شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ملكة سبأ الحكيمة، الأم العذراء وعشيقة النبي سليمان

ملكة سبأ الحكيمة، الأم العذراء وعشيقة النبي سليمان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 2 مارس 201705:47 م

ملكة سبأ، الأسطورة المتجددة في كل العصور. ألهمت قصتها شعب اليمن سيرة شعبية خاصة بهم، ووردت سيرتها بشيء من التفصيل في العهد القديم من الكتاب المقدس، وقد تركزت تلك السير على حكاية لقائها المثير بالنبي سليمان، كما ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة النمل، وألهمت الشعب الأثيوبي في العصور الوسطى أسطورة جديدة عنها مختلفة عما سبقها، فاعتُبر ابنها من سليمان جد ملوك أثيوبيا عبر التاريخ. وأصبحت في العصر الحديث مصدر إلهام في الأوبرا والموسيق والمسرح والسينما، وهناك عشرات الأفلام والقصص والأعمال الأوبراتية في ثقافات العالم من أقصى شرقه في اليابان، حتى أقصى غربه في الولايات المتحدة. وفي كل منها، تتجلى ملكة سبأ بشكل وهوية وأصل وسيرة مختلفة.

هي ملكة القارة الأفريقية بجمالها المشهود، وهي فخر تاريخ اليمن، وهي الملكة الحكيمة، وهي عشيقة الملك سليمان، وكذلك الأم العذراء لولده الأفريقي الذي أنجبته من غير أن يمسّها، وهي ملكة في النصوص اليهودية والمسيحية والإسلامية. تعطيها الحضارات أسماء وألقاب مختلفة، فهي "بلقيس" في الثقافة العربية، و"ملكة الجنوب" في التراث المسيحي، و"ماكيدا" في إثيوبيا، وتجسدها كل حضارة بألوان مختلفة في كل عصر، من أقدم الآثار مروراً بالعصور الوسيطة وعصر النهضة، حيث تجدد الاهتمام بقصتها، حتى عصرنا الحالي. هناك دليل مادي وآثار ترجح وجود مملكة سبأ نفسها تاريخياً، وتؤكد وجود خطوط تجارة هامة بين مملكتها وجنوب بلاد الشام، ولكن المثير في حكايتها، أن التفصيل الوحيد الذي تشترك به كل القصص هو أنها "ملكة"، مع أن الدلائل التاريخية والأثرية على وجودها وحكمها أو حتى اسمها، تكاد تكون معدومة.

من أساطير الشرق القديم وقصص الكتب المقدسة، تتنقل ملكة سبأ في مخيلة شعوب العالم

جينا لولو بريجيدا في دور ملكة سبأ في فيلم "Solomon and Sehba"... قصة مؤامرات وعشق وإغواء، وانعكاس لتصوير "الشرق" الأسطوري

ورد أقدم ذكر لها في سفر العهد القديم (سفر الملوك الأول)، في موقعين، وتقول القصة بأن الملكة سمعت بحكمة الملك سليمان وشهرته، فقدمت إليه محملة بالهدايا، في موكب عظيم، وجاءته بهدايا من الأحجار الكريمة وخشب الصندل وغيرها لا مثيل لها في العالم.

موكب الملكة يصل قصر سليمان (عمل من القرن 15 م، فلورنسا الإيطالية، من مجموعة مؤسسة ساموئيل إيتش كريس للفنون)

وينص السفر على أنها انبهرت بفخامة قصر سليمان، وكذلك بذكائه وحكمته، إذ نجح في الإجابة عن أحجيات وألغاز اختبرته بها. فكانت زيارتها فرصة لتشهد بعظمة الإله الواحد الذي يؤمن به الملك سليمان. ترد القصة في القرآن بتفاصيل مختلفة ولكن برسالة مماثلة، ألا وهي انتقال الملكة وشعبها من عبادة الشمس إلى عبادة الإله الواحد. في النص القرآني، تنعكس الأدوار، حيث يسمع سليمان عن ملكة سبأ وشعبها من هدهد هو من بين "جنوده"، فيرسل لها رسالة يستدعيها للقدوم إليه، وتنتهي القصة بهداية الملكة للإيمان، بدلاً من العبادات التي كانت سائدة في مملكتها. تأخذ القصة منحى مختلفاً في التفاسير في كل من الثقافة اليهودية والإسلامية، وفي بعضها، يتحول التركيز من هيئتها كملكة ثرية حكيمة، إلى اهتمام بجمالها وأنوثتها، وتتحول قصة لقائها مع الملك سليمان من مبارزة فكرية تعكس الصراع ضد ممارسات الشرك والدعوة للتوحيد، إلى قصة حب وعشق أو حتى زواج بينهما. كما تتشعب الحكايات وتتفنن في تحديد أصلها، فهي تارة ابنة ملك اليمن وأمّها من الجن، وبأنها حكمت بعد والدها، أو أنها كانت عذراء عفيفة، والدليل على ذلك هو أن ساقيها كانتا "مشعرتين"، أي أنها لم تكن تتزين وتتجهز لعلاقات جنسية. وحسب أسطورتها الشعبية اليمنية، فالشعر دلالة على خؤولتها من الجن، ومن هذه القصة تتشعب فكرة أنها سبب ابتكار المراهم "المزيلة للشعر"! وفي سرد آخر، تصبح الملكة زوجة لسليمان. وفي كل من هذه الحكايات وصف غني ساحر لقصرها، وكنوزها وجمالها، وصلنا بعضه في قطع من الفن (على الزجاج، والخشب، وكمنمنمات في المخطوطات، ومنحوتات، وكذلك في لوحات).

ملكة سبأ وهدد الملك سليمان، على جزع شجرة، يحمل رسالة الملك في منقاره (إيران 1590 أو 1600)... يتبنى التصوير قصة المكلة كما اعتمدتها الثقافة الإسلامية

ربما الاهتمام الأكبر بسيرة الملكة كان ولايزال في الثقافة الإثيوبية، خاصة في التراث المسيحي عن ومن إثيوبيا، حيث تأخذ "ماكيدا"، هذه الملكة الحكيمة، ساحرة الجمال، هوية أفريقية، وبشرة سوداء. تزور "ماكيدا" الملك سليمان، وتصبح أماً لابنه "منليك" - مع أنها تحافظ على عذريتها - الذي تبناه حكام أثيوبيا كأصل لنسبهم الإلهي المقدس، فيما عرف بالسلالة السليمانية التي حكمت إثيوبيا. أصل الملكة الإثيوبي يؤكد على أنها غريبة، وبأن أرضها بعيدة عن مهد الديانات السماوية، وبذلك يندرج إيمانها تحت اهتمام المسيحية بفكرة الانتشار في بقاع الأرض كلها. وتشكل قصة الملكة ولقاؤها بالملك سليمان المحور الأساسي لـ40 جزءاً مما يعرف بـ"مجد الملوك"، من القرن 14م.

تصوير لسيرة الملكة في التاريخ الإفريقي (من عام 1400م، من الأرشيف الوطني في كينيا)

مراسلات الملوك

مع أن النصوص التي تذكر اللقاء لا تحدد الأحجيات التي تختبر بها ملكة سبأ حكمة الملك سليمان، إلا أنّ فناني العصور الوسطى قدموا تصوراً لها، كما في هذا العمل من ألمانيا 1490 أو 1500 (من مقتنيات متحف الميتروبوليتان للفنون)، حيث تختبر الملكة قدرة سليمان على التمييز بين الصبي والبنت للولدين اللذان يبدوان متشابهين، والتمييز بين الوردتين اللتي تحملمها في يدها، أيهما طبيعي وأيهما اصطناعي.

تندرج قصة اللقاء وتبادل الأحاجي بين ملكة سبأ والملك سليمان تحت باب "مراسلات الملوك"، وهو نوع أدبي يقابل اليوم العلاقات الدبلوماسية بين الدول، ومن هذا المنظار، يمكن استشفاف معالم هامة للحاكم من هذه القصة؛ إذ يجسد نظرة العصور القديمة للذكاء وسرعة البديهة كواحدة من خصال الحكام، وأنهم يستخدمونها للتعبير عن التنافس بينهم وبين ممالكهم، وهذا بدوره يشكل فرصة لتأكيد تميزهم، وشرعية حكمهم، أو شرعية ديانتهم وآلهتهم ومصدر حمايتهم الإلهية. وفي التراث الإسلامي أمثلة عديدة على ذلك، منها الرسائل التي تحمل ألغازاً وأحاجي، أو تكون على شكل هدايا تختبر قدرة الخلفاء على استخدامها وفكّ ألغازها.

في هذه اللوحة للفنان خوان دي لا كورت (رسمت ما بين 1630 - 1660 في إسبانيا)، نرى ملكة سبأ والملك سليمان، في هيئة ملكية فخمة، في تقابل بكامل التفاصيل، ترافقهما حاشيتهما. اللقاء الذي من المفترض أنه قد تم في قصر الملك سليمان، يسقط على قصر من قصور إسبانيا في عصر النهضة، كما تلبس شخصياتها أزياء الملوك والنبلاء من ذلك العصر. تذكرنا القصة، حقيقة كانت أم أسطورة، بالتقاطع بين ثقافات العالم، وطاقة الخيال الشعبي والإبداعي التي تتجاوز النصوص "الأصلية"، وتبدع فضاءات هي بدورها تلهم كتابات ونصوصاً جديدة، وهكذا يستمر التأثير والتفاعل بين الثقافات في إنتاج المعرفة. لعلّ ما يسحر بشكل خاص في قصة ملكة سبأ هو غنى وتنوع القيم التي تجسدها شخصيتها في كل سرد، وغنى محاكاة هذه القصص، رغم تعارضها وحتى تناقضها أحياناً، في الفن عبر العصور.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard