شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
تهجير بلاد النوبة... نوبيون يروون خروجهم من

تهجير بلاد النوبة... نوبيون يروون خروجهم من "الفردوس"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 20 فبراير 201802:45 م

استغلت الحكومات المصرية المتتالية في القرن العشرين، سماحة النوبي التي استمدها من العيش جوار النيل وفي أرض خضراء، يصفها أغلب النوبيين بالفردوس على الأرض، ففرضت التهجير عليهم وأجبرتهم على الانتقال من مساكنهم أكثر من مرة لإنشاء مشاريع قومية محلها.

تمتد أرض النوبيين من شلال مدينة أسوان حتى مدينة مروي بالقرب من الشلال الرابع في السودان، وتعود أصولهم إلى مملكة كوش (القرن الثامن ق.م.) والأسرة الفرعونية الـ25.

تعرّض النوبيون للتهجير مرات عدة، ليس فقط تهجير 1964 إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. البداية الحقيقية كانت تهجير عام 1902، لبناء خزان (سدّ) أسوان في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني بهدف الحفاظ على مياه النيل لتنمية صناعة الغزل والنسيج.

لم يعاصر رمضان أوش الله (77 عاماً) من قرية توشكى، التهجير الأول عام 1902، لكن أجداده رووا له ما حدث. يقول: "كنا نعيش جوار النيل نأكل ما نزرع، كانت هناك زراعة برتقال وتفاح وبلح ودوم وخضروات. ولم نهتم بالمعاملات المالية، كنا نقايض فاكهة وخضروات وغير ذلك".

استمر الأمر على هذا الحال حتى أرادت الدولة إنشاء خزان أسوان، وبدأت التجهيرات دون مفاوضات مع النوبيين أو حتى تعويضهم عن الأضرار المفترض التعرض لها نظير غرق 10 قرى. "وضعونا في المواجهة: إما أن نترك قرانا أو نغرق"، تابع أوش الله.

بعد غرق قراهم، لم يملك أجداد أوش الله حلاً إلا الصعود أعلى قليلاً من قراهم الواقعة على ضفاف النيا نحو الصحراء، وخلق حياة جديدة.

ويروي أوش الله: "تكررت نفس المأساة بعد قرار تعلية الخزان عام 1912، ولم نستطع المقاومة أو الرفض. بعض القرى استطاعت بناء بيوت من جديد، وهُجرت ثماني قرى قسرياً إلى الأقصر وأسوان".

لم يعوّض أحد حينها على أهالي هذه القرى.

رخاء ورفاهية

"في النوبة القديمة، كان كل النوبيين يملكون فدانين عدة من الأراضي الزراعية تنتج محاصيل طوال العام. أقل فرد وقتذاك كان يملك خمسة فدانين، وداخل بيته أساسيات العيش من لبن ولحم وقمح وبلح، لذلك لن تجد بغضاء أو حقداً على الآخر ولا حسداً، لأننا كنا نملك فائضاً كبيراً لأسس العيش"، قال أوش الله.

ويقول تيجاني العمدة، في عقده السابع، من قرية بلانة لرصيف22: "كنا نشتري أي شيء من محال البقالة بالدين، وبعد موسم الحصاد نسدده من المحصول ومن ثم يبيع التاجر هذا المحصول لدى التجار في القاهرة والإسكندرية". ويضيف: "أما نحن فكنا نتبادل المحاصيل والغلة، كما التجارة البدائية الأولية. كلنا كنا أسرة واحدة".

ويتابع: "النخلة كانت تسمى راجل (رجل) البيت قديماً، الراجل كان ممكناً أن يترك البيت وفيه نخل، محصول هذا النخيل ينفق على البيت" مشيراً إلى أن النخلة كانت من أجود أنواع النخل في العالم، بسبب ريها بمياه النيل النظيفة.

طقوس نوبية

يقدس أهل النوبة النيل بشدة، وهو ما يراه زائر أسوان وبلاد النوبة. يقول عز الدين محمد، 68 عاماً، من قرية توشكى، لرصيف22: "نظراً لقرب البيوت من النيل في النوبة القديمة كانت هناك عادة عند ولادة أي طفل: كان يغسل وجهه بماء النيل كنوع من المباركة. أما في الأفراح فكان العريس يذهب إلى النيل بزفة ويغسل جسده بمياهه ويرتدي ثياب العرس ويذهب إلى عروسه".

وذكر: "إذا أصيب شخص بحمى في النوبة القديمة كنا نغطي جسمه بطمي النيل حتى تعود درجة حرارته إلى طبيعتها".

"وعندما يأتي مولود في النوبة القديمة يزرع له الأب نحو 10 نخلات لتأمين مستقبله ويكون لدى الابن ممتلكات، ويبني له تحت هذا النخل مزرعة صغيرة فيها خضروات مثل الملوخية والبامية"، قال تيجاني العمدة.

وتابع: "وعندما يرغب شاب في الزواج، كان يأخذ 100 متر ملاصقة للبيت الأساسي ويبني بيتاً، وتظل أسرة واحدة بها جد وأب وحفيد، أما الآن لا نملك إلا أمتاراً قليلة نعيش فيها، لذا يضطر الأبناء إلى الزواج في مسكن بعيد".

التهجير الثالث

يسرد والد أوش الله له كيف واجه أجداده مأساة التهجير الثالثة، عام 1933. يقول: "كل مرة، كنا نصعد في الصحراء ونبتعد قليلاً عن النيل، وكنا نبني بيوتنا من جديد بالإضافة إلى نقل الحيوانات وأخذ ما نقدر عليه من محاصيل، إلا أن الأمر أصبح مرهقاً. كيف نبني قرى جديدة كل بضع سنوات؟".

في موجة التهجير الثالثة، صعد أهالي 10 قرى نحو الصحراء لبناء القرى من جديد، لكنهم ظلوا قريبين نسبياً من النيل.

بحسب روايات النوبيين، لم يعش طفل ولد في تهجير عام 1964... عن فردوس بلاد النوبة المفقود
نوبيون يتذكرون طبيعة بلادهم التي هُجّروا منها وعاداتهم القديمة وحياتهم في "فردوس" يحنّون للعودة إليه

تهجير 64... خدعة البيت النوبي

ظنّ النوبيون أن تهجيرهم انتهى مع انتهاء الفترة الملكية، لكن تكرر المشهد في 1954 عندما قررت الحكومة المصرية التخطيط لبناء السد العالي في أسوان لتوفير فائض مياه وتوليد الكهرباء باتفاق مع الحكومة السودانية. وبدأت عملية التهجير في أكتوبر 1963 وانتهت في يونيو 1964.

"ألقى عبد الناصر في مدينة أبو سمبل، خطابه الشهير عن السد العالي ووعد بعودة النوبيين بعد ثبات منسوب مياه النيل عقب بناء السد، أو بعد مرور 10 سنوات من بنائه، لكن حتى الآن لم نعد"، يقول أوش الله.

عاصر العمدة مواقف للحكومة المصرية قبل بدء التهجير. يقول: "استخدمت الحكومة حيلة مخابراتية عام 1962. أرسلت أشخاصاً لافتعال أزمات بين النوبيين، على سبيل المثال سرقة محصول من شخص ووضعها في بيت آخر، أو أخذ شيء من محل بقالة ووضعه في مكان آخر، لاختبار رد فعل النوبيين في المشاكل، وعندما وجدوا النوبي مسالماً، قالوا: دول ناس طيبين مش هيعترضوا أثناء التهجير".

وبحسب رواية أوش الله التي يقصها بضحكة ساخرة: "صممت الحكومة المصرية نموذجاً لبيت على ضفاف النيل بجوار مستشفى الصدر في أسوان، يحتوي على جميع الخدمات من صرف صحي وتمديدات مياه وكهرباء، وكانت مساحة البيت تقترب من بيوت النوبة الأصلية ومطلاً على النيل وبجانبه حظيرة مواشٍ، واجتمعت وزيرة الشؤون الاجتماعية حينها حكمة أبو زيد مع عمد ومشايخ القرى لعرض نموذج البيت فما كان منهم إلا الموافقة".

كان تعداد النوبة قبل تهجير 1964 نحو 98609 نسمة، وبينهم كان يعيش مغتربون من مناطق مصرية أخرى ودول عربية قدروا بنحو 50581 نسمة. حسب كتاب هجرة النوبيين لحسن دفع الله.

من الدار إلى النار

"في يوم وليلة تم جمع أهل النوبة بداية من بلانة، وخلال أربعة أيام جرى نقل أغلب السكان، حتى الفئة الرافضة للتهجير. لا يوجد مفر، فالمياه ستغرق البيوت. لم يبق أحد"، حسبما قال محمد، مضيفاً: "خلال عملية النقل لم نستطع جمع كل ما نملكه بسبب ضيق الوقت. كانت عملية النقل غير آدمية إطلاقاً، شحنونا في صنادل البهائم".

صممت الحكومة المصرية إبان عملية النقل عام 1964 قرى بنفس أسماء القرى النوبية المُهجّرة في سهول كوم أمبو وبلغت نحو 44 قرية على مساحة 350 كيلومتراً، ولم يبق أحد في القرى النوبية المهجرة بسبب غمر المياه كل أرجائها، ووسمت القرى الحديثة بأسماء القرى القديمة وحملت نفس ترتيب المنازل.

يقول أحمد الشيخ، 77 عاماً، من قرية بلانة، إنهم انتقلوا إلى بلانة (الجديدة) ولم يجدوا أية مظاهر للحياة الآدامية. "المياه كانت تأتي في براميل حتى نشرب. كنا نأكل الدوكة (خبز نوبي يصنع على صاج معدني). وكنا نجمع بقايا الورق من مخلفات مواد البناء لنصنع موقد نار".

"بعد التهجير تعرّض عدد كبير من أهالي النوبة إلى صدمة نفسية وعصبية، بعضهم لم يخرج من البيت حتى توفي". قال الشيخ.

لم يعش طفل ولد عام 1964

بسبب ظروف النقل وتغيير المكان توفي نحو 1500 طفل نوبي أثناء التهجير وبعده، بحسب روايات النوبيين، ودفنوا في مقابر الشفعة. يقول الشيخ: "جميعهم من كل القرى التي هُجّرت، كل مواليد عام 1964 ماتوا".

ويقول العمدة: "إحنا حظنا وحش لأن التهجير حدث في الظلام قبل ثورة الانفتاح والإنترنت والتلفزيون اللي لو كانت موجودة العالم كان هيعرف الجريمة الحقيرة الي حدثت بحق النوبيين".

النخلة بـ10 قروش للنوبي المصري

خلال عملية بناء السد العالي، كان ضرورياً تهجير بعض أبناء مدينة حلفا النوبية السودانية نظراً لتخزين مياه النيل. يقول الشيخ: النوبي السوداني نال تعويضات مناسبة، لكن الحكومة المصرية كالت بمكيالين. التعويضات كانت تصل إلى 10 قروش عن نخلة للمصري مقارنة بـ150 قرشاً للنوبي السوداني، الذي حصل على حواشة (تحوي 15 فداناً للأسرة) أما النوبي المصري وأسرته فاستلم فدانين.

هُجّر أهل مدينة حلفا وجوارها في السودان إلى مدينة خشم القربة شرق السودان، وبنى السودان 25 قرية جديدة ليسكنها المهجرون.ويقول هشام جمال، أستاذ الجغرافيا في جامعة أسوان: "دفعت الحكومة المصرية للجانب السوداني تعويضات عن ترحيل 109 قرى نوبية في مدينة حلفا إبان إنشاء السد العالي عام 1964".

ضياع هوية وثقافة

يشير الشيخ إلى أن عملية التهجير أثرت على تداول اللغة النوبية بين النوبيين، فغالبية الشباب من الجيل الحالي يفهم اللغة النوبية لكن يصعب عليه الرد بها وإذا تحدث بها يقول مفردات بسيطة، ويستعين بالعربية، وهذا بسبب الاحتكاك بقبائل وتجار يتعاملون باللغة العربية يومياً.

تأثر أهل النوبة بعد التهجير بتغيرات مناخية مختلفة عما كانوا فيه سابقاً، فالمنازل التي صممتها الحكومة بنيت على طراز مختلف عن الثقافة النوبية (بالطوب الأبيض وليس بالطيني الذي يمتص درجات الحرارة)، ووجدوا أنفسهم بين جبال رملية وتربة ناشفة (رملية تنتفخ بمجرد تعرضها للمياه) عكس الحياة بجوار النيل.

نتيجة ذلك، نزح بعض النوبيين إلى القاهرة والدول العربية والأجنبية بحثاً عن عمل، وارتفعت كثافة النوبيين في المدن الرئيسية في مصر مقارنة بوجودهم فيها قبل تهجير 1964.

لماذا يريد النوبيون العودة؟

على الرغم من غمر مياه بحيرة ناصر الاصطناعية خلف السد العالي، واندثار أغلب مدن النوبة المهجرة، فإنهم يطالبون بالعودة إلى أقرب نقطة لقراهم على ضفاف النيل.

يحنّون إلى إعادة بناء قراهم، ويرون أن النوبة هي جذورهم والنيل أصلهم. لكن الملف النوبي لم يفتح إلا عام 1979 في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذي كان يسعى لإعادتهم، وأسند ملف العودة إلى وزير الإسكان وقتذاك حسب الله الكفراوي.

ويقول محمد إنه بعد وفاة السادات عام 1981، ذهب وفد نوبي إلى الكفراوي للتعرف على مجريات الأمور وما سيحدث في شأن عودتهم فرد عليهم قائلاً: "أبوكم إللي كان هيرجعكم مات"، ومنذ ذلك الحين أغلق ملف النوبة لدواعٍ "أمنية".

ما المانع؟

يقول أستاذ الجغرافيا بجامعة أسوان، لرصيف22: "الأراضي انتزعت بموجب القانون رقم 67 لسنة 1962 المعني بنزع ملكية الأراضي التي تغمرها المياه. والآن النظام منح أراضي النوبة لغير مستحقيها، والجزء الغربي طرح على رجال أعمال غير مصريين للاستثمار".

وبحسب جمال، فإن النظام المصري يرى أن استثمار أرض النوبة أنفع له من عودة النوبيين إليها.

وتقول وفاء عشري، ناشطة نوبية، إن الدستور المصري أقر في المادة 236 بحق عودة النوبيين إلى قراهم خلال 10 سنوات منذ 2014، ومرّت أربع سنوات منذ ذلك، ولم تتخذ الدولة أية خطوة لتنفيذ هذه المادة.

وتضيف لرصيف22: "فوجئنا بصدور القرار 444 عام 2014 والخاص بتعيين الحدود المصرية وبأنه يقتطع ثلثي الأراضي المخصصة لعودة النوبيين لإنشاء مشروع المليون ونصف المليون فدان زراعي، فما كان منا إلا تنظيم قافلة نوبية للذهاب إلى القرى القديمة لإعلان المطالبة بوقف بيع أراضي خورقندي النوبية في منطقة توشكى".

وترى أن الحكومة تماطل في عملية العودة على الرغم من طرح كل الأفكار على طاولة المناقشة.

وعلى الرغم من عدم توفر إحصاء حديث يرصد أعداد النوبيين حالياً، فإن المركز القومي للتعبئة والإحصاء قدّر عددهم داخل مصر بنحو مليون و600 ألف، إلا أن عشري تعتبر أن العدد قد يصل إلى ثلاثة ملايين.

يعتبر النوبيون أن أرضهم الممتدة من جنوب مصر حتى منتصف السودان وطنهم الكبير، وقسماها المصري والسوداني يرتبطان بعلاقات متماسكة ووطيدة ونسب ولا يرون في انقسام الدولتين في خمسينيات القرن الماضي، سوى تقسيم سياسي وإداري لا أكثر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard