شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الملكة

الملكة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 20 أكتوبر 201601:33 م

في بيتنا بأربيل حديقة صغيرة، فيها زهور برية وعدة أنواع من الأعشاب ونعنع من نوع التشيكليس كما نسميه في الشام، وتنتهي الحديقة بجدار فاصل بيننا وبين بيت الجيران، وعلى هذا الجدار الذي لا يتجاوز طوله المترين حدثت ملحمة الهجرة الكبرى لمملكة النمل الصغير من حديقة بيتنا إلى حديقة الجيران لسبب من الأسباب.

نادتني زوجتي أن تعال أيها الشاعر الحالم فملكة النمل تصعد الجدار وحولها عساكرها الصغار، وهرعتُ من أربعتي لأشاهد رحلة الملكة، ويا للمشهد، الملكة أكبر من النمل الصغير بعشرة أضعاف على الأقل، كما أن لونها أسود غامق وليس رمادياً كلون الرعية والمرافقة والعمال، كانت فريدة من نوعها بينهم، وكانوا يحومون حولها بطريقة مدروسة وديناميكية جداً ليحموها من السقوط ويحفزوها على المضي قدماً إلى الأعلى. توقفت الملكة لتلتقط أنفاسها، لكن المرافقة ظلت في حالة حومان مستمر حولها، وهنا واتتني فكرة أن أرفعها إلى الأعلى بورقة وأوفر عليها تعب الرحلة، وقلتُ في نفسي أن النمل سيدهشون، وسيعتقدون أن المعجزة حدثت، وسيتحدثون بأمرها في كتبهم التاريخية.

أحضرتُ ورقة وجرفت الملكة إلى داخلها مع بضع مرافقين طار نصفهم وسقط على أرض الحديقة، ولكن الملكة خافت، لم تشعر بالراحة، فأسرعت إلى خارج الورقة مما أدى إلى سقوطها إلى أرض الحديقة أيضاُ. بحثنا عنها لكن دون جدوى، ظلام الحديقة لم يسمح بذلك أيضاً، ربما عادت إلى قصرها لتلتقط الأنفاس من هول ما جرى، وندمتُ أشد الندم على فعلتي هذه. ليس فعل الخير بضروري دائماً، كان على الملكة أن تصنع معجزتها بنفسها، لقد أفسدتُ كل شيء بتدخلي السافر هذا رغم نواياي الطيبة، وفيما أنا في غيبوبة الندم حتى جاءني صوت زوجتي من جديد. لقد عادت الملكة وحولها الحراس في رحلتها التاريخية، وعدنا إلى تأمل المشهد، صارت الملكة في منتصف الطريق الآن، وراودتني فكرة المساعدة من جديد، إذ أنها عادت للتوقف في استراحة لا قهوة فيها ولا تدخين ولا حتى غداء، أحضرت ورقاً مقوى هذه المرة، وجرفتُ الملكة إلى داخلها من جديد مع قليل من حرسها الأوفياء، تطاير الجميع بسبب خفة أوزانهم وبقيت الملكة في الورقة، صرنا عند حافة الجدار من الأعلى، وضعتُ الملكة هناك لكن جنونها كان قد جن هذه المرة فسقطت إلى الأدنى وكأنها غير راغبة بيدي الإعجازية، واختفت بين الأعشاب والأتربة، بينما كان الحراس على الجدار يدورون ويحومون كالمجانين بحثاً عن الملكة التي اختطفتها الأقدار من جديد من بينهم، نزل الحرس إلى الأدنى، ومنهم من صعد إلى الأعلى بحثاً عن الملكة، بينما كنا نبحث بدورنا عنها مستيعينين بضوء الموبايل. عادت الملكة إلى مقرها على الأرجح، لا بد وأنها في القصر الحصين تحت التراب الآن، نعم إنها هناك، فلقد خرج المراسل الحربي الآن وبدأ بنقل الخبر، الجميع يعودون إلى المملكة تباعاً والمراسلون يتابعون مهمة إيصال الخبر، الملكة بخير، ما من داع للقلق، وبعد الانتظار لخمس دقائق عاودني شعور الندم على تدخلي الغبي.

ترى بِمَ تفكر الملكة الآن؟! هل هي غاضبة مني؟! هل سينتقم مني الحراس؟! نعم إنهم يفعلون ذلك، حارس صغير عضني من يدي الآثمة الآن، كيف سأكفِّر عن ذنبي؟! كانت الملكة تعرف طريقها وتعرف كيف تصل إلى مملكتها الجديدة، وهل هناك من هو دؤوب أكثر من النمال؟! وبعد ساعة من الزمن كنت قد استنفذت كل قواي العقلية في محاكمة الذات دون أصل سوى إلى نتيحة واحدة وهي أن العمل هو معجزة الكائنات، وأن لا شيء يمكنك أن تحصل عليه بسهولة لمجرد أن كائناً آخر أكثر تمكناً منك قرر أن يساعدك ويرفعك إلى الأعالي بلحظة خاطفة، نعم ..ملكة النمل لم تكن تنتظر المعجزات، بل واستغربَتْها لمرتين، ورفضَتْها لمرتين، ودفعَتْ ثمن إصرارها النملي مرتين، وفجأة أيقظتني زوجتي من جديد من غيبوبة الندم وجلد الذات، لقد نجحت المعجزة هذه المرة، حملت زوجتي الملكة بواسطة ورقة دون أن تخبرني بعد أن شاهدتها تتسلق الجدار للمرة الثالثة بعناد، ووضعتها على القمة فهبطت مسرعة إلى حديقة الجيران هذه المرة مكملة دربها المرسوم لها من قبل مفكريها ومستشاريها وحراسها وعمالها المخلصين. هرعتُ إلى الحديقة فرأيتُ درب النمل يمضي باتجاه بيت الجيران، وخلال دقائق قليلة كان الجدار خاوياً من النمل، وكذلك حديقتنا أرض المملكة القديمة، إن الملكة الآن في الطرف الآخر من العالم تؤسس لمملكتها الجديدة بعد كارثة لم نعرف ما هي حلت بمملكتها في حديقة بيتنا قبل ساعات، أو بلغة النمل قبل سنوات طويلة.

نشر هذا الموضوع على الموقع في تاريخ 26.08.2013

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard