شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الغرانيق، رواية عن الديكتاتور في العالم العربي

الغرانيق، رواية عن الديكتاتور في العالم العربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 9 يونيو 201804:27 م
في بلدٍ صغير وفقير، يحكمه العسكر، وتتوزع ثماثيل الجنرال في كل زاويةٍ منه، يعيش بطل رواية "الغرانيق" للكاتب السوري مازن عرفة، وهو يعرف تماماً ما هي "الصفات الوطنية" التي يجب أن يتمتع بها كي يكون مواطناً نموذجياً في هذا البلد.

"إذا ما انتابتني حالة تستدعي التفكير، وتفرض سلطانها عليّ بقوة، فإنني أحاول قدر المستطاع التخلص منها بسرعة بترداد النشيد الوطني، أو بعض الأغاني الحماسية الثورية في تمجيد الزعيم الجنرال المفدى حتى أنجو من تأثيرها. وبما أنني مواطن نموذجي، فأنا لا أتكلم كثيراً، ولا أرفع رأسي عالياً، ولا أحكّ جبيني وأقطّب حاجبي، كي لا يشك أحد في أنني أفكر. وأحلامي صغيرة، متواضعة جداً".

الغرانيقليس البطل وحده على هذه الحال، فكل المواطنين الشرفاء كذلك أيضاً، أكبر طموحاتهم أن يربحوا لعبة الورق في مقهى البلدة، ويعودوا إلى أحضان زوجاتهم آمنين سعداء. هكذا، ترسم الرواية صورة مجتمع كامل، يعيش في رعب من الجنرال الذي يسيطر على كل مفاصل الحياة. ويبث الذعر في النفوس إذ زرع "أبو العينين" في كل مكان، ليراقب كل حركة ونأمة، ويبقى هو القائد الذي يحرك البلاد كما تشاء أهواؤه، ويصبح حاضراً حتى في خيالات الشعب ولا وعيه. من هنا تحديداً يأتي عنوان الرواية: "الغرانيق"، ففي التراث القديم هم أشباه الآلهة، الذين كانوا يُعبدون، وتوضع أصنامهم في كل مكان، والطغاة في عصرنا الحالي يظنون أنهم آلهة خالدون، يمتلكون الأرض ومن عليها، ويحاولون فرض تلك الرؤية على الشعب، الذي بقي مستلباً أمام كل هذا القمع إلى أن جاءت ثورات الربيع العربي فأعلن تمرده وقرر تحطيم هذه الأصنام. تبدأ الانتفاضة في الرواية وتُقابل بقمع وحشي من قبل قوات الجنرال، تزداد حدة تخيّلات البطل الراوي وهلوساته، خاصة أنه يعيش عدة شخصيات في الوقت نفسه، فهو مصاب بفصام يجعله يتوهم نفسه مرة مثقفاً يقود هذه الانتفاضة، ومرة ثانية كمتطرف متشدد يحارب بالسلاح، ومرة ثالثة يظن نفسه الجنرال الذي يريد قمع الثورة ضده بأي شكل.

"ما إن أخطو في الغرفة الثانية وأعبر بابها حتى تحدث حولي حالة عجيبة من التحولات في المكان والزمان، تطال جسدي أيضاً. وكأنني أجتاز في ثوانٍ معدودة بوابة مشعة بأنوار باهرة تعمي الأبصار، يرافقها ضجيج وأزيز يصمّ الآذان، فأصبح أنا لا أنا، أنا آخر. ثم تختلط الأمور، فأجد نفسي شاباً في العشرينات يقطن غرفة طينية واسعة قديمة".

تتداخل حكايات الشخصيات الثلاث هذه، وتتشابك الأزمنة والأمكنة، فلا نعود نعرف أي الشخصيات هو فعلاً، وأي الأحداث التي يحكيها هي الحقيقة. خاصةً أن "عرفة" لا يبني روايته بالشكل المعتاد، فلا حبكة هنا بمعناها التقليدي، بل مجموعة من الخيالات والهلوسات والكوابيس والأحلام والمونولوجات الداخلية التي تحدث داخل البطل أو الراوي والمختلطة بشكل وثيق بما يحدث من حقائق في الواقع المحيط به.
الطغاة في عصرنا الحالي يظنون أنهم خالدون، يمتلكون الأرض ومن عليها، لذا تشبههم رواية مازن عرفة بـأشباه الآلهة "الغرانيق"
"الغرانيق" (2018) رواية تحتفي بالغرائبية لتقدّم من خلالها الواقع المأساوي الذي نعيشه، بخيالٍ متفلت
إضافة إلى الشخصية الرئيسة، ثمة شخصيات جانبية تظهر في الرواية لتكمل رسم الصورة البانورامية عن المكان الذي تجري فيه الأحداث، وعن الفساد المستشري فيه، وعن المواقف المختلفة للمواطنين تجاه ما يحدث في البلاد بعد الثورة.  ومن هذه الشخصيات تبرز شخصية معتقل سياسي سابق، مواطن عادي تم الاستيلاء على أرضه من قبل ميليشيات الجنرال، موظف في دائرة عقارية رفض تسجيل عقود بيع وهمية فقتل من قبل رجال المخابرات، عامل في مكتب دفن الموتى يكون شاهداً على دفن جثث كثيرة بعد مجازر كبيرة... قصص هؤلاء الناس تختلط مع غيرها من قصص وتلتحم بالحكاية الأساسية، لتغدو الرواية سجلاً فانتازياً وتاريخاً عجائبياً للقمع ومظاهره في البلاد العربية. وإن كان المقصود في الرواية هو بلدٌ بعينه، يمكن أن نستدل عليه في كثير من المواضع دون أن يذكره الكاتب بشكل مباشر. ولعل أكثر ما يدلنا عليه هو التقرير الأمني في الفصل ما قبل الأخير الذي يعيد ترتيب كل أحداث الرواية التي سبق أن قرأناها، لكن بصورة مختلفة تماماً، إذ إن السلطة هنا هي من تعيد خلق الحقيقة وفق روايتها لما حدث. "الغرانيق" رواية تحتفي بالغرائبية لتقدّم من خلالها الواقع المأساوي الذي نعيشه، بخيالٍ متفلت، يمتد على صفحات وصفحات وينتهي بأذكى نهاية يمكن لرواية مثلها أن تنتهي بها.

"أنا صداكما أيها الاثنان الأغبياء. بل أنا صداكما أيها الاثنان المهووسان بالعنف. بل أنا صداكما أيها الاثنان المجنونان بالسلطة (...) تمسك يدي المسدس الفضي نفسه، أوجهه إلى صدغي، وإصبعي على الزناد، يحكّني عندئذ ظهري بجنون في المنطقة التي لا تطالها يدي، ويتصاعد الشواش في رأسي إلى أعلى درجاته وكثافته في تلك اللحظة، فيضغط الإصبع بثقة ودون تردد على الزناد، لتخرج الطلقة... لا أموت أنا، تموت البلاد".

مازن عرفة: كاتب وباحث سوري من مواليد عام 1955. حائز دكتوراه في العلوم الإنسانية، قسم المكتبات من جامعة ماري كوري في بولندا. له مجموعة من المؤلفات منها كتاب "سحر الكتاب وفتنة الصورة"، "تراجيديا الثقافة العربية"، وروايتين: "وصايا الغبار"، و"الغرانيق". الناشر: دار نوفل - دمغة الناشر هاشيت أنطوان/ بيروت عدد الصفحات: 356 الطبعة الأولى: 2018

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard