شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
MAIN_FemaleSoufiDancer

نَشوةُ البُسطامي وشِعرُ الرُّومي ورُؤى العارِفين في رعَشَاتِ رَقصةِ أُنثَى

MAIN_FemaleSoufiDancer

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 1 نوفمبر 201812:44 م

جلَسَت فاريما برينجي، الراقصة الباحثة الإيرانية الأمريكية، تحتسي قهوتها في مقهى، وقبالتها لوحة فنية تتأمّلها، وبعد قليل تجمّع بعضُ الطلبة، وبدأوا يتجادلون حول معنى اللوحة الغريبة، تضحكُ في نفسِها على تفسيراتهم، ثمّ اضطرَّت إلى أن تُقاطعَهم وتشرحَ لهم معنى الألوان، وفلسفة الأشكال والفراغات، قاطعَها أحدُهم وقد بلغ إعجابه بحركات جسدها يتجاوز اللوحة: هل أنت راقصة؟ تقول برينجي: "حينها أدركتُ كما أنّ الإنسان يمكن أن يُبدعَ لوحةً فنيةً، فإنَّه يمكن أن يبدعَ صورةً جميلةً، ببساطة عبر الرقص، فنحن كراقصات فنانات أيضًا، ننفخ في القصص الإنسانية الروح... بأجسادنا".

تُعلّق فاريما أنّ الطريقة التي تُحرّك بها يديها، والعاطفة التي تُظهِرها بجسدها تمنحُ هذا الفنّ، فنّ الرّقص، قُبلة الحياة.

حكت برينجي قصّتها في منتديات "تيد" مع الرقص، وهي تعود إلى بدايات طفولتها، تستمع لحكايات جدتها، تقول: كانت جدتنا تجمعنا حولها لتحكي لنا حكايات خرافية، قصص الطقوس القديمة، أفعالاً شُجاعة للنساء المحاربات... وعندما كبرت قرأت الشعر الفارسي، والشعر الصوفي الفارسي سحرني، إنها الأسطورة والشعر الذي شكّلني على ما أنا عليه الآن، وعرّفني على فنون العالم القديم. لذا كَبرت رغبتها في السفر إلى إيران، وفُتِنَت فاريما بإيران، نهاية ثمانينات القرن المنصرم في الوقت الذي كان يفرّ فيه الجميع منها، الرقصات التي تأسّست على الرمزية والأسطورة، واكتشفَت في قرى إيران ووسط آسيا أنّ الرقص ممارسة تقليدية للناس العاديين، كلّ حادث في الحياة من الميلاد إلى الوفاة، الرقص ليس تسلية لحظية، إنّه طقوس يومية. أما الرقص المُقدّس، حيث لا بُدّ أن يجتمع التأمل والرقص معًا في الفراغات التي تملأها حركات الجسد، فهو شأنٌ آخر.

أدركتُ كما أنّ الإنسان يمكن أن يُبدعَ لوحةً فنيةً، فإنَّه يمكن أن يبدعَ صورةً جميلةً، ببساطة عبر الرقص، فنحن كراقصات فنانات أيضًا، ننفخ في القصص الإنسانية الروح... بأجسادنا.
إنّ رقص أوديسي هو أنثوي وغنائي، بينما رقصات غوردجييف خطّية وذكورية، أما رقصة المولوية أو الدوران حول النفس فتنتمي إلى ما يتجاوز الطبيعة، عندما تلتقي القطبية، وننتقل إلى عالم غامض.
تشرح بارينجي أكثر: الرقص المقدس ضئيل الشأن إذا لم تختبره، عندما أرقص أو أدور حول نفسي أحس بشعور جميل كما لو كنت متصلة بأسلافي، عندما أرقص أشعر أني رسولة الرقص، عندما أرقص "الرقص المقدس" أدعه يهزمني، ويُحرّكني، لقد فقدت التحكم، الطاقة هي التي تتحكم فيّ، الدّوران حول النّفس والرّقص المقدّس هو طريقة استخدمها أسلافنا في إيران كطريقة للتواصل بين الروح والجسد، والآن يستخدمها الصوفيون، يطوفون حول أنفسهم بموسيقى شاعرية، وقصائد صوفيّة لتوحيد العقل والقلب والجسد.

رقصة المولوية: عندما يأخذنا جسدنا إلى ما وراء الكون

قصص كثيرة ومتنوعة جذبتها تلك الأجساد الراقصة منذ فجر التاريخ حتى لحظتنا هذه، قصص الولادة والموت، التضرع للآلهة الجبارة، أو التعبير عن حبّنا لها، رقصات الحصاد والجفاف وتقلّبات الفصول، ومن أكثر الرقصات إثارة وعمقًاً هي تلك التي تعبّر عن حبنا للمطلق، وتجسد كلمات الصوفيين الشاعرية في إيقاع الجسد.

وذلك ما أدهش الراقصة زيا ناث عندما تعرّفَت على رقصات غوردجييف المقدسة، ومولوية الصوفية في منتجع أوشو للتأمل الدولي في بونا 1993، وكانت تلك بداية رحلتها المقدسة في الرقص. تقول عن ممارسة الرقصات المقدسة لغوردجييف، ورقصة المولوية أنّ ما يُميّزها أنّها لا تمارس لغرض الأداء المسرحي، ولكن من أجل النمو الروحي، واستكشاف حالات الوعي، والتأمل. وبعد أن أنغمست في ذلك 15 عامًا قرّرت استكشاف رقصات المعبد الهندي، وعثرَت على رقصة أوديسي، وبدأت في دراستها، واكتشفت أنها، في الجوهر، تشبه الرقصات المقدسة.

فالجسد هو "عربة الوعي"، وهو أعظم الوسائل لاختبار ذلك الوعي
وتشرح الفرق بين أنواع الرقصات وفلسفاتها، فتقول إنّ رقص أوديسي هو أنثوي وغنائي، بينما رقصات غوردجييف خطّية وذكورية، أما رقصة المولوية أو الدوران حول النفس فتنتمي إلى ما يتجاوز الطبيعة، عندما تلتقي القطبية، وننتقل إلى عالم غامض. عملت زيا ناث على الرقص لمدة ثلاثة عقود، عقدان منها للرقص من أجل الشفاء، تمارس رقصات غوردجييف المقدسة، والمولوية، تدفعها أفكار وكلمات الصوفيين والروحانيين، تقول إنّها تأثرت بمحاضرات أوشو عن الرقص كشكل من أشكال التأمل، فالجسد هو "عربة الوعي"، وهو أعظم الوسائل لاختبار ذلك الوعي، وبينما تعلمَت الرقص في أوروبا، إلّا أنّ مستنيرين كمعلمي الزن، وأوشو، وجورج غوردجييف رافقوها في رحلتها. ترقص ناث المولوية، تدور حول نفسها، وتشعر أنّ هذا الدوران ينتمي إلى عالم غير مرئي، ولكنّه محسوس، بُعد باطني، لذا تنصح مشاهديها ألّا يحاولوا فهم رقصتها بشكل منطقي، تقول لكم: السؤال الصحيح الذي نطرحه عندما نرقص تلك الرقصة: "ما الذي نبحث عنه؟" يجب أن يشجع بعضنا بعضاً لمواجهة الدوران بلا توقعات، ذلك يجعلنا أحرارًا، إذ يعمل الدوران فعلته الغامضة الصوفية علينا، ويُمَكّننا من رؤية فوائد كثيرة بلا حصر، نحن ندخل "ممالك الدوران" عبر أبواب التصوف، ونعرف أنّنا بدأنا الرحلة، في طريقنا إلى أبعد من هذا البُعد، ليس في مكانٍ ما خارجنا، ولكن في داخلنا.

الصوفيون عن المولوية: تُحوّل البشر إلى ملائكة وعفاريت

بدأت حالة الرقص عند الصوفيين في اللحظة التي تبنّى فيها أبو يزيد البسطامي "الصوفية المنتشية"، متأثرًا بأفكار هندية نقلها معلمه أبو علي السندي. حيث الوجود احتفال، وطريق الرب طريق الفرح والابتهاج، لتنطلق حفلات الذكر بين الجماعات الصوفية، وأنجبت تلك الحالة رقصة المولوية التي أبدعها جلال الدين الرومي، ويُروى أنّ الرومي بعد أن يئس من رؤية معلمه الذي عشقه كثيرًا، شمس الدين التبريزي، سمع دقّات حديد الحرفيين في الخارج، فقام منجذبًا، وبدأ يرقص، يمدّ ذراعيه، يدور عكس عقارب الساعة، رافعًا كف يده اليمنى إلى أعلى، واليسرى إلى أسفل، كأنّ جسده ثورة ضدّ حركة الزمن. وكان الرقص الصوفي يثير حفيظة أولياء كثر مثل ابن عربي، والشيخ السهروردي الذي قال:  "الرقص عمل لا يليق بالشيوخ ومن يقتدي بهم، لما فيه من مشابهة للهو واللهو لا يليق بمنصبهم".
نحن ندخل "ممالك الدوران" عبر أبواب التصوف، ونعرف أنّنا بدأنا الرحلة، في طريقنا إلى أبعد من هذا البُعد، ليس في مكانٍ ما خارجنا، ولكن في داخلنا
أما الصوفيون المناصرون للرقص فكانوا يعتبرون كل حركة في العالم هي رقصة إلهية مستمرّة بلا انقطاع، ويردّدون كلمة ذو النون المصري: "إلهي ما أصغيتُ إلى صوت حيوان، ولا إلى حفيف شجر، ولا خرير ماء، ولا ترنّم طائر،.. ولا دويّ ريح، ولا قعقعة رَعد، إلّا وجدتها شاهدة بوحدانيتك، دالّة على أنّه ليس كمثلك شيء". ومن أبرز كلمات الرومي التي يستلهمها الراقصون: كلّ من يبعد عن أصله، يظلّ ينشد زمان وصاله من رأى سُمّا وتُرياقًا كالنّاي، ومن رأى رفيقًا ومشتاقًا كالنّاي. يُفسّر الشيخ الجزائري الصوفي أحمد التيجاني (توفي في القرن الثالث عشر الهجري) رقصة المولوية كما ينظر إليها الصوفيون العرب من ثقافتهم الشعبية، بأنّها تُمثّل تحرّر الإنسان من آدميته إلى "الجِنّيّة"، وبعدها يتحرّر من "الجنية" إلى الروحانية ثمّ الملائكية، يقول الشيخ بلغته العتيقة: أولياء الجنّ دورانهم حول الفعل وسرّ الفعل ونور الفعل، والروحانيون دورانهم حول الاسم وسرّ الاسم ونور الاسم، والملائكة دورانهم حول الصفات وسرّ الصفات ونور الصفات، وأولياء الآدميين دورانهم حول الذات وسر الذات ونور الذات .. والآدمي يطلع "بتلك الرقصة" على أوّل مرتبة وهي مرتبة الجن.


غوردجييف: الرقصة هي حركات الجسد المقدسة

قضى جورج غوردجييف الكثير من حياته في دراسة وإتقان فنّ الرقص المقدس، وغالبًا ما وصف نفسه في سنواته الأخيرة بأنّه "معلم الرقص" وكانت الرقصات التقليدية شكلًا من أشكال الفنّ المقدس الذي كان هدفه الحفاظ عليه ونقله المعرفة بالباطنية. وقد أبدع جورج غوردجييف عدّة حركات بنفسه، إلا أنّ الغالبية من تلك الحركات، 200 تمرين، أتى بها من رقصات مقدسة واحتفالات دينية محفوظة في المعابد والأديرة التي زارها أثناء رحلاته. ما أذهل جورج غوردجييف في رحلاته هو "نوع عميق من الرقص في المعابد والأديرة في الشرق، كان مندهشًاً من دقّة الحركة، ونقاء شعور الراقصين، وكيف تنقل تلك الحركات المعرفة، وبدأ يفكر في نقل المعارف الكونية، والروحانية عبر حركات الجسد الراقصة".
الأجساد الراقصة لا تسل عن أرواحها، ولا تسل عمّا ستتحول إليه
يقول إن لغة الرقص رياضية، كل خطوة محسوبة في مكانها ومدتها ووزنها، وتمّ ترتيبها لإنتاج عواطف محددة مسبقاً، وتتيح لمن يشاهدها أن يشارك الراقص في العواطف العليا. يفترض غوردجييف أن حركاتكم، وأوضاع أجسادكم تعكس أفكاركم ومشاعركم المشوّهَة بالخوف والقلق والطموح، فوعينا في حالته الأصلية منتشٍ وفرحان بوجوده؛ لذا يطلب غوردجييف من الراقصين في البداية أن يفعلوا أشياء لا تعتادها أجسادهم، حتى يفصل حركات الجسد تلك عن الوعي المشوه، والمقيد. ثمّ عندما يبدأ الراقصون والراقصات بتعلّم "الرقصات المقدسة" تنشأ علاقة جديدة، أكثر انسجاماً بين الجسد والعقل والمشاعر، هنا الوعي الأصيل يبدأ في الظهور بداخلكم بسبب تلك الرسائل الصوفية التي يرسلها الجسد بحركاته إلى العقل، ممّا يُمَكّن الراقص في نهاية المطاف من الوصول إلى أعلى الطاقات لنموه الروحي. أو كما يقول الرومي بلغته الشاعرية: "إنّ الأرواح التي تكسر قيد حبس الماء والطين وتتخلص منها تكون سعيدة القلب… فتصبح راقصة في فضاءات عشق الحق؛ لتكون كالبدر في تمامه، فالأجساد الراقصة لا تسل عن أرواحها، ولا تسل عمّا ستتحول إليه".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard