شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
عن حياة الشارع لذوي القدرات الذهنية المحدودة

عن حياة الشارع لذوي القدرات الذهنية المحدودة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 1 فبراير 201810:05 ص
لم يبالِ بزخات المطر التي هطلت على شعره الأبيض.ملابسه رثة ومتسخة، ولحيته طويلة غير مهذبة. تحت المطر يمشي بحثاً عن لقمة العيش، لا يكثرث لشيء، وفي عينيه دمع مكتوم. لكنه لا يهطل مع حُبيبات المطر. يمر حافياً بجوار مصب عمومي للمياه فيغسل وجهه وينظف لحيته، وقدميه ثم يتابع التجوال متنقلاً من مكان إلى آخر حتى يحل المساء، فيفترش الرصيف وينام. سكان حي الزيتون بالقاهرة الذي يمضي فيه مصطفى (وهو ليس اسمه الحقيقي) يومه، يقولون إنه لم يتجاوز الخامسة والخمسين من عمره. يروي الجيران قصته، أما هو فلا يستطيع نسج جمل مفهومة. لم يكن يعاني من مشكلات صحية أو نفسية، إلى أن توفيت زوجته وفقد عمله. حاول أقاربه إيداعه مستشفى أمراض عقلية مقابل مبلغ شهري، ولكن عجزوا عن تسديد المستحقات فطرده المستشفى. ولا مكان له في مستشفيات الأمراض العقلية الحكومية المجانية أو التي تحصل على مبلغ زهيد مقارنة بالمستشفيات الخاصة. هو واحد من حوالى 700 ألف من ذوي القدرات الذهنية المحدودة والحاجات الخاصة الذين يسكنون شوارع القاهرة، بحسب تحقيق أجرته صحيفة الأهرام المسائية المصرية عام 2011، حيث يظهر واضحاً عليهم قصور ذهني واضح. لا يجدون مصحات نفسية يقصدونها، وقد اصطلح على تسميتهم "مجانين الشوارع". تلتصق بهم صور نمطية سلبية يرجع كثير منها إلى ما تتداوله الصحف من أخبار جرائم ارتكبها بعضهم، وتصفهم بأنهم "مختلون عقلياً". فهناك خبر عن قتل أحدهم كاهن كنيسة المرج في القاهرة في شهر أكتوبر من عام 2017. وفي الشهر نفسه، أقدم شاب يُعاني من اضطرابات نفسية وعقلية في محافظة دمياط المصرية على قتل والده بآله حادة. أما في مارس من العام نفسه فقد قتل آخر أمين شرطة بطعنة نافذة في الرقبة في محافظة أسيوط، إحدى محافظات صعيد مصر.
قرابة 700 ألف من ذوي القدرات الذهنية المحدودة والحاجات الخاصة يسكنون شوارع القاهرة
يقول مصدر أمني رفض الإفصاح عن اسمه وصفته، أن عناصر الأمن يتعرضون في عملهم لهذه الحالات كثيراً، وكثرٌ منهم يكونون متهمين بشكل واضح في جرائم يصعب التحقيق فيها أو تحري حقيقة تورطهم في الأمر من عدمه، فيُعتمد بشكل أساسي في هذه الحالات على شهود عيان، ويكون قرار النيابة إيداعهم في أحد المصحات العقلية أحياناً تحت حراسة مشددة حين تكون الجريمة كبيرة أو قد تكرارها. يتابع المصدر في يأس: "نحن لا نستطيع أن نفعل معهم أي شيء آخر".

يضيق بهم الأقارب

يقول طبيب للأمراض العقلية في مستشفى العباسية للأمراض النفسية – رفض كشف اسمه - أن مرضًى عقليين يُطردون من المستشفيات الخاصة لأن ذويهم لم يستطيعوا دفع ما يتوجّب عليهم. أما في المستشفيات الحكومية، فلا مكان لهم، والموجودون فيها لا يحصلون على أي رعاية أو علاج، وربما يُعاملون معاملة صعبة وقاسية فيهربون منها. ويؤكد هذا التصريح الصحافي للدكتور أحمد حسين، المختص بالصحة النفسية والناطق باسم جبهة الدفاع عن مستشفى العباسية للأمراض النفسية، خلال اليوم العالمي للصحة النفسية العام الماضي، أن المرضى النفسيين والعقليين المصريين يقترب عددهم من نحو ثمانية ملايين شخص، منهم من يحتاج إلى الحجز في المصحات، ومنهم من تقتصر حاجته على استمرار المتابعة والرعاية في العيادة، وأن الأسرّة المتوافرة نحو 6650 في مستشفيات الصحة النفسية المختلفة، والتي يُقدر عددها بـ18 مستشفى ومركزاً، إضافة إلى 5 مشاريع قيد الإنشاء منها، بينما تحتاج مصر بواقع عدد المرضى، إلى 16600 سرير . ترى الدكتورة ريم سليمان الأستاذة في علم الاجتماع، أن المجتمع بحاجة أكثر إلى إعادة تأهيل، في نظرته إلى أصحاب القدرات الذهنية المحدودة، وتقول: "نحتاج ربما إلى مبادرة اجتماعية قوية وضخمة تعوض ما فشلت فيه المؤسسات الحكومية في توفير المأوى والأماكن المؤهلة للتعامل المناسب مع هؤلاء". وتنتقد الوضع الراهن الذي نجد فيه أن جميع المؤسسات، بداية من الأسْرة إلى المؤسسات الحكومية، تعلن كامل تبرؤها منهم وتتركهم للشوارع تتعامل معهم بكل هذه القسوة ويتعاملون معها بقلة الحيلة.

خلل عقلي بعد الأربعين

لا تختلف حالة مصطفى كثيراً عن حالة سلوى (ليس اسمها الحقيقي) التي ظهرت عليها آثار الخلل العقلي بعد بلوغها الأربعين، فأصبحت عاجزة التحكم في انفعالاتها، وكثيراً ما فتحت نافذة منزلها لتصرخ بلا سبب. لم تتزوج سلمى، وعاشت مع شقيقها الطبيب الشاب الذي ضاق ذرعاً بها بسبب الحرج الذي تسببه له أمام الجيران، وهو الأمر الذي اعتبره الأخ الشاب فضيحة، لم يفلح معها ضربه المستمر لها لكي تتوقف عن هذه العادة، ولم يفلح معها إغلاقه شبابيك المنزل كلّها بإحكام بالغ، ولم تستطع الخادمات اللاتي أتى بهن إلى المنزل لمحاولة رعايتها، تحملها أو التعامل معها. هذه التفاصيل ترويها مديرة الدار الذي تقيم فيه حالياً. يقول الدكتور حسام عبدالله المعالج النفسي أن الدول العربية تُعدّ من أسوأ الأماكن في التعامل مع المرضى النفسيين وذوي الأمراض العقلية والعصبية. والأمر الغريب بالنسبة إلى عبدالله أن نسبة لا يستهان بها من سكان تلك الدول تعاني من اضطرابات سلوكية ونفسية سواء اعترفت بذلك أم لا – وبحسب عبدالله -  أن هذه المجتمعات تسيء التعامل مع المرضى النفسيين حتى تسوء حالتهم، ويُتركون في الشوارع يتعرضون لإهانات كثيرة قد تتسبب في ارتكابهم جرائم قتل لأن ردود أفعالهم تكون انفعالية إلى درجة كبيرة، ثم بعد كل هذا نُحملهم وحدهم المسؤولية كاملة. يضيف عبدالله: "بعد ذلك، يصبح ذوو هؤلاء غير قادرين على رعايتهم أو العناية بهم أو تحمل المسؤولية المادية لعلاجهم، فينتهي الأمر بهم في الشوارع بلا ملجإ ولا مأكل". في حالة سلوى، يقرر الأخ  إيداعها إحدى دور المسنين، مقابل مبلغ شهري، رافضاً إيداعها إحدى مصحات الأمراض النفسية أو العقلية، حفاظاً على اسمه ومهنته. وعكس جميع الخطوط التي حاول الأخ رسمها، كانت سلوى تهرب من الدار لتمضي أياماً عدة في الشارع لا يعرف أحد عنها شيئاً، تنام على الأرصفة وتسير بلا وجهة محددة في الشوارع طوال النهار، حتى يتمكن شخص من إيجادها وإعادتها إلى الدار بعد أيام وربما أسابيع من الحياة في الشارع، وفق ما تقول إدارة الدار، شأنها في ذلك شأن آلاف في مثل حالتها وجدوا الشارع على الرغم من الصعوبات التي تواجههم ملجأ أقل قسوة من سواه
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard