شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ابحث عنّي إلى أنْ تجدني": قصيدة حبّ عمرها 4000 سنة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 19 ديسمبر 201709:13 م

أقدم قصيدة حب في العالم، وجدت محفورة على أحد ألواح الطين البابلية، درسها الدكتور أندرو أر جورج، وهو أستاذ الدراسات البابلية في سواس (قسم لغات وثقافات الشرق الأدنى والشرق الأوسط) في جامعة لندن، وحلل نقوشها في محاضرة في معهد دراسات المشرق، في جامعة شيكاغو (منها صور المقالة). تعتبر جامعة شيكاغو من أهم مراكز العالم في الدراسات البابلية، فقد قدّمت في السنوات المئة الأخيرة، أبحاثاً وقواميس في دراسة اللغة البابلية، أصبحنا بفضلها قادرين على قراءة أدب وثقافة تفصلنا عنها 4000 عام. النقش مكتوب باللغة الأكادية، التي تسمى أيضاً باللغة الآشورية-البابلية، وهي من اللغات الساميّة الشرقية، وكانت اللغة المحكية في بلاد ما بين النهرين ما بين الألف الثالث حتى الألف الأول قبل الميلاد، وكانت تدون بالخط المسماري. بعد أنّ حوّل أندرو جورج النقش الثلاثي الأبعاد إلى نص، وجد أنّ إحدى نقوش اللوح ليست تعويذة كما هو حال النقوش الأخرى، وإنما هي قصيدة قصيرة، هي أقدم ما وصلنا من حضارات العالم حتى اليوم. ولأن اللغة البابلية تستخدم حروفاً متحركة وحروفاً ساكنة، يعتقد المختصون بأنه بالإمكان لفظها وقراءتها إلى حدّ كبير كما كان ينطق بها سكان بلاد ما بين الرافدين أنفسهم. كما أن اللغة تميّز بين المذكر والمؤنث، ومن هنا يمكن أن نعرف أنّ صوت القصيدة هو صوت صبية تخاطب شاباً بصيغة المذكر، كما يقول الدكتور جورج.

اللغة السومرية هي من أقدم اللغات المكتوبة في الحضارة البشرية، وما وصلنا مكتوب فيها يعدّ من أول كتابات العالم
كلمات صبية لشاب تعود لأكثر من 4000 سنة... نحن هنا أمام ما يعتقد أنه أقدم قصيدة حب في العالم

تقول القصيدة، كما ترجمها موقع رصيف22، عن قراءة الدكتور أندرو جورج:

"ابحث عني إلى أن تجدني"

أنا في البريّة وقد انتهيت من اقتلاع الأشواك،

والآن سأزرعُ كرمة عنبٍ.

وقد غمرت النَّار المستعرة في داخلي بالماء.

فأحبّني كما تحبُّ حملانك الصغيرة

واعتنِ بي كما تعتني بقطيع ماشيتك

وابحثْ عنِّي إلى أنْ تجِدني

اللغة السومرية هي من أقدم اللغات المكتوبة في الحضارة البشرية، وما وصلنا مكتوب فيها يعدّ من أول كتابات العالم
كلمات صبية لشاب تعود لأكثر من 4000 سنة... نحن هنا أمام ما يعتقد أنه أقدم قصيدة حب في العالم
في السطرين الأول والثاني، تستخدم القصيدة فعلاً في صيغة الماضي وآخر في صيغة المستقبل، الأول فعل "اقتلاع" وتحرر، والثاني فعل "زرع" وتجديد للحياة، وكأنّ هناك تقابلاً بينهما: تخلّص من مشاكل الماضي مقابل الأمل في فرح ينتظرها في المستقبل. فهناك "مسافة" بين الحقيقة والواقع من جهة، والأمل والمستقبل من جهة أخرى. وكأن القصيدة تنهيدة من أوجاع الحياة ومعاناة ماضيها، وتطلع إلى حلاوة الأمل والرغبة في اللقاء والفرح. وما نعرفه من صوت القصيدة، أنّ الفتاة صاحبة الأبيات، تأتي من خلفية زراعية، وأما حبيبها الذي تناديه فهو راع، وبهذا ترمز قصة الحبّ بينهما، بمعنى من المعاني، إلى "تزاوج" قسمي الحياة البابلية، وعماد اقتصادها: الزراعة والرعي.

من تعابير الحب في اللغة الأكادية، إحدى أقدم لغات العالم: كُنْ حبيبي "أتّا لو ماري" وكوني حبيبتي "أتّي لو مرتي"

ومع أنّ النار قد تفسّر اليوم بأنها رمز للحب والشغف، إلاّ أنها في الثقافة السومرية، كانت تعتبر رمزاً للقلق وللخوف، ولهذا يمكن فهم البيت: "وقد غمرت النَّار المستعرة في داخلي بالماء"، بأنّ الصبية تتحدث عن نهاية مخاوفها، ورغبتها بأن تبدأ حياة جديدة، وكأن محبتها للشاب الذي تناديه قد حررتها. ولأن الشعر يشير ولا يفصح، علينا البحث عن المعاني "الثواني" كما يسميها الناقد الفريد الجرجاني، أي المعاني "الثانية" و"الثالثة" و"الرابعة"، لأنّ النصّ الإبداعي ينطوي على طبقات عديدة تتيح للقراء في كل عصر أن يعيدوا اكتشاف النص من جديد. ونحن اليوم نعيد اكتشاف قصيدة شفافة وعميقة عمرها 4000 سنة، وإننا ندعو قارئاً جديداً لأن يستشف معنى آخر في هذا النص المنفتح على مستقبل القراءة. ونحن نقف أمام صوت تفصلنا عنه أربعة آلاف سنة، تذهلنا قدرته على مخاطبتنا بلغة لازالت تعبّر عن مشاعر مألوفة لدينا، فكم هي قريبة دعوة الصبية في القصيدة، من أغنية أم كلثوم من القرن الماضي: "صالحت بيك أيامي، سامحت بيك الزمن، نستني بيك آلامي، ونسيت معاك الشجن". فهل مشاعر الحبّ هي المكون الأعمق في ارتباطنا بأجدادنا الأوائل؟

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard