شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الحسن والبؤس والحظ والشبق: معاني ودلالات الشامة والخال في التراث العربي

الحسن والبؤس والحظ والشبق: معاني ودلالات الشامة والخال في التراث العربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 24 أكتوبر 201703:57 م

تختلف التأويلات الثقافية حول العالم بخصوص البقع الجلدية الداكنة التي تظهر على الوجه والجسم، سواء سميت شامات أو خيلان، ولطالما اعتُبرت من العلامات الغامضة التي تولد معنا أو تظهر لاحقاً وتحتمل تفسيرات صحية ونفسية وطبائعية متعددة. فإذا نظرنا نحو ثقافة شرق وجنوب آسيا كالصين والهند، وجدنا تراثاً روحياً يربط الشامات مع الفلك والأبراج وحركة الكواكب لتبيان شخصية وقدَر الإنسان وفق مواضع ظهور تلك الخيلان في أعضائه. ولعل بعض تلك الفنون كان موجوداً في المنطقة العربية، فعندما تزوج معاوية بن أبي سفيان نائلة بنت عمارة الكلبية، قال لزوجته ميسون بنت بحدل الكلبية، وكانت بدوية مسيحية: "انطلقي فانظري إلى ابنة عمك"، فنظرت إليها، فقال: "كيف رأيتها؟" فقالت:"جميلة كاملة، ولكن رأيت تحت سرتها خالاً، وليوضعنّ رأس زوجها في حِجرها". فطلقها وتزوجت بعده والي أرمينيا حبيب بن سلمة الفهري، ثم خلف عليها بعده والي حمص الصحابي النعمان بن بشير، فلما قُتل رُمي برأسه إلى ابنته فقالت زوجته: "إني أحق به"، فأُلقي الرأس في حِجرها كما توقعت ميسون. وقد وردت هذه الرواية في عدة مصادر تاريخية كالبداية والنهاية وأنساب الأشراف وتاريخ دمشق. لكن بالإجمال، هنالك نظرة إيجابية للشامات في المنطقة العربية، خاصة فيما يتعلق بالتقدير الجمالي، ويبدو أن هذا الذوق متوارث منذ مئات أو آلاف السنين. بل إن تخصيص كتابين في التراث العربي للحديث عن ظاهرة هامشية مثل الشامات، يكشف لنا مدى الإهتمام الكبير الذي نالته تلك النقاط على وجه وجسد المُتغزّل به.

ففي العصر المملوكي، صاغ الأديب الشاعر صلاح الدين الصفدي كتابه "كشف الحال في وصف الخال" مقدماً تغطية شاملة للموضوع من نواحي اللغة والطب والفِراسة والأخبار، بالإضافة إلى قسم كبير في الأشعار التي قال بعضها وجمع معظمها من شعراء آخرين تغزلوا بخال الوسيمين والجميلات بأوصافٍ شتى وصورٍ مبتكرة فنياً وأدبياً. وبعده بحوالي قرنٍ ونيّف، صنّف الأديب الشاعر شمس الدين النواجي كتاباً في ذات الباب وعنوانه "صحائف الحسنات". يبدو العنوان للوهلة الأولى دينياً، فقد استخدم المؤلف التورية تفاؤلاً بأن يكون كتابه من صحائف حسناته يوم الحساب كما ذكر في مقدمته، إلا أن المقصود الأصلي من الحسنات جمع حسنة وهي الشامة أو الخال. وقد اقتصر فيه على جمع الأشعار التي قيلت غزلاً بالحسنات. 

هل لديك شامة؟ هنا معتقدات القدماء من العرب وأشعارهم عن معناها على الوجه والعنق والكتف
"يكون الخال في وجه قبيح فيكسوه الملاحة والجمال" عن الشامة والجمال عند العرب

عن الشامة والحسنة في اللغة

يُعرّف الصفدي الشامة بأنها الخال، مضيفاً أن "أصل وضع اللغة في الشامة أن تطلق على النكتة السوداء، ثم غلب الاستعمال لذلك، حتى أُطلقت الشامة على النكتة من أي لون كان ...ثم إنهم تجاوزوا في استعمال الشام، إلى أن أطلقوها على غير اللون، فأطلقوها على كل شيء قليل في نوعه، فقالوا : فلان في قومه شامة، إما لميزته عنهم، بالكرم أو الشجاعة أو بغير ذلك من الصفات الحميدة... وكذلك يجوز إطلاق الخال على كل نكتة من أي لون كانت... وكما قالوا في الشيء المستلذ أو المستجاد: هو شامة، كذلك يقولون: هو خال". ومن طريف ما ورد من أشعارٍ في هذا الباب شعر الأديب العباسي إبراهيم بن سيّابة، "لأنه كان يهوى جارية سوداء، فلامه أهله فيها، فقال: يكون الخال في وجهٍ قبيحٍ   فيكسوه الملاحة والجمال فكيف يُلام مشغوفٌ بخودٍ   يراها كلها في العين خالا أما تفسير الصفدي للحسنة فأصل "وضعها في اللغة ضد السيئة ، فنقلها العرف والإصطلاح بين الناس إلى الخال، إما لأنهم لمحوا المناسبة بينها وبين الحُسن في الاشتقاق، وإما لأنهم رأوها نكتة سوداء في الجسم الأبيض، فقالوا : حسنة، تفاؤلاً"

ما يقوله التراث وما يقوله العلم الحديث

أما بالنسبة لسبب وجود الشامات في الأبشار، يقول الصفدي: "يعتقد الحكماء أن الخيلان دم ينشق من بعض العروق، ويحتبس في مكان يشف الجلد عنه، فُيرى هنالك شامة، كما يُشاهد الخال فيمن حصل له في جسده رضّة، فإن الدم يحتقن تحت الجلد، ويُرى أياماً كالشامة إلى أن تقوى الطبيعة على دفعه، فيتضاءل وتفنى مادته. وفي الشامات ما يُرى أسود، فإن كان الدم محترقاً غلب السواد عليه، كما يحصل لمن لازم الشمس متعرضاً لها من دون حائل". لا يتفق العلم الحديث مع الشرح المذكور بأن أصل الشامة دم، إلا أنه يوافق على توصيفه للظاهرة بأنها احتباس، أو تجمع للخلايا الصبغية بشكل عنقودي بدل التمدد الطبيعي، وهو بمعنى آخر ورم حميد. كذلك يتفق العلم مع ذكر تأثير الشمس على تلوين الشامات، حتى أنّ ظهور الكثير منها سببه أشعة الشمس خاصةً في مرحلة الطفولة والمراهقة. ويتوسع الصفدي في نقل أسباب اختلاف لون الشامات، وأسباب ظهور الشعر في بعضٍ منها وغيابه في البعض الآخر، وفق نظرية "الطبائع الأربعة": وهي نظرية طبية تبناها الإغريق والفرس والرومان والعرب والمسلمون قديماً. وتفسر النظرية الحالة النفسية والصحية لكل إنسان وفق توازنات وتفاعلات بين أربع عناصر أساسية في تركيبه: "السوداء والصفراء والبلغم والدم" أو "الحار والبارد والرطب واليابس"، والتي يتمثّل فيها أيضاً عناصر الطبيعة الأربعة: الأرض والماء والنار والهواء. وإن كانت النظرية ما زالت قائمة ضمن ما يسمى الطب البديل أو الطب الآسيوي والعربي، إلا أن الطب الغربي المعاصر يرفضها تماماً. ثم يستدرك الصفدي على نقولاته قائلاً :"هذا تعليل حِكَمي في وجود الخيلان، والصحيح أنها من فعل الفاعل المختار تبارك وتعالى، لأنها توجد في بعض الناس دون بعض، بل في الجسد الواحد في مكان خاص دون غيره، وسائر الأبشار صالحة لما علّله الحكماء، فبطُل ما يدّعونه". لكن الغريب هو عدم ذكر الصفدي لأية دلالة للخيلان على وجود أي مرض مع علمنا حالياً بدلالة بعضها على وجود سرطان جلدي يحتاج للعلاج. فإما أن الطب حينها لم يكتشف أي دلالة مرَضيّة للخيلان أو أن الصفدي لم يجد ذلك فيما وقع بين يديه من مصادر.

الدلالات النفسية والجنسية والمستقبلية للشامات

يخصص الصفدي باباً في "دلائل الخيلان من كلام أبقراط"، ويقدّم له بالقول: "إن أرباب الفراسة لهم كلام على الخيلان واختصاصها بمكان في الجسد دون غيره، واستدل بعضهم على صحة هذا العلم بقوله تبارك وتعالى "إن في ذلك لآياتٍ للمتوسّمين".  ويُعتبر الحكيم اليوناني أبقراط "أبو الطب" وأعظم أطباء عصره وأول من دون كتب الطب، وله فضل كبير على منهج الطب الإسلامي إذ ترجم العرب والمسلمون الكثير من كتبه وعملوا بها. ولهذا، ينقل الصفدي عن أبقراط: "من كان على رأس أرنبة أنفه شامة لم يكد يعيش له ولد". وهذا التوقع يحتاج لبحث معاصر، إلا أنه قد ينطبق على أخبار النبي موسى، إذ قال ابن قتيبة في كتابه المعارف: "وفي أرنبة أنف موسى شامة"، ولم يُعرف له أبناء إلا "جرشوم" و "أليعازر" ولا تذكر المصادر حياتهما ولا متى وكيف وأين توفيا. لذلك، يعتقد البعض أنه لا نسل لموسى.

"ومن كان برأس فرطوسته وهو وسط شفته العليا شامة، كان محبّاً لإتيان الذكور، ولم يكن لتأتيه من النساء ولد". وهذه الفرضية تحتاج إلى دراسة علمية لإثباتها أو نفيها، لكنها تتفق عامةً مع توجه الدراسات العلمية التي تقترح وجود فروقات في ملامح الوجه بين ذوي الميول الغيرية وذوي الميول المثلية، ذكوراً وإناثاً، كما تتفق مع برامج الذكاء الإصطناعي التي باتت قادرة على تحديد الميول الجنسية للأشخاص، بنسبة مرتفعة، من خلال التعرف على التركيب الهندسي للوجه، مما يدعم أكثر فأكثر نظرية ارتباط تنوع الميول العاطفية والجنسية بالتكوين البيولوجي للجنين.

هل لديك شامة؟ هنا معتقدات القدماء من العرب وأشعارهم عن معناها على الوجه والعنق والكتف
"يكون الخال في وجه قبيح فيكسوه الملاحة والجمال" عن الشامة والجمال عند العرب
ويتابع الصفدي نقلاً عن أبقراط: "ومن كان على أنفه في القصبة شامة كالعدسة، كان شبقاً ومحبوباً إلى النساء، ومن كان على وجنته اليمين شامة كالترمسة، كان شحيحاً ناقص الحظ من أهله، ومن كان على وجنته اليسرى شامة، كان كدّاحاً شقياً. ومن كان على إحدى أذنيه من ورائها شامة، كان مبذراً سيء التدبير، ومن كان على أحد جانبي عنقه شامة كان وفياً تقياً". ويتابع: "ومن كان على حلقومه شامة كان موسيقاراً محباً للطرب. ومن كان على كتفه، أو من قِبَل وجهه شامة أو خيلان كان ذا حظ وسعة، ومن كان على رأس كتفه، الأيمن شامة مشعرة كان عاملاً، أو والياً، أو ذا وجاهة. ومن كان بين كتفيه شامة أو خيلان كالزر محمر اللون كان سعيداً، أو ملكاً كبيراً". وكما نرى فإن بعض تلك الدلالات من الصعب إثبات صحتها، لأنها تدل على الحظ أو الأخلاق وهي معايير نسبية، لكن النبوءة الأخيرة تستدعي التوقف عندها، إذا أخذنا بعين الاعتبار الأخبار الصحيحة التي أوردت أنه كان للنبي محمد علامة خاتم النبوة بين كتفيه، وهو عبارة عن خال كبير منتفخ مثل "زر الحجلة"، أي بيضة الحجلة من كبره، ولونه أحمر كالوصف الوارد عن أبقراط، وقد نال النبي مجداً يفوق الملوك في حياته وبعد مماته، فهذه التوافيق مدعاة للتأمل في كل الأحوال، في دلالات الشامة وفي أسلوب كتابة الأخبار.

ثم يشير الصفدي إلى أنه "من كان على صدره شامة أو شامات كان وحيداً في أفعاله، ولا يقتدي بغيره. ومن كان على ثديه الأيمن أو الأيسر شامة كان صديقاً لمن صادقه ومحباً له. ومن كان على سرته شامة أو أكثر، كان نكَاحاً شديد الشهوة. ومن كان على بطنه شامة كان شبِقاً محباً للنساء... ومن كان على إحدى عضديه أو زندية شامة كان سفَّاراً مرزوقاً في الأسفار، ومن كان على ظاهر إحدى كفيه شامة كان تعيساً مهدوراً، ومن كان بإحدى أصابع يديه شامة أو شامات كان رديء الحظ ممقوتاً سيء الأخلاق".

وأما "ومن كان على فخذه الأيمن شامه كان رئيساً في نفسه عظيماً من العظماء، ومن كان على فخذه الأيسر شامة كان سعيداً في المتاجر والأسفار، ومن كان على صلبه شامة خضراء كان محبوباً إلى العلماء محظوظاً منهم... ومن كان على إحدى ركبتيه شامة كان نشيطاً على المشي صبوراً على الأشياء.

مع أنّ العرب ترجموا أعمال أبقراط وغيره من العلماء، إلا أنهم لم يعتمدوا أفكارهم، بل كان لهم نقدهم الخاص وتقييمهم لها

ومن كان في إحدى ساقيه على بطونهما شامة كان تعساً ضنك المعيشة (أي يعيش حياة ضيق)، ومن كانت له شامة على قدميه كان شقياً معترّاً، ومن كان بوجهه أو ببدنه شامات كثيرة العدد كان ذلك من تغلّب السوداء (وهي مرض الميلانخوليا أو الإكتئاب)، وكان كارهاً للنساء، قليل الإلف للناس، ومن كانت له شامة بقدر الحمصة سوداء أو خضراء في وسط ظهره على السلسلة نال أموالاً جزيلة إرثاً ومن غيره". وبعد أن يختم الصفدي كلام أبقراط من غير جزم بصحة ما نقل ولا نفي لصحة ما ورد، ينتقل المؤلف إلى مجموعة واسعة من الأشعار التي قيلت في الخال، مرتبة وفق القافية. ويبدو أن النواجي قد نقل قسماً كبيراً من تلك الأشعار إلى كتابه "صحائف الحسن"، كما أضاف عليها بعض الأشعار كقول ابن النبيه المصري: بمهجتي أحورٌ قد جمعت، جفونه المرضى فنون الفتون مغنطيس الخال على خده، يجذب بالسحر حديد العيون

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard