شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"الغولم" في التراث اليهودي: قصة كائن طيني سحري متحرك

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 20 يناير 201710:54 ص
أن يحاكي الإنسان صنيع خالقه، ويجمع كتلة من الطين، ويحاول بثّ الحياة فيها، والحركة، من دون النطق، وأن يحدث ذلك باكتشاف سرّ الأحرف والأعداد والمزاوجة بينها، وإضافة بعض الطلاسم، فهذا هو مبحث "الغولم"، الذي حفر عميقاً في التراث الشعبيّ اليهودي، مع أنّ اليهودية ديانة توحيدية، تنزّه الخالق الأبديّ عن جميع المخلوقات الزائلة، وتحظّر فيها صناعة التماثيل، ورسم الصور. فما حيثية ذلك؟

من حظر التصوير إلى إنشاء كائن طينيّ مسحور

جاءت الوصية الثانية التي أنزلت على موسى، بحسب "سفر الخروج" تحظّر صناعة التماثيل والصور: "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما ممّا في السّماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض". تكفّل "سفر الخروج" نفسه بإظهار عاقبة عصيان ذلك: عندما اجتمع الناس على هارون، مطالبين بآلهة تسير أمامهم، اعتقاداً منهم بأنّ موسى مات في الجبل، فصنع لهم هارون عجلاً مسبوكاً من أقراط الذهب (القرآن يظهر هارون على العكس من ذلك معترضاً على هذا العمل)، فكان أن كسر موسى ألواح الشريعة المنقوشة عليها كلمات الرّب عندما نزل وهاله المشهد. ثم "أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعماً، وذراه على وجه الماء، وسقى بني اسرائيل" (الخروج، 32، 20). وبالمحصّلة، سيمارس "سفر الخروج" تأثيراً كابحاً على تطوّر الفن الأيقوني في التاريخ اليهودي، وإن كانت لهذا الفن محطّاته، التي تشهد عليها خصوصاً جدران كنيس الصالحية في سوريا، التي تروي رسوماته مشاهد من سفر الخروج. [caption id="attachment_87693" align="alignnone" width="700"]Dura-Europos-SynagougeDura-Europos-Synagouge كنيس الصالحية في سوريا[/caption] حظر التماثيل والصور حفرَ عميقاً في التراث والوجدان. مع ذلك، ستنبت من رحم التراث اليهوديّ نفسه قصّة كائن يصنعه الإنسان بيديه، من دون أن ينحت له معالم، ومن دون أن تتحدّد صورته، كائن مخلوق من صلصال كالإنسان نفسه، أي من مادة طينية، من مزج عنصري التراب والماء. إنّه "الغولم". و"الغولم" بالعبرية، يوازي "الهلام" في العربية. إنّه "الغلام الهلام". يرد اللفظ أحد مزامير داود (139)، بالشكل التالي: "عندما لم أكن سوى هلام (أي مادة غير متشكلة) كانت عيناك تراني". الغولم هو إذاً مادة غير متشكّلة، لكن لها هيئة. ما سيتطور في التراث اليهودي، وخصوصاً في الباطنية اليهودية (القبالاه)، هو إشكالية محاكاة صناعة الخالق للإنسان من طين، بإعادة اشتغال الإنسان على المادة الطينية نفسها، بالاستعانة بالطلاسم وأعمال السحر. Intext_Shifra-Diniyya-from-author3Intext_Shifra-Diniyya-from-author3

ألغاز العالم الوسيط بين الخالق والمخلوق

يبقى فارق أساسي بين "الغولم" وبين أصنام الإغريق أو العرب في الجاهلية، على ما يقترحه موشيه إيديل، وهو أنّ الأصنام هذه مرتبطة بحسابات تنجيمية فلكية، أي برغبة في التقاط "روحانية النجوم" وإيصالها للناس، فالصنم بمثابة "قرص لاقط" هنا. أمّا "الغولم"، والسحر القبالي بشكل عام، فلا يستندان إلى تعقّب الأجرام والأفلاك، بقدر ما يستندان إلى رؤية معيّنة للحروف والأعداد، بوصفها الأدوات التي استخدمها الله لخلق العالم، وأنّ لها قوى سرية سحرية خارقة، يمكن الوصول إليها وتسخيرها.
ما هو الفرق بين "الغولم" اليهودي وبين أصنام الإغريق أو أصنام العرب في الجاهلية؟
الغولم في التراث اليهودي: عندما يحاول الإنسان أن يحاكي فعل الخالق ويصنع مخلوقاً طينياً يبث فيه الحياة
فالقبالة تتضمن تصوراً ثلاثياً عن الوجود كما يوضح مارك آلان اواكنين في كتابه "أسرار القبالة". ثمة عالم العليين، عالم الرحمنوت والجبروت والملكوت، وثمة عالم التحتيين، الذي نحن فيه. لا يمكن اجتياز أحد هذين العالمين إلى الآخر. لكن الفاصل بينهما هو مقام بحد ذاته، عالم يتوسّط بينهما، العالم الوسيط (امتسا). هو مسافة لا يمكن عبورها إلى العالم الفوقي، لكنه في الوقت نفسه بمثابة "حساب مشترك" بين العالمين. إنّه عالم الشوق المتبادل بين الخالق والمخلوق. في هذا العالم الوسيط تقيم أحرف الأبجدية العبرية الـ22، والأعداد العشرة (من واحد إلى عشرة)، وأسماء الله، والكتب المقدّسة، وفيه "سلّم يعقوب" (في العهد القديم يبصره يعقوب، الهارب من غضب أخيه، في منامه كسلّم يربط الأرض بالسماء)، والهيكل. لأجل انشاء عالم التحتيين، استخدم الله الأحرف والأعداد الموجودة في العالم الوسيط. هناك مجال بالتالي، لـ"خلق محصور" يتوصّل له الإنسان العالم بخفايا هذا العالم الوسيط إذاً.

صنعة مهارال براغ: الغولم الذي خرج عن السيطرة

اختلفت المقاربة حول "الغولم"، أصله وفصله، بين كبار الدارسين لتاريخ الباطنية اليهودية (القبالاه) في القرن الماضي. فغرشوم شوليم، أهمّ مؤرّخي القبالة كما المسيحانية اليهودية في القرن الماضي، سيتعامل مع "الغولم" كظاهرة فولكلورية بالدرجة الأولى، كمؤشّر على تحوّل الباطنية اليهودية من دائرة خاصة هي حكر على المتبحّرين فيها، إلى رافد أساسيّ من روافد التراث الشعبيّ اليهوديّ. فقد انشغل المخيال أكثر فأكثر، بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر الميلادي عند يهود شرق أوروبا خصوصاً، بما إذا كان للإنسان المتفقّه بعلوم الشريعة وعلوم الباطن والسحر في آن واحد، أن يحاكي صناعة الخالق لمخلوقاته على نطاق أضيق، فيحرّك بما تيسّر من علم الأحرف والأعداد، المادة الطينية التي جمعها على هيئة إنسان مثله، لتدبّ فيها حياة ما، وتصير أداة تقنية تلبي للإنسان احتياجاته، وفي طليعتها، حماية اليهود من أعمال الاضطهاد أو التنكيل بهم. ارتبط هذا الفولكور تحديداً بالمرويات عن الربّي يهودا لوي بن بتساليل، المعروف بـ"ماهارال براغ". نُسبت لهذا الحبر، الذي كان عالم رياضيات أيضاً، الكثير من الكرامات والمشاهد، ونُسب له أيضاً إنشاؤه لكائن على هيئة إنسان، من طين نهر فلتافا. Intext_Shifra-Diniyya-from-author2Intext_Shifra-Diniyya-from-author2 وهذا الغولم هو، بمعنى من المعاني، "الروبوت" السحري في غيتو براغ. تعدّدت أساليب تشكيله في المرويات. التقت أكثرها على أنّ المهارال غرس ورقة عليها الإسم، رباعي الأحرف، لله في التوراة، في فم الغوليم، الذي طالما ظلّ مختوماً فاهه بهذا الشكل بقي حياً، إن كانت الحياة توصّف بها فعلاً حركة الغولم. كان يمكن لهذا الغولم في التراث الشعبي أن يعمل ويكد، ويلبي أوامر سيّده، ويحمي يهود الغيتو، من دون أن يعطى إمكان الكلام. فهو مأمور بالتنفيذ ما دامت تعوزه نعمة الكلام، الذي لا يمكن إلا للخالق الحقيقي أن يعطي لمخلوق. في المقابل، نجد الغولم في هذه المرويات وجسمه ينمو كل يوم، وهو كآدم لا يمرض أبداً، وله حق الراحة يوم السبت (يختلف بالتالي عن خادم اليهود، غير اليهودي). ومساء كل جمعة، كان يسحب المهارال الورقة من فم الغوليم، فيستحيل بلا حركة إلى حين وضعها مجدّداً. ويأتي مساء نسي فيها المهارال ورقة الإسم في فم الغولم، وانصرف إلى الكنيس الكبير الذي يبعد عن الغيتو، فهاج الغولم، وأخذ يضرب الناس، ويخبط يمنة ويسرى ويرعب من كان يحميهم. لم يعرفوا كيف تهدئته إلى أن حضر المهارال، واستطاع بعد جهد جهيد أن ينتزع الورقة من فم الغولم، فتهاوى هذا على الأرض، وعاد كتلة طينية بلا هيئة. Intext_Shifra-Diniyya-from-authorIntext_Shifra-Diniyya-from-author وفي رواية أخرى، أن الربّي تمكّن من تجميده، لكن كتلة الطين هوت عليه وقتلته. وهناك من ذهب إلى أن "جثّة" الغولم لم تزل مختبئة في مكان من براغ، تنتظر من يحييها. وهذا الضرب من المخيّلة غير بعيد عن الاحتفاء الثقافي والسياحي بفولكلور الغولم في مدينة براغ، فضلاً عن الكمّ الهائل من الأعمال الأدبية والسينمائية، التي تنطلق من هذا التراث، أبرزها رواية النمساوي غوستاف مايرينك. وهناك تقاليد أقدم تربط حياة الغولم وموته بأحرف كتبت على جبينه. ألف – ميم – تاء، إيمت، الحقيقة، تدبّ فيه الحركة، حتى إذا أزيلت الألف، بقيت الميم والتاء، "مت"، فمات.

سفر يصيرا: "الغولم" كفلسفة للخلق

لم يتجاهل غرشوم شولم جذور حكاية "الغولم" في التلمود البابلي (سفر سنهدرين)، إذ نجد الحكيم "رابا" وقد خلق إنساناً اصطناعياً، وبعثه إلى الرّبي "زيرا"، ففطن الأخير أن الذي أمامه ليس إنساناً حقيقياً، لأنّه كلّمه ولم يجبه، فأمر بأن يعود غباراً. لا يفصح التلمود هنا كيف صُنِعَ الكائن، وإن تكلّم في موضع آخر عن ربيّيين، شانينا وأوشايا، يصنعان لهما عجلاً اصطناعياً (ثلث الحجم الطبيعي) ليكون عشاءهما ليلة السبت (أي ليلة الجمعة مساء)، وتمكنا من ذلك بفعل إجادتهما لمزاوجة الأحرف المقدّسة، وتسخير طاقتها الإبداعية. لكن، وبما أن الكائن المخلوق في حكاية رابا وزيرا ليست له طبيعة عملية، فقد ارتأى شوليم أنه يختلف بشكل أساسي عن فكرة "الغولم" كما شاعت في التراث الشعبي الأشكينازي. وهذا يختلف عن مقاربة موشيه ايديل في كتابه عن "الغولم" مطلع التسعينيات. بالنسبة إلى ايديل، إشكالية "الخلق في الخلق" قديمة كثيراً في الباطنية اليهودية، إذ ظلّ تصوّر إحداث العالم، من خلال الأحرف والأعداد، كما نجده في الكتاب القبليّ "سفر يصيرا" (كتاب التشكيل أو الخلق) يلهم محاولات عديدة لإنشاء الكائن الاصطناعي الذكي المحاكي لخلق الإنسان على نطاق أضيق. وبالتوازي أهتم الفقه اليهودي بتحديد منزلة هذا "الغولم"، فافترقت الاجتهادات بين من يراه غير إنسان، وغير حيوان، وبالتالي يمكن إماتته من دون شعيرة، وبين من يراه حيواناً على هيئة إنسان، وبين من يراه إنساناً أدنى. تمكّن ايديل من الوصول لنماذج "غولمية" متعدّدة أكثر بكثير من تلك التي انحصر بها عمل شوليم. حرمان "الغولم" من النطق كان قاسماً مشتركاً لأكثرها، لكن وجدت استثناءات.. "غولمات" تحكي ولا تتحرّك. بالنسبة إلى ايديل، فكرة "الغولم" في التراث اليهودي، القبالي كما الفقهي، مرتبطة بفكرة تحديد "ما الإنسان"، إذ لم يكن كافياً تمييز الخالق عن المخلوق، ولا تمييز الإنسان عن الحيوان لتحديده، ومن هنا أهمية هذا التراث. هذا فيما بقيت نظرة شوليم مرتبطة بإشكالية الخلاص الحقيقي والخلاص الاصطناعي، وتحدي السيطرة والخروج عن السيطرة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard