شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
رواية

رواية "حصن التراب"، حكاية عائلة موريسكية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 17 أغسطس 201701:41 م
أول ما يلفت القارئ في رواية أحمد عبد اللطيف الأخيرة "حصن التراب" هو اللغة... إيقاع اللغة. ضرباتٌ سريعة لفرشاةٍ تلوّن لوحةً وتخلق عالماً. نقرات عصفورٍ سريعة تترك آثارها على بركة مياهٍ صغيرة، صانعةً دوائر تكبر وتتسع قبل أن تتلاشى مخلّفةً في الكون أثرها. "رأى أبي أن أوراقاً تتساقط من أغصان شجرة. رأى أنه اقترب من ورقة واحدة وقرأها. كانت الورقة شديدة الصفرة. كانت بحجم يده. كانت خريفية جداً. رأى أن اسمه محفور بين نسيجها. في المنام، أدرك أبي العلامة. وفي الصباح، بصوت قادم من مكان آخر، أخبرني أن ورقته سقطت من شجرة الحياة. أخبرني كأن الأمر يخص رجلاً آخر. أخبرني بأن أربعين يوماً ما تبقى له في الحياة". التكرار في الكلمات، الجمل القصيرة التامة، الحساسية للّغة ولمفرداتها، ما جعل من هذا النص بهياً، عذباً، منساباً، كترنيمة، رغم ما يحتويه من قسوةٍ في أحداثه وموضوعه، إذ تتبع رواية "حصن التراب" مأساة الموريسكيين، وهم أحفاد المسلمين الذين تمّ تخييرهم بين التخلي عن دينهم أو التهجير من موطنهم، بعد سقوط الدولة الإسلامية واستلام التاج الكاثوليكي للحكم في إسبانيا. ورغم أن بعضهم اختار تغيير دينه مقابل ألا يغادر أرضه فإنه لم ينجُ من التشكيك بولائه، فخضع لمحاكم التفتيش، ولم يسلم من أحكام الإعدام.
يلعب الكاتب لعبته الفنية في قصّ حكاية الناس العاديين الذين أهملتهم كتب التاريخ من خلال تتبّعه لعائلة "دي مولينا" الموريسكية، متخيّلاً وجود مخطوطات سرية تحوي تاريخ العائلة، يتم تناقلها من جيلٍ إلى جيل، وكل فردٍ في هذه السلالة عليه أن يتابع تدوين مخطوطات جديدة عن حياته ثم توريثها مع ما سبقها إلى ابنه أو ابنته البكر. "أمرني، بصوت إلهي، أن أضيف إلى الأسماء أسماء أبنائي. قال: ستسلّم كل تلك الأوراق إلى ابنك البكري. وصية جدنا أن تسلم الأوراق إلى الابن البكري. قال: الشرط أن يكون الابن بكرياً، لا أن يكون ذكراً. قال: ستجد من بين الأوراق أوراقاً كتبتها جداتك. ستجد أبناء جداتك قد نسبوا أنفسهم إلى الأم حتى لا تنقطع السلالة. حتى لا ينقطع التاريخ". ماذا تتضمن هذه المخطوطات إذاً؟ إنها تحكي قصص الأفراد، قصص الناس الذين تهملهم كتب التاريخ. فالرواية تتخيّل وجود تاريخٍ موازٍ لما خطّه المؤرخون، تاريخاً لا يهتم بتدوين الأحداث الكبرى كما تفعل كتب التاريخ، بل يهتم بحكايات الناس الذين وُجدوا في هذا التاريخ. أليست حكاياتهم تاريخاً أيضاً؟ ألا يكون أكثر صدقاً وأهمية من التاريخ بمعناه المألوف؟
في رواية حصن التراب لا نقف أمام حكاية تسير بتصاعد، بل نحن إزاء حكايةٍ كبيرة تمّ تفتيتها إلى حكايات صغيرة متفرقة
رواية حصن التراب للكاتب أحمد عبد اللطيف، حكاية الناس العاديين الذين أهملتهم كتب التاريخ...
يختار "عبد اللطيف" من هذه المخطوطات التي تمتد لأكثر من قرنين ونصف، أجزاءً. تروي فيما ترويه حكاية الانتماء. حكاية الهوية. حكاية أشخاصٍ طردوا من موطنهم الذين عاشوا فيه لشكوكٍ فيهم بأنهم لم يتركوا دينهم الأصلي، وبأنهم يمارسون طقوس هذا الدين سراً، وفي الأرض التي هُجّروا إليها تمت معاملتهم كغرباء أيضاً، فنبذوا لأنهم حسبوا على الطرف الآخر المطرودين منه. وظلّ سؤال الهوية والانتماء سؤالاً ملحّاً يعذبهم. يقترح الكاتب توسيع مفهوم الرواية، فيوظف في نصّه وثائق من محاكمات التفتيش، وأشعار صوفية، جنباً إلى جنب مع السرد والتدوين، ويذهب أبعد من ذلك حين يقترح في متن سرده روابط إلكترونية لموسيقا وأغانٍ أندلسية، أو لأفلام وثاقية تتطرق إلى الموضوع نفسه، ويخبرنا في البداية أنه لا يمكن قراءة الرواية واستحضار حالتها دون اللجوء إلى هذه "اللينكات"، فهي "جزءٌ أصيل في اللعبة السردية".
&t=119s في "حصن التراب" نحن لسنا أمام حكاية تسير بتصاعد يصل البداية بالنهاية، بل نحن إزاء حكايةٍ كبيرة تمّ تفتيتها إلى حكايات صغيرة متفرقة، كل واحدةٍ منها كتبها فردٌ من سلالة "دي مولينا"، لكن هناك خيطاً خفياً يجمع تبعثرها ويشدّ أواصرها. فما نقرأه بصوت واحدٍ منهم، نسمع صداه في حكاية الآخر، وما بين الصوت والصدى تتشابك الأحداث، تختلط الأحلام بالحقائق، وتمتزج الغرائبية بالوقائع، وتنطلق أسئلة الوجود مفجّرةً نفسها من داخل السرد، تلك الأسئلة التي يمكن لنا أن نطرحها ذاتها على أنفسنا اليوم، وكأن التاريخ الذي يفصلنا عنها لم يمضِ. "من يستطيع الآن أن يحدد أي دماء تجري في عروقنا؟"، "ما الذنب الذي اقترفه الموريسكيون؟"، "بين القهر في أرضك والقهر في أرض غريبة، أيهما تختار؟"، "هل الدين جزء من الهوية؟"، "لماذا تريدني أن أشبهك لتقبلني؟".
أحمد عبد اللطيف، روائي ومترجم مصري من مواليد 1978. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في الرواية عام 2011، وجائزة المركز القومي للترجمة عام 2013، والمركز الأول بجائزة ساويرس الثقافية للرواية عام 2015. له خمس روايات: "صانع المفاتيح" التي تدرس في قسم الدراسات العربية بجامعة تشارلز في التشيك، "عالم المندل"، "كتاب النحات"، "إلياس"، "حصن التراب". المؤلف: أحمد عبد اللطيف/ مصر الناشر: دار العين/ القاهرة عدد الصفحات: 260 الطبعة الأولى: 2017
يمكن شراء الرواية من موقع الفرات.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard