شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"ميدوسا" التسميم والإغواء: الأسطورة التي حوّلت الرجال إلى حجر عبر القرون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 30 يناير 201910:18 م

نشهد حالياً انتفاضة نسائية على العقلية الذكورية التي سادت مجتمعاتنا لفترةٍ طويلةٍ، فقد بات للنساء "صوت" يستخدمنه بقوةٍ للدفاع عن قضاياهنّ وللمطالبة بحقوقهنّ التي لطالما حُرمن منها بفضل الأنظمة المتحيزة المترسخة في أذهان الكثيرين. ومن خلال العودة إلى الماضي، يمكن التوقف عند بعض الأخلاقيات والعبر الكامنة وراء القصص القديمة التي تناقلتها الشعوب عبر التاريخ، سواء أكانت روايات حقيقية أم أساطير خالدة، فمنها يمكن أن نسلّط الضوء على شجاعة بعض النساء ودورهنّ الفاعل في إحداث تغييرٍ حقيقي في مجتمعاتهنّ، ومن أبرز هذه النماذج: ميدوسا. فماذا يمكن أن تخبرنا أسطورة "ميدوسا" عن تصورات ومفاهيم القوة والنزعة الجنسية من العصور القديمة إلى اليوم؟

نظرة "ميدوسا" القاتلة

على جدران غاليري أوفيزي في فلورنسا، تصور لوحة من تصميم "كارافاجيو" (Caravaggio) مخلوقاً أنثوياً مع ضفائر كثيرة على شكل ثعابين. كان موضوع الصورة مهيباً ومروعاً لدرجة أن الشاعر "غاسباري مورتولا" في القرن السادس عشر كتب ذات مرة عن الأنثى في اللوحة: "اهرب، لأنه إذا كانت عيناك مرعوبتين من منظرها، فسوف تحولك إلى حجر". بأسنانٍ بارزةٍ، وضفائر شعر على شكل ثعابين صغيرة، ورأس مقطوع لا يزال تتدفق بالدم، تم التقاط هذه الصورة في اللحظة التي تدرك فيها أن روحها قد انفصلت عن جسدها، إنها بالطبع ميدوسا. فمنذ أيّام الحضارة الغربية القديمة، عندما كانت الأساطير تركز على النار والحجارة، فتن المجتمع بالخيال اليوناني القديم، إذ تمتلئ القصص الشعبية بحكايات الآلهة والجبابرة العمالقة، في حين أن مجموعة متنوعة من الوحوش الأسطورية جذبت المشاهدين على الشاشة الكبيرة، ومع ذلك لا توجد شخصية نسائية تتمتع بشعبيةٍ مثل ميدوسا، هذا الوحش الذي يمكن أن يحول أي شخصٍ إلى حجرٍ بنظرةٍ واحدةٍ.

فمن هي هذه الشخصية القوية والغامضة وكيف تحولت إلى أيقونة للشرّ النسائي؟

إنها واحدةٌ من الأخوات الثلاث الملقبات بالغُرغونة (Gorgons)، كانت ميدوسا آلهة يونانية عذراء تتمتع بجمالٍ ساحرٍ ومعروفة بـ"نقاوتها"، الأمر الذي جعل كل رجل يشتهيها. وبعد أن اكتشفت أثينا، إلهة الحكمة والحرب أن ميدوسا أُرغمت على ممارسة الجنس مع إله البحر بوسيدون في معبدها المقدس، قررت تحويل هذه الأنثى الجميلة إلى مخلوقٍ بشع: فقد حولت شعرها الكثيف إلى ثعابين ملتوية، وأصبح جلدها أخضر اللون وعيناها ثاقبتين لدرجة أن من ينظر إليهما يتحول تلقائياً إلى حجر. وبالتالي أصبحت ميدوسا من أكثر المخلوقات إثارةً للرعب في اليونان القديمة، وكان الجميع يتجنبها، الأمر الذي قادها إلى الفرار والاختباء في إحدى الجزر. وبعد وقتٍ قصير من اختبائها في الكهف، قام بيرسيوس، البطل الإغريقي والملك ابن الملوك، بلعب دور البطولة من خلال قطع رأس ميدوسا وتقديمه لأثينا التي قامت بوضعه على درعها كنوعٍ من الحماية. ومن خلال هذا السرد، نجد أن البطولة في هذه الأسطورة تمركزت حول الملك البطل، بينما أصبحت ميدوسا رمزاً للوحشية والبشاعة.
أسطورة "ميدوسا" قد عانت جزئياً بفضل شهيتنا المتنامية للروايات الكبرى عن السحر، والتي غالباً ما تدور حول الإغراء الخطير للإناث، بحيث أصبحت ميدوسا الآن "صورة متعددة الرمزيات للتسميم، والدمار والإغواء"
في الآونة الأخيرة تم تشبيه أنجيلا ميركل، وتيريزا ماي وهيلاري كلينتون بميدوسا، بحيث تم تصويرهنّ على شكل رؤوسٍ دمويةٍ: لا زال علينا مقاومة الكراهية ضد النساء لأنها شوهت المجتمعات عبر العصور

تطور مفهوم النظر إلى الأسطورة

من شخصيةٍ شريرةٍ في الفيلم الكرتوني The Powerpuff Girls، إلى نقدٍ جارحٍ لرئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في أغنية Madam Medusa لفرقة UB40، تتواصل أسطورة ميدوسا في ثقافة البوب المعاصرة. واللافت أنه على مدى العقدين الماضيين، عادت هذه الشخصية إلى الظهور باستمرار في السينما بشكلٍ مثيرٍ للاهتمام، بحيث قدمت عارضة الأزياء "ناتاليا فوديانوفا" أداءً مبهراً في فيلم Clash of the Titans ، في حين قدمتها أوما ثورمان كشخصيةٍ مغريةٍ في فيلم Percy Jackson and the Olympians: The Lightning Thief ، حتى أن دار فيرساتشي وجدت الإلهام في "غورغون" إذ صنعت اللوغو الخاص بها في النسخة الجميلة pre-curse وذلك في قلب شعارها الأيقوني، بحيث تجلس ميدوسا مع خصلات شعرها المليئة بالثعابين وتكون محاطة بحلقة مفاتيحٍ يونانيةٍ.  

في كتابها Literature and Fascination، تعتبر الروائية "سيبيلي باومباخ" أن الأسطورة قد عانت جزئياً بفضل شهيتنا المتنامية للروايات الكبرى عن السحر، والتي غالباً ما تدور حول الإغراء الخطير للإناث، بحيث أصبحت ميدوسا الآن "صورة متعددة الرمزيات للتسميم، والدمار والإغواء"، وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في عملية البحث السريع في "غوغل"، إذ تتراوح معظم صور ميدوسا ما بين شكل امرأةٍ فاتنةٍ ومغرية أو رأسٍ مقطوعٍ يقذف الدم. وهنا يبرز السؤال التالي: كيف اختلفت طريقة النظر إلى أسطورة "ميدوسا" عبر العصور والحقبات التاريخية؟  إذا عدنا إلى العصور القديمة اليونانية، نلاحظ أن "ميدوسا" كانت تتمتع بقوةٍ جبارةٍ وقد استخدم النحاتون والرسامون رأس ميدوسا كرمزٍ لدرء الأرواح الشريرة، لكن جمالها المأساوي كان أكثر إلهاماً. وبحلول عصر النهضة، صوّر تمثال "سيليني" البرونزي في العام 1554، بيرسيوس وهو يقف منتصراً على جسد ميدوسا ورأسها مقطوع ومعلق، في سياق لعبةٍ سياسيةٍ تعكس قوة عائلة ميديشي الشهيرة على فلورنسا. تنعكس الصورة مع قيام الثورة الفرنسية، حيث أصبحت ميدوسا قوةً للتغيير، بحيث أظهرها المتمردون على أنها شعار "الحرية الفرنسية"، مما أدى إلى تحويل الرمز الشيطاني إلى وسيلةٍ لتقويض المؤسسات، وفي هذه الأثناء، تحوّل الرومانسيون على غرار الشاعر شيلي إلى أبعد مما تصوره البعض في القرن التاسع عشر، حيث استلهم الكثير من ميدوسا لدرجة أنه كتب قصيدة عنها، مما ألغى الإطار "البطريركي" الذي جعل ميدوسا رمزاً للرعب. وعليه اعتبر موقع Vice أنه بمجرد التخلص من النظرة الذكورية المخيفة، يمكننا استعادة "فضيلة" ميدوسا و"إشعاعها" هذا بالإضافة إلى استعادة سماتها البشرية من جديد.

الخوف من الأنثوية

يمكن أن نعيد جذور الكراهية تجاه النساء إلى العصور القديمة، وفق ما أكدته ماري بيرد في كتابها Women & Power: A Manifesto. فمن خلال هذا الكتاب، طرحت "بيرد" موضوعاً لطالما اضطرت المرأة إلى التعامل معه لمئات السنين: "الفصل الراديكالي" بين النساء والسلطة، وكيفية تهميش النساء وإسكاتهنّ، بدءاً من ميدوسا وصولاً إلى السياسية اليزابيث وارن، مشيرةً إلى أن "ميدوسا" تبقى رمزاً للمرأة الشريرة التي يجب هزمها من أجل استعادة توازن القوى. وبدورها أكدت الناشطة النسوية هيلين سيكوس في مقالها "The Laugh of the Medusa"، أن الرجل خلق إرثاً شنيعاً لميدوسا نتيجة الخوف من "الأنثوية": "إذا تجرأ الرجال ونظروا إلى ميدوسا مباشرةً، فإنهم سيرون أنها ليست قاتلة، إنها جميلة وهي تضحك". من السهل معرفة السبب وراء الصدى الواسع لمقال هيلين سيكوس: قصة امرأة قوية تم اغتصابها، ثم قتلها من قبل "المجتمع الأبوي". وعليه يبدو أن الأمر هو أكثر من مجرد قصة أسطورية قديمة بل قصة معبرة تحكي عن واقعنا الحديث وتقدم لنا الكثير من الدروس الحياتية. فقد اعتبرت "إليزابيث جونستون" في مقالتها "The Original Nasty Woman"، أن الطريقة التي عادت بها ميدوسا إلى الظهور في الجولات الانتخابية تشير إلى انتشار الكراهية ضد النساء: ففي الآونة الأخيرة تم تشبيه أنجيلا ميركل، وتيريزا ماي وهيلاري كلينتون بميدوسا، بحيث تم تصويرهنّ على شكل رؤوسٍ دمويةٍ.

لم يعد ينظر إلى ميدوسا على أنها وحش بل إن وقوعها ضحية الاغتصاب حوّلها إلى رمزٍ للغضب النسوي

بمعنى آخر أوضحت جونسون أنه كان يتم استخدام "ميدوسا" كنموذج لـ"شيطنة" القيادات النسائية، خاصة عندما "تشعر السلطة الذكورية بأنها مهددة من قبل القوة النسائية". في هذا الصدد، اعتبر موقع speakertv أن ميدوسا لم تكن هذا الكائن الشرير الذي نتصوره والتي جسدته الأساطير من خلال حكايةٍ بشعةٍ مشبّعة بالغيرة والاضطهاد، بل تعكس قصة ميدوسا الحياة الواقعية التي تعيشها مئات النساء اللواتي قاسين العذاب وتمت معاقبتهنّ إثر الاعتداء الجنسي الذي تعرضن له، شارحاً ذلك بالقول: "ففي وقت يزداد فيه الوعي بشأن حقوق المرأة وقضاياها، أعيد النظر في أسطورة ميدوسا من منظور عالمٍ يتحدث بلغة المساواة بين الجنسين وثقافة الاغتصاب والتمييز الجنسي... وبالتالي لم يعد ينظر إلى ميدوسا على أنها وحش بل إن وقوعها ضحية الاغتصاب حوّلها إلى رمزٍ للغضب النسوي". إذاً من الواضح من وجوه ميدوسا المتغيّرة أنه لا توجد حقيقة عالمية لأسطورتها، فهي "ضحية جميلة، شريرة بشعة، إلهة قوية، إنها كل تلك الأشياء، وأكثر من ذلك، ولعلّ طبيعتها المتغيّرة هي التي تجعلها مصدراً لا ينضب من الانبهار، وهي إلى حدٍّ ما، موضع إسقاطاتنا الجماعية المتعلقة بالخوف والرغبة: فهي في الوقت نفسه رمز لغضب المرأة وشخصية تظهر التحيز الجنسي من قبل القوى الذكورية التي تسعى إلى الانتقام منها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard