شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"مُجمَّع المحاسن" و"فردوس الأرض"... كيف كانت بغداد التي احتلّها المغول؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 17 فبراير 201708:04 م

بينما كان الخليفة المستعصم بالله يُمعن النظر في جاريته المفضلة عُرفة، في خلوة في غرفته حيث كانت تلاعبه وتُضاحكه، عَبَر سهمٌ (مغولي) الشبكة الحديدية للنافذة، وأصاب الخادمة في غير مقتل فأفسد عليه مجلسه. ارتعب وهو يقول لنفسه: "لم أعتقد أنهم بلغوا هذا الحد"، ثم أمر بإسدال الستائر، وأكمل ما كان فيه.

كانت هذه أولى أمارات غزو بغداد، كما رواها المؤرخ يوسف زيدان في إحدى الحلقات التلفزيونية التي تناولت سقوط المدينة الأم.

وأضاف ابن كثير، في كتابه "البداية والنهاية"، أن وابلاً من سهام كهذه أمطر المدينة بأسرها: المدرسة المستنصرية والمغيثية، جامع الإمام الأعظم، البيمارستان العضدي (أول مستشفى في بغداد)، جامع الخليفة، مشهد موسى الكاظم، وحتى قباب قبور الخلفاء ودائرة البريد. حَمَلت السهام رسالة إلى جميع الأهالي بأن لهم الأمان، فقط إن استسلموا، وهو ما لم يفعلوه.

لم تكن هذه الفاجعة (1258م) حَدَثاً عادياً على الدنيا، فسقوط بغداد ليس مجرد طي صفحة تاريخ مجيدة ورميها في عتمة النسيان، وإنما كانت هدماً لكل الأساطير التي عاشت المدينة عليها وأكسبتها سمعة عالمية حَمَتها من انهيار تأخر كثيراً.

فالعاصمة اشتهرت بأنها المكان المُقدس ببركة أحفاد نبي السماء، وبسمعتها كمدينة لا يقوى عليها حصار أو فيضان، وفقاً لما رواه الدكتور محمد حمزة، عميد كلية الآثار، لرصيف22.

وأضاف حمزة أن العباسيين كانوا يعتقدون بأبدية وجودهم، حتى تأتي اللحظة التي يُسلمون المُلك فيها إلى عيسى عليه السلام، وأن هذا أمر مُقدس لا يقوى على إيقافه أحد، حتى ولو كان مغولياً يرافقه آلاف الفرسان.

وقد عبّر الخليفة نفسه عن هذا الاعتقاد حين قال إن "بيت العباسيين مستمر إلى يوم القيامة" في رده على هولاكو الذي توعده برسالة سابقة بأن يجعل بغداد "طعمة للنار".

بغداد فردوس الأرض

في تلك المرحلة كانت عاصمة العباسيين قد بلغت من الحُسن حداً جعل أهلها يتساءلون: "كيف يكون بالفردوس المزيد؟".

وقد دفع ذلك البعض إلى أن ينظروا إليها كمُلهاة عن الدين. وصفها "شيخ الأتقياء عبد الله بن المبارك" في أشعاره بأنها ليست "مسكناً للزهاد"، واعتبرها القطب الصوفي بشر بن الحارث "ضيقة على المتقين، ما ينبغي لمؤمن أن يقيم فيها" ولهذا لم يأكل من غلتها حتى ماتَ.

لُقبت بغداد بـ"ابنة المنصور" (المنصور بالله أبو جعفر ثاني خلفاء الدولة العباسية)، و"الزوراء" (لأن بواباتها كانت مزوّرة عن بعضها، أي غير متقابلة)، و"مدينة السلام" (نسبة للقب نهر دجلة، وادي السلام)، و"المدينة المدورة" (الدائرية).

قصة سقوط بغداد في يد المغول، وتحطم كل الأساطير التي أكسبت المدينة سمعة عالمية حَمَتها من الانهيار
عندما كانت بغداد مدينة المرح وفردوس الأرض... من لم يدخلها "ما رأى دنيا ولا رأى ناس"

وفي عز عنفوانها، امتثل للفرمانات الصادرة عنها لمدة 508 أعوام، 50 مليون نسمة يعيشون في 11 مليون كيلومتر مربّع، كما جاء في أطلس تاريخ الدولة العباسية لسامي المغلوث.

اعتبر "الإمام الشافعي" أن مَن لم يدخلها "ما رأى دنيا، ولا رأى ناس". ونسب الرحالة "ياقوت الحموي" للكاتب اليعقوبي قوله، إن بغداد "ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها".

ولم يبالغ الشاعر "شمس الدين الكوفي" حين رثى خرابها قائلاً: يا دار مذ أفلت نجومك عمنا/ والله من بعـد الضياء ظلام.

في وصف بغداد

يصفها المؤرخون بأن سورها ثخين عرضُه 35 ذراعاً يليه آخر سُمكه 20، واللبنة الواحدة منه تزن 117 رطلاً. واستُقدم لإنشائها أعظم الصنّاع والمهندسين بميزانية بلغت في أكبر الأقاويل 18 ألف ألف دينار، وأقلها 4 آلاف ألف دينار فقط.

قيل إن أبوابها سحرية، أحدها من صنع الفراعنة (باب خراسان)، والآخر من بناء أحفاد داود عليه السلام (أبواب القبة)، وينتصب بجوارها 163 برجاً شاهقاً للحراسة، وفقاً لما أروده الخطيب في "تاريخ بغداد".

وبلغت الموازنة العامة للدولة حينذاك أرقاماً فلكية: 7 مليون مليون دينار خلال عهد الرشيد، كما قال هلال الصحابي في "رسوم دار الخلافة"، ما أجبر اللغويين على اصطكاك مصطلحات جديدة تعبّر عن معنى "المليار" فكانت كلمتي "البَنور" و"البَطّات".

كانت المدينة تشهد حركة تجارية بالغة القوة، فتصلها المنسوجات الإيرانية والتوابل الهندية وفواكه بلاد ما وراء النهر، حتى الجواري والخصيان، والحيوانات كالنمور والفيلة.

وبلغ بأصحابها من اليُسر أن كبير التجار "مقلد بن صفي الدين" تزوج ابنة عمه ودفع لها مؤخر صداق قدره 100 ألف دينار.

كما يؤكد ابن الجوزي في كتابه "أخبار الحمقى والمغفلين" أن ثروة أحد السكان بلغت "ألف ألف درهم"، بينما يوضح جرجي زيدان في "تاريخ التمدن الإسلامي" أن ما امتلكته قبيحة أم الخليفة المعتز من نقود وذهب وياقوت فاقت قيمته 4 ملايين دينار.

مدينة المرح

ويكشف هادي العلوي في "التاريخ الحضري لبغداد" المزيد من النعيم العباسي، موضحاً مدى انتشار الحدائق بها وهي التي عرفت كل أنواع نباتات الزينة.

كما أوت القصور مراقص خاصة، تؤدي فيها القيان (جواري اللهو) عروضهن لصاحب الصرح. وعرفت المدينة مسرح دمى، سُمي وقتها بـ"خيال الظل"، وكان للأطفال سوق لعب خاص بهم.

مارس الأهالي الرياضات المختلفة، من الرماية وركوب الخيل حتى الصولجان ورمي البندق والشطرنج. وللشاعر البغدادي "ابن الرومي" أبيات في يمتدح فيها صديقه البارع في التلاعب بـ"الرخاخ" (الطوابي) و"الفرازين" (الوزراء).

يصف لنا الخطيب دار الخلافة، بأنها يقوم عليها 7 آلاف خادم و700 حاجب و4 آلاف غلام، مغطاة بـ38 ألف ستر ديباجي موشى بالذهب والصور، و22 ألف بساط كَسَت أرضها الرخامية، تنتشر في بساتينها الوارفة بِرَك ماء الرصاص و15 تمثالاً فضياً لفرسان يرفعون الحِراب المتوعدة.

وصف الجوزي هذه الدار بـ"مناقب بغداد" بأنها "هي في نفسها بلد"، كما قال عنها الرحالة بنيامين التطيلي: "في قصر الخلافة من الأبنية ما يحير العقول، ففيه من الرخام والأساطين المزوقة بالذهب المزينة بالحجارة النادرة المنقوشة بالريازة البديعة تكسو الحيطان، وفي القصر كنوز وافرة وخزائن طافحة بالذهب والثياب الحرير والجواهر الكريمة".

ويعود لنا الخطيب مؤكداً أن بغداد عرفت الحَير (حديقة حيوان) تفتح أبوابها للناس بلا مقابل، ليشاهدوا الفيلة المكسوة بالحرير وخدمها الثمانية يجبرونها على الطاعة بشعلات النار، وصفِّ زنازين السِباع المُصفَّدة العنق بالسلاسل تزأر وتحاول الخلاص من أسر الحديد، وغيرها من مختلف أنواع الوحوش والأسماك.

وروى الحموي أن من معالم بنائها اعتلت قبة خضراء عملاقة إيوانها الرئيس (مجلس الخليفة، وهو مكان فسيح تحيطه الجدران من ثلاث أنحاء، سقفه نصف دائري) ليبلغ ارتفاعهما معاً 80 ذراعاً، نُصب فوقها تمثال على شكل فارس يمتشق رمحاً يُرى من كافة الأنحاء، وذكر في معجمه أن الأهالي كانوا يعتقدون بأن الرياح كلما نجحت في زحزحة ثِقله إلى إحدى الزوايا، عَلِمَ الخليفة أن المتاعب ستأتيه من هذه الجهة.

كيف سقطت مَن لا تسقط؟

لم ينقذ رمح الفارس المذكور الخليفة المستعصم من خطر المغول. كانت النجاة مستحيلة أمام 200 ألف مغولي يطوّقون أبوابها الأربع ولا يتمنون شيئاً أكثر من قتل الخليفة واستباحة كل شيء. هؤلاء لن تردعهم المجانيق والعرَّادات (آلات لقذف الحجارة) التي نُصبت في ساحات بغداد التي كانت تزدان سابقاً باستعراضات الخيالة ومسابقات الرماية والمصارعة.

القصة في جميع المراجع تكاد تكون واحدة: هُزم الجنود وسقطت الأسوار وهوت الأبراج، أطبق المعتدون على دار الخلافة من جانبين: برج العَجَم (الشرق) والبيمارستان العضدي (الغرب) وأصبح استسلام المدينة أمراً محتوماً.

لم يستعمل الخليفة نفق النجاة الذي بناه جده المنصور وقيل إنه يقود مُستخدمه إلى مسافة تبعد فرسخين أو ثلاثة (الفرس يعادل ما بين 4 و6 كيلومترات) عن المدينة، فخرج بعد هزيمة رجاله الـ10 آلاف مطأطئ الرأس في رَكْب قوامه 700 من الفقهاء وأعيان دولته إلى هولاكو الذي لم يستوصِ بهم خيراً، فعزله عنهم ثم أهلك صُحبته جميعاً مع أكبر أبنائه، قبل أن يضعوا "أمير المشرق والمغرب" في "شوال" ويقتلوه رفساً بحوافر الخيل.

يقول المؤرخ "ظهير الدين الكازروني"، واصفاً بغداد بعد زيارته لها عقب الغزو "وافيتُها بلدة خالية، وأمة جالية، ودمنة حائلة، ومحنة جاثمة، وقصوراً خاوية، وعراصاً باكية، وقد رحل عنها سكانها، وبان عنها قطانها، وتمزّقوا في البلاد، ونزلوا بكل واد".

اجتاح المغول المساجد لتفكيك قبابها الذهبية، وسلبوا ما حوته القصور من تحفٍ نادرة، وأباحوا المدينة 40 يوماً، و"وضعوا السيف في أهلها" كما ذكر المؤرخ ابن الفوطي الذي عاصر الحدث وأُسر في الهجوم.

وأشار إلى أن المغول قتلوا كل "مَن قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان والخطباء والأئمة".

وزعم "ابن بطوطة" في رحلته أن التتر قتلوا 24 ألف عالم دين، بالإضافة إلى كل مَن عُثر عليه من العباسيين.

أما الناس فقد اختبأوا في كل كوة تصلح لدرء أجسادهم: في الكنائس التي أمر هولاكو ألاَّ تُمس كرامةً لزوجته النسطورية، وفي المغارات والآبار والسراديب.

الحمّامات العامة، التي ضرب ابن بطوطة المثل بفخامتها وبمقصوراتها المزودة بأنابيب المياه الباردة والحارة وتغنى الرحالة الأندلسي "ابن جبير" في كتابه "الرحلة" بحُسنها، وقدّر هلال الصحابي (صاحب الرسوم) بأن عددها زاد عن الـ150 في آخر أيام الدولة، اختبأ الناس في أفرانها وأنابيبها هرباً من جحيم الشوارع.

أما مَن تمترسوا في البيوت والفنادق، فكان الجنود يفتحون الأبواب عليهم عنوة، ويقتلون كل مَن يصادفهم، حتى لو هرب إلى الأسطح.

أُحرق جامع المدينة الكبيرة، ومشهد موسى الكاظم، والمدرستين، التاجية وبنفشا، فيما أغلقت المستنصرية ولم تُفتح إلا بعد عامين.

ويزعم "ابن كثير"، أن المزاريب صارت تُسقط الدماء على الطرقات ورؤوس السائرين كأنه المطر، ويروي أن مغوليان استثقلا غنائمهما فانتقيا بغدادياً قتلاه وشقّا جوفَه ليضعا الغنيمة داخله.

أما عدد الضحايا فـ"قيل ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس"، بحسب ابن كثير.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard