شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"شمس بيضاء باردة": بعد أن نمسح يدينا من الدماء، نتغنّى بإنسانيتنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 13 يوليو 201810:53 ص
"اللعنة تعرف طريقها إليّ. عبرت هذه الفكرة رأسي... وعيناكِ تحدّقان فيّ، وأنا أحدّق في العدم"، بهذه العبارات يبدأ السرد في رواية الكاتبة الأردنية "كفى الزعبي" السادسة "شمس بيضاء باردة". والحقيقة أن هذه العبارات تكثّف معاناة بطل الرواية "راعي"، التي ستتكشف شيئاً فشيئاً على امتداد السرد. هو شابٌ في بدايات العشرينيات، مولعٌ بقراءة الكتب، أنهى دراسته الجامعية، ويعمل مدرّساً، اضطر لاستئجار غرفة في عمان بعد طرد والده له من البيت إثر مشادات كثيرة بينهما، بسبب اختلاف طبائعهما، وطريقة فهمهما للحياة. هذا الصراع الذي يعيشه البطل بين رغبته في أن يكون مختلفاً عن محيطه، والمواجهات التي يلقاها من هذا المحيط، هي ما ستشكّل المركز الذي تنطلق منه كل الأحداث اللاحقة. وهي التي ستجعله يفكر في كل لحظة: لماذا لا أكون مثل الآخرين؟

"انتزاع إرادي من إغراءات الجنون! إن ذلك بالتحديد هو ما أفعله أنا في كل لحظة. لحظات تخامرها فعلاً ميول إلى النوم (...) لعل هؤلاء المجانين المرتمين في أحضان الخرافات، والمستسلمين بكسل لقطار الحياة العادية، سعداء حقاً. لماذا لا أستطيع أن أكون مثلهم؟ لماذا اختلفت عنهم؟ ما هي الجرثومة التي أصابتني ومزقتني وقذفت بي خارج هذا القطار؟".

تقسم الكاتبة روايتها إلى أيام وليالٍ تبدأ بالنهار الأول والليلة الأولى، بدلاً من الفصول، فالشاب الذي يمارس حياته نهاراً ينقل ما يحدث معه وهو يتأمل فيه وفي معناه وجدواه، وحين يعود ليلاً إلى غرفته تطارده الذكريات.
أسئلة كثيرة تؤرق شخصيات "شمس بيضاء بادرة"، رواية كفى الزعبي التي تدفعنا للتساؤل إنْ كان كل ما في هذا الكون يدعو إلى الجنون
استيلاء على الميراث، وعلاقة جنسية وإجهاض وموت في رواية "شمس بيضاء باردة"، تضع المبادئ التي نتبناها والواقع الذي نختاره في أزمة أخلاقية مستحيلة
هكذا يستعيد ماضيه القريب، وأكثر ما يؤرقه في هذا الماضي هو "عائشة". الفتاة التي لديها مشكلة عقلية، والتي توفيت أمها في حادث، فسكنت الفتاة في دارهم. يستولي والد راعي على أملاك الفتاة غير عابئ بضمير أو أخلاق، ويكون هذا مثار ازدراء الشاب الكاره لتصرفات الأب. مع ذلك، حين تتسلل الفتاة إلى غرفته ليلاً، وتندس في الفراش إلى جواره، لا يتمكن "راعي" من صدها، بل يمارس الجنس معها، مدفوعاً بغريزته وحدها، ويكرر هذا الفعل مراراً رغم أنه في كل صباح يندم عليه، ويرى أنه لا يختلف عن والده الذي سرق مال الفتاة دون وجه حق. حين تحمل عائشة، ودرءاً للفضيحة، يقرر الأب أن الحل الوحيد هو إجهاضها، وفعلاً يتم ذلك دون أي نقاش من الابن الذي يريد التخلّص من ورطة. لكن "اللعنة" التي تعرف طريقها إليه، تتسبب في موت الفتاة، ليبقى حاملاً وزر خطيئته طوال السنوات اللاحقة.

"مزقت قماش المخدة بأسناني. أنا وأبي القاتلان. أنا وهو استبحنا هذه المسكينة. ما الذي يميّزني منه؟ (...) من أنا؟ ما أنا؟ 'أنت ظلي على هذه الأرض'. إنه صوت الشيطان. أنا ظل الشيطان على هذه الأرض، ظل تائهٌ مخنوق في جلده، لا يكف عن البحث عن إله ينقذه".

هذا التناقض الذي يعيشه البطل بين ما يرغب أن يكونه، وما هو عليه في الواقع فعلاً، يتسبب بمزيد من الحيرة له، ويجعله يعيد التأمل في حياته، وفي كينونته. ومن اللافت أن الرواية تنسج خيوطاً على امتداد السرد مع "ملحمة جلجامش"، إذ تحضر جملٌ من هذه الملحمة على لسان "راعي" أو في ذهنه، في كثير من المواقف، فيتداخل الواقع مع الأسطورة في دلالات عديدة. لا شخصيات كثيرة، في هذه الرواية، بل يمكن أن نعتبرها رواية البطل الواحد، إذ إن جميع الشخصيات فيها ثانوية، وينحصر حضورها في علاقتها مع "راعي". ولا أحداث كبيرة، في هذه الرواية أيضاً، بل هي تقوم على سردٍ بطيء يتأمل في الوجود، وفي العدم، وفي معاني الحياة، وفي الدين، وفي السعادة، وفي غيرها من الأمور الفلسفية. ويكاد يكون الحدث الأبرز إضافة إلى حكاية عائشة، هو الحب الجارف الذي يجتاح كيان "راعي" حين يرى امرأة في المكتبة التي يزورها، فيتعلق بها، ويفتعل المصادفات كي يراها، إلى أن تنتبه له، وتطلب لقاءه. وفي هذا اللقاء يكتشف أنها أرملة صديقه "أحمد" الذي انتحر منذ فترة، فيعود مجدداً إلى أسئلته الحارقة، فكيف يحب من كانت زوجة أعز أصدقائه؟ وهل يعتبر حبه لها خيانة للصداقة؟ وهل كان في وسعه أن يمنع حصول هذا الانتحار؟! أسئلة كثيرة تؤرق بطل "شمس بيضاء بادرة"، ولا إجابات يقينية. كل ما في هذا الكون يدعو إلى الجنون. وربما كانت مأساة الإنسان هي تحديداً في عقله كما يقول "راعي". 

"فجأة يخطر في بالي أن مأساة الإنسان هي عقله، فبفضل ذكائه اكتشف الإنسان الشر وفاق بوحشيته كل الكائنات الأخرى. عقل يبرر الشر بمسوغات نكذب بها على أنفسنا كي تغدو الحقيقة قابلة للاحتمال. عقل يستثمر الغباء والبله. عقل يبتدع أوهاماً تنقذه من الموت والعدم. عقل يقتل الآخر في سبيل الوهم. عقل يمسح يديه من الدماء ثم يلقي على كتفه قماش قصيدة، يتغنى فيها بإنسانيته".

مؤلفة الرواية، كفى الزعبي، هي روائية أردنية، درست الهندسة المدنية. تقيم بين الأردن وروسيا، وهي حالياً متفرغة للكتابة. لها ست روايات، من أبرزها: "سقف من طين"، و"ليلى والثلج ولودميلا"، و"ابن الحرام"، و"س". الناشر: دار الآداب في بيروت، عدد صفحات الرواية 320، صدرت الطبعة الأولى في 2018، يمكن الحصول على الرواية من موقع النيل والفرات (الرابط).


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard