليس بالطريقة التي تردّدها التحليلات الشائعة، فمصطفى كمال توفي منذ عقود، وغولين قد لا تكون له صلة مباشرة بما حدث. لنبدأ بغولين. غولين ضالع في الانقلاب لأنه صاحب نظرية القوّة التركية الناعمة. خلال عقود انقضت، حاول الداعية الإسلامي الصوفي بناء مكانة لتركيا وللإسلام، أيّ للإسلام التركي، من خلال شبكة واسعة من الجمعيّات الخدماتية والمدارس والجامعات حول العالم. وكان أوّل مَن مدّ النفوذ الثقافي التركي إلى بلاد القوقاز القريبة. عمل غولين كثيراً على ذلك وحذا حذوه "حزب العدالة والتنمية" بين عامي 2002 و2011، حين كانا حليفين وثيقين قبل أن يقع الطلاق بينهما في العام 2013. ولكنّ أردوغان دمّر بعنجهيته وبعثمانيته القاسية كل ذلك الإرث، وفضّل مدّ النفوذ التركي بالسيف وبالتدخلات الفجّة في شؤون الدول الأخرى. وكثيرون في تركيا واعون لذلك، ويعرفون حجم الخسارة الفادحة التي أحاطت بمكانة تركيا. هكذا ضلع غولين في الانقلاب. بإعطائه مثالاً حيّاً على ضرر أردوغان و"العدالة والتنمية". أما أتاتورك فقد كان بدوره ضالعاً في محاولة الانقلاب، أكثر من غولين. وأولى مساهمات أتاتورك في محاولة الانقلاب: نموذجه العلماني الذي يعمل أردوغان وحزبه على تحطيمه بالتدريج. وقد قيل الكثير في هذا الباب ولا داعي للتكرار. وثاني مساهمات مصطفى كمال في محاولة الانقلاب تنبع من تحديده لحدود تركيا ووظيفتها اللذين انقلب عليهما أردوغان. لقد أسس أبو الأتراك تركيا الحديثة على أساس القطيعة مع إرث السلطنة العثمانية التوسّعي. نقّح اللغة التركية من المفردات العربية، وأجبر الأتراك على كتابة لغتهم بالحرف اللاتيني، كتأكيد على فرضه ثقافة الانفصال عن امتداد تركيا العربي. وضع أتاتورك حدوداً لبلاده، وابتعد عن شؤون الآخرين، وعمل على بناء جيش قوي. هذا الإرث صنع الجيش التركي، ثاني أوسع قوّة عسكرية في حلف شمال الأطلسي. رفض أردوغان الحدود التي رسمها الأب، وكانت كلّ سياساته مبنيّة على التوسّع، ووصل به الأمر إلى حدّ إدخال قوّة برية إلى العراق وسوريا. الحدود الأتاتوركية بُنيت على مفهوم عدم التوسّع، وحماية البلاد بواسطة قوّة جبّارة هي الجيش. أما الحدود الأردوغانية المطّاطة فصارت تفرض على الجيش أعباءً إضافية لا طاقة له عليها. وكان الجيش التركي قد امتعض من حادثة إسقاط الطائرة الروسية، لأنّه جزء من لعبة خارجة عن تقاليده، ولا يريد خوض غمارها. يريد أردوغان بناء استراتيجية عسكرية شبيهة بالاستراتيجية التي تبنتها إيران بعد ثورتها الإسلامية، استراتيجية تحمّل القوى العسكرية مسؤولية إدارة عمليات معقّدة وخطيرة في مجموعة من الدول العربية لمدّ النفوذ. ذلك ما لا يريده الجيش التركي فهو يعرف حدود قوة "السلطنة" العسكريّة، ولا يريد خوض مغامرات خاصةً إذا كانت تتضمّن دعم فصائل تقع على حافة العمل الإرهابي، هذا إذا تجاوزنا اتهام "السلطان" بدعم حركات إرهابية.

آثار محاولة الانقلاب

من الأسباب التي جعلت العالم يفاجأ بالحدث التركي، عمل أردوغان خلال السنوات الماضية على إقصاء قيادات عسكرية واستبدالها بأخرى، ونجاحه في ذلك. الآن، وجد أردوغان في محاولة الانقلاب "هبة من الله"، بحسب تعبيره. فقد سمح له انقلاب الساعات القليلة، بتنفيذ ما عجز عنه خلال 14 سنة. أرقام أبناء الدولة الذين استهدفهم أردوغان بعد الانقلاب، فظيعة. خلال يومين، أوقف 7543 مشتبهاً به بينهم 6038 عسكرياً، منهم 103 جنرال وأميرال، و755 قاضياً ومئة شرطي. كما عزل 2745 قاضياً وأقيل 8777 موظفاً في وزارة الداخلية، بينهم 30 مسؤولاً. ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أن أردوغان يريد استبدال ما يسمّيه بـ"الدولة العميقة"، وهي تارة تعني أنصار غولين، وتارةً أخرى تعني قادة الجيش الكماليين، بأنصار "حزب العدالة والتنمية". وهذا يعني أنه يستبدل "عصابة" بـ"عصابة" أخرى، في عملية يمكن وصفها بـ"تطييب تركيا" (نسبة إلى رجب طيّب أردوغان وبالقياس على مصطلح "الأخونة" الذي شاع في مصر). ذلك يعني أن معارضي "حزب العدالة والتنمية" سيضطرّون عاجلاً أو آجلاً إلى مواجهة "الدولة العميقة" الجديدة المتكوّنة من "الطيّبين" (أنصار أردوغان). وكشفت محاولة الانقلاب بشكل واضح أن "تطييب" الدولة كان قد وصل إلى مرحلة متقدّمة في جهاز الشرطة، على الأقل. والآن جارٍ "تطييب" الجيش والقضاء ليسيطر أردوغان على بنية الدولة التركية. ومما كشفته المحاولة أنّ الشعب التركي لم يعد سلبياً في المحطات الكبرى، فهو مستعدّ للنزول إلى الشوارع. ولعلّ ذلك من الآثار الإيجابيّة لحكم "العدالة والتنمية"، وعمله على دمقرطة الحياة السياسية التركية، استجابةً لمعايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ليلة 15 يوليو نزل "الطيّبون" وساهموا في إفشال الانقلاب. وبعد فترة قد ينزل إلى الشارع أنصار الأحزاب المعارضة.

إذلال الجيش

ومن أسوأ آثار استجابة أردوغان لأزمة محاولة الانقلاب تلك الناتجة عن الذهنية التي أدّت إلى ما شهدناه في صور جنود الجيش المُهانين والأذلاء، بالقرب من جسر البوسفور. لقد نجح أردوغان في كسر هيبة الجيش، المؤسسة التي كانت ترعبه خلال سنوات حكمه. ليس الانقلابيون فقط مَن أُهينوا. كل الجيش التركي أُهين بإهانة بعض مرتدي بذلته العسكرية. نار الأزمة التركية حامية الآن، ولا أحد يرغب برفع الصوت في وجه "السلطان". بعد فترة سيذكّر كثيرون أردوغان بأن هذا المشهد القبيح لجنود الجيش هو السبب في هزيمة الجيش التركي أمام "حزب العمال الكردستاني" من هنا، وأمام "داعش" من هناك، وأمام كيان ثالث (معارض) ستحدِّد التطوّرات اسمه. ولكن هذا لن يمرّ مرور الكرام. صحيح أن أردوغان سيعمل بكلّ ما أوتي على "تطييب" الجيش التركي، لكن للمؤسسات تقاليدها التي لا تموت وتتحوّل إلى نبع يمكن أن يُنهل من قيمه، لا بل من أساطير تؤسَّس عنه لاحقاً. وستقف تلك القيم والأساطير في مواجهة "حزب العدالة والتنمية" عاجلاً أو آجلاً. وسيروي ذلك النبع أرضاً خصبّة من الجنود المكلّفين بـ"شرف" حماية الوطن، والذين يعانون في الداخل من نظرة سلبيّة مشكّكة في ولائهم (بعكس النظرة إلى عناصر الشرطة الذين عادةً ما ينظر إليهم الجنود على أساس أنّهم في مرتبة أدنى من حيث الأهمية). متى سيقع الانقلاب التركي المقبل؟ عندما تتضافر العوامل أعلاه في المؤسسات وفي الأحزاب المعارضة. ويستطيع أردوغان أن يلعب دور العنصر الذي يمنع ذلك بانفتاحه على معارضيه. لكنّه قد يكون أيضاً العنصر الذي يعجّل في ذلك، ليس عبر ممارسة القمع المضاعف بالضرورة، بل بمجرّد الاستمرار بعنجهيّته التي اتّسمت بها تصرّفاته قبل محاولة الانقلاب.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard