شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
رواية

رواية "نارنجة"... مرايا الحزن والخيبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 12 سبتمبر 201608:24 ص
ينهمر السرد في هذه الرواية كثلجٍ أبيض، وتسيل الكلمات مشكّلةً ينبوعاً من حنينٍ وحزنٍ وحبّ، يتدفق وينسلّ داخلاً مسامك، غامراً روحك برائحة نارنج فوّاحة. تكتب "جوخة الحارثي" في روايتها الثالثة "نارنجة" حكاية "زهور"، الفتاة التي تغادر بلادها لتكمل دراستها في لندن، وهناك تتعرف إلى عالمٍ جديد وحياةٍ مختلفة، لكن ثمة شيئاً واحداً غامضاً يتسرب إلى أيامها ومعه الحزن: ذكرى جدتها وطيفها الذي يزورها بكثافة، فلا تملك منه فكاكاً ولا مهرباً. هكذا في بلاد الثلج البعيدة تبدأ باستعادة حكاية الجدة وأحلامها التي لم تتحقق قط، ونداءاتها المتوسلة: "لا تذهبي"، قبل أن تصمت إلى الأبد، تاركةً في فؤاد "زهور" مشاعر الألم التي لا تستطيع تسكينها أو تهدئتها. "وأنا كنت هناك، قبل لحظة واحدة فقط، كنت في حضنها، أشمّ الزباد والعود والتراب القديم، وكنا نتبادل الأدوار، كنت أردد الكلمة التي طالما رددتها هي: "لا تذهبي". (...) لقد ذهبتُ. لقد ذهبَتْ. لا يمكن تغيير شيء فما خطّته يد القضاء قد خطّته، وكل دموعك وتوسلاتك لا تمحو خطاً واحداً. لقد ذهبتُ، لم أبتسم، ذهبتُ بسطوة الجهل والتجاهل، الغفلة والتغافل، الندم، الندم العاتي، هو ما يجعلني أضعف من الأوراق الصفراء الخريفية تكسرها مكنسة العامل تحت نافذتي”. تسير الرواية بخطين زمنين مختلفين، الأول هو الزمن المعاصر في لندن، حيث "زهور" ترتبط بعلاقة صداقة مع "كحل" الفتاة الباكستانية التي تنتمي إلى طبقة اجتماعية ثرية، والمغرمة بشاب باكستاني فقير "عمران"، باع والده أرضه كي يتمكن الابن من متابعة دراسة الطب، وسرعان ما تتحول العلاقة بين "زهور" والثنائي إلى مثلث غامض، يفجّر الكثير من الذكريات الدفينة والمشاعر لديها، فيعود الزمن إلى الوراء، وتحضر ذكرى الجدة نديةً طرية، محوّلةً أيام "زهور" إلى حزنٍ شفيف لا علاج له. اللافت في رواية "نارنجة" هو اللغة المكتوبة بها، فهي لغة سلسة جداً رغم أنها تمتلئ بالاستعارات والمجازات، وهنا موضع جمالها وسحرها، في أنها اقتربت من لغة الشعر ولكنها ظلت محافظة على انسيابيتها. والأمر الآخر الذي كان لافتاً هو السرد المتشظي، والذي جاء موافقاً للحالة النفسية للراوية/ البطلة "زهور"، فكانت تنتقل بين الأزمنة بشكل حرّ، سواء في الانتقالات بين الحاضر والماضي، أو في داخل الماضي نفسه، إذ تقصّ في كل مرة أجزاء من سيرة حياةٍ طويلة للجدة، وفي قصّها ذاك تروي عدة حكايات فرعية عن أفراد العائلة جميعهم، وعن أقاربهم وجيرانهم. تلعب الكاتبة لعبة المرايا بين بطلتيها، وكأن ماضي الجدة هو حاضر الحفيدة. التفاصيل هي التي تتغيّر لكن الجوهر واحد. "بنت عامر" بعد أن فقدت عينها، رفض أبوها الشاب الوحيد الذي تقدّم لها: "لن أزوجها قط فيُعيّرها أهل الزوج بالعوراء"، وبعد تيّتمها انتقلت للعيش في دار أحد أقربائها، فربّت ابنه كما لو كان ابنها، وأحفاده كما لو كانوا أحفادها، وظلّت طوال عمرها عذراء، تحلم بحقل تزرعه، وبطريقة تعيد البصر لعينها، لكنها رحلت دون أن تحقق أياً من أحلامها، وكل ما حصلت عليه هو حياة بديلة عاشتها، دون زوج، ودون حبيب. وكذلك "زهور" التي عاشت لهيب علاقة "كحل" و"عمران"، وتماهت معهما، وشعرت بالفقد حين عاد إلى بلاده تاركاً "كحل"، فقد أدركت أنها لن تراه مجدداً، وأن أحلامها هي الأخرى لن تتحقق، وكأن حياتها مرآة لحياة جدتها، كأن الحزن الذي عاشته الجدة في حياتها انتقل إلى الحفيدة بعد موتها، "نحن فقط، أحفادها الذين لسنا أحفادها. نحن الأغراب بالدم، غسّلناها، أنا رأيتهم يمزقون المصرّ عن شعرها المكنون، فتطايرت أمواجه البيضاء في كل مكان، شعرها الذي لم نغسله ولم ندهنه إلا لماماً بعدما عجزت عن غسله وتطييبه. ها قد طيّبوه يا جدتي. طيّبوا موجك الأبيض الذي لم يستظل بظله زوج، الولد وولده استظلوا به. لم تكن جثتها تشبهها. كانت تشبهني أنا. حين مدّوا جثمانها وسط صالة بيتنا، رأيتني. زحفت مبتعدة، عنها، عني، عن جثتي الممددة لينوح عليها المحبّون". تشير الرواية في أكثر من موضع إلى أحداث تاريخية وسياسية حصلت في العالم، وكان لها تأثيرها على منطقة الخليج، وعلى المجتمع العُماني، منها مثلاً الحرب العالمية الأولى، وما تبعها من تعطيل في حركة النقل بالبواخر في الخليج، وشحّ السلع التجارية والغذائية، ومنها غزو صدام للكويت. كما تؤرخ الرواية في أحد فصولها لمحاولة الانفصال وإعلان الاستقلال التي قامت بها مجموعة من الرجال في عهد حكم السلطان "سعيد بن تيمور" لمسقط. هذه رواية تقرؤها فتلفّك رائحة النارنج، وتغطيك زهوره، وتتناهى إلى سمعك أصوات الأهازيج العُمانية التي ترد في النص، وترقص حولك الدمى الخشبية بعباءاتها الملونة، تلك الدمى التي كانت تصنعها الجدة في طفولتها، وتغني لك أغاني الحزن اللانهائية. جوخة الحارثي كاتبة وأكاديمية من سلطنة عُمان. حاصلة على دكتوراه في الأدب العربي القديم من جامعة أدنبرة بالمملكة المتحدة. تعمل حالياً أستاذة للأدب العربي في جامعة السلطان قابوس، مسقط. صدرت لها عدة كتب للأطفال، وبضع مجموعات قصصية، وثلاث روايات: "منامات"، "سيدات القمر"، "نارنجة". الناشر: دار الآداب/ بيروت عدد الصفحات: 160 الطبعة الأولى: 2016 يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات، أو من موقع متجر الكتب العربية جملون.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard