شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
روعة يا أبا روعة

روعة يا أبا روعة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 1 يونيو 201704:02 ص

كانت الميزة الوحيدة بكوني الصبي الوحيد في العائلة هي عدم الذهاب إلى الخدمة الإلزامية، أو خدمة العلم وما أدراك ما العلم... فلم أكن مدللاً عند أبي وأمي كما هي العادة إذا كان الصبي وحيداً، لكن القانون دللني، وأعفاني بالتالي من الخدمة الإلزامية التي تقسم حياة الشباب السوري إلى قسمين، قسم ما قبل الجيش، وقسم ما بعد الجيش…

وطبعاً فإن سنوات الخدمة كانت كالهمّ على قلوب الجميع دون استثناء، وبالتالي فإن أمر التهرب منها كان يتم عن طريق التأجيل بسبب الدراسة، إلى درجة أن بعض الطلاب كانوا يتعمدون عدم التخرج من كلياتهم بسبب الجيش، وأعرف من درس الحقوق وبقي طالباً حتى تجاوز عمره السن القانوني لخدمة العلم، أما الصناعيون والتجار فكانوا يدفعون الرشاوي للضباط كي يؤدوا خدمة العلم دون أن يداوموا، فتسأل واحداً منهم: أين خدمت الجيش؟ فيقول: بالبيت.

وبالطبع فإن المغتربين فرحوا بقانون دفع البدل المادي الذي صار هدفاً بحد ذاته. هرع الشباب إلى الغربة كي يحق لهم دفع البدل، فالجيش هم ثقيل حقاً، إلى درجة أن الذي ينهي خدمته الإلزامية يقيم حفلاً فنياً في بيته بهذه المناسبة، وقد حضرت العديد من حفلات التسريح التي تضاهي حفلات الأعراس بضخامتها...

أما أنا فقد كانت حياتي كلها حفلات تسريح، كل يوم عندي حفلة، ولمَ لا، فأنا معفو وحيد، هذه هي صفتي في دفتر العسكرية الذي أحمله، لكن علي أن أذهب إلى الدرباسية حيث شعبة تجنيدي كل عام كي أجدد المعاملة مثبتاً أن أمي لم تنجب عبقرياً جديداً، وبالتالي فما زلت وحيداً. كان رئيس شعبة تجنيد الدرباسية أبو روعة، وهو من الساحل السوري، شاعراً كلاسيكياً إضافة إلى كونه ضابطاً برتبة نقيب. سمع بأنني شاعر وكاتب، لذلك راح يطلب مني الجلوس بينما يأمر العسكري أن يتابع معاملتي بين أروقة الشعبة ومكاتبها التي لا تتجاوز الغرفتين وزنزانة…

download (2)

يغلق العسكري الباب، فيخرج أبو روعة ديوانه المخطوط والمجلد على نفس شاكلة أضابير العساكر بالغلاف الأسود ويبدأ بالقراءة، وأبدأ بهز رأسي دلالة الإعجاب والمتابعة، بل إنني أحياناً أطلب منه أن يعيد بيتاً فاتني التمعن فيه، وفي غمرة اندماج أبو روعة يطرق العسكري الباب، فيتوقف أبو روعة عن القراءة منزعجاً ويقول: ادخل، فيدخل العسكري ومعه عسكري غر فار ليعرضه عليه: هاد مشكل إفرار من دورة الأغرار سيدي... قبضنا عليه الآن، حطه بالزنزانة هلأ، يقول أبو روعة فيخرجان، ويكمل أبو روعة القصيدة بفتور ما يلبث أن يتحول إلى حماسة منقطعة النظير، ويعود العسكري ليقاطعه ومعه ورقة تحتاج إلى ختم، يختم أبو روعة الورقة ويوقع عليها دون أن يتفحصها كالعادة، فهو مشغول بالشعر الآن، وين كنا؟! يسألني أبو روعة فأرتبك وأتلعثم وأحاول أن أتذكر، كنا عند صخرة تتحطم عليها الأمواج، ويتابع أبو روعة معاقبتي بشعره، ويعود العسكري بورقة جديدة، يبدو أنه يأتي بكل الأوراق التي لا يمكن أن يوقع عليها أبو روعة بسهولة في هذه اللحظات الصافية الثقافية، ويوقع أبو روعة ثم يتابع جلدي حتى نهاية الدوام ونهايتي...

آخذ دفتري وأمضي إلى حلب وأنا معفو وحيد لسنة جديدة، ولكن الأيام تمضي، وموعد توقيع أبو روعة جاء، وإلى الدرباسية توجهت، لكنني مررت بعامودا بطريقي وعرضت على صديقي الشاعر محمد عفيف الحسيني أن يذهب معي إلى الدرباسية على أن نعود معاً إلى عامودا طالباً منه أن يثني على قصائد رئيس شعبة التجنيد كي لا تتعطل معاملتي، ورافقني الشاعر إلى شعبة التجنيد حيث تعارف الشاعران على بعضهما البعض، وبالطبع كانت أوراقي تدور بين الأروقة والمكاتب، بينما امتدح محمد أبا روعة على الأمسية التي أحياها في المركز الثقافي بعامودا، فطرب أبو روعة وقال بأن زجاج النوافذ تكسر وقتها من شدة الزحام، فقال محمد أن هذا الأمر حدث مع شاعرين فقط، مع أبي روعة ومحمود درويش، فوافقه أبو روعة وقال: نعم صارت مع أحمد درويش كمان، واستغليت فرصة الانسجام بينهما واستأذنت تاركاً محمد عفيف لوحده في مواجهة بطل العالم في الشعر!

عدت قبل نهاية الدوام لأجد محمد عفيف متهالكاً على الكرسي وهو يهز رأسه مستمعاً إلى قصائد أبي روعة التي لا تنتهي إلا بانتهاء الدوام، وقال لي أبو روعة: راحت عليك الجلسة الجميلة، فهززتُ رأسي متصنعاً الأسف بينما محمد عفيف يرمقني بحقد دفين، وفي السنة التي بعدها مررتُ بالحسكة وأخذت الشاعر حسين بن حمزة معي ليذوق ما ذاقه محمد عفيف قبل عام من ويلات الشعر العسكري، وقد أعجب أبو روعة بتحليلات حسين النقدية لشعره، لكن جملتي المدائحية له ( روعة يا أبو روعة) بقيت هي المفضلة عنده، وقد أهداني بسببها صورة له وهو يلقي الشعر بلباسه العسكري الكامل في احتفالات أبناء شعبنا بمناسبة الحركة التصحيحية، وفي آخر مرة زرته فيها قلت له: روعة يا أبو روعة، فلم يُطرب، بل وضع الدفتر الضخم جانباً وقال: أبو أسد. وأردف باعتزاز: أنجبت زوجتي صبياً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard