شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ضحك ولعب وجد وحبّ: برلين عاصمة الكويريّين العرب

ضحك ولعب وجد وحبّ: برلين عاصمة الكويريّين العرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 30 ديسمبر 201803:37 م

في أحد النوادي الليلية في المنطقة/ الحيّ الأكثر شهرًة في برلين "كرويتزبرغ" <Kreuzberg> أقيمت حفلة باسم "جايهاني" في كلوب يحمل الاسم "إس أو 36"، في آخر الشهر الماضي. حين دخلت فسحة النادي الضيقة، سمعت ضجيجًا صاخِبًا على ألحان الأغنية العراقية "فوج النخل" (فوق النخل)، للمطرب السوري صباح فخري، ولكن استماعي لهذه الأغنية في ذلك المكان لم تكن صدفة بل مقصودة.

جايهاني - كلمة تجمع بين الكلمة<Gay> بالإنجليزية والتي تعني "مثلي جنسياً" وكلمة <Hane> باللغة التركية والتي تعني "حفلة". "جايهاني" هي حفلة رقص تُقام في آخر يوم سبت من كل شهر، وتعرّف نفسها كحفلة شرقية كونها تجمع بين موسيقى من الشرق الأوسط مثل الموسيقى العربية والتركية وغيرها. مع انتقالي إلى برلين سمعت من عرب كثيرين وغيرهم عن هذه الحفلة التي أصبحت أكثر انتشارًا مع كل نسخة لها. وبالرغم من إثارة الحفلة كفرصة للرقص على طبلة ورِق في عاصمة أوروبية، فإن حفلة جايهاني ترمز لأكثر من ليلة رقص، بل تشير إلى وجود عدد كبير من الكويريّين العرب في هذه المدينة.

ماذا يعني "كوير" في سياق الميول الجنسية؟ بحسب موقع ويكي جندر، "كوير" (أو Queer بالأنجليزية) هو مصطلح يشير إلى الأقليات الجنسية والجندرية المختلفة غير المغايرة الجنسية. وفي الأصل اللفظ يعني "الغريب" أم "المختلف". أما في أواخر القرن التاسع عشر تم استخدام لفظ كوير لذم مثليي الجنس وذوي الميول الجنسية المختلفة. كما ظهر لقب كوير كبديل راديكالي للمختلفين جنسياً، كجزء من المشروع السياسي الغربي، ويكثر استخدامه عالمياً هذه الأيام. استخدم ذلك المصطلح على هذا الأساس.

برلين كعاصمة أوروبية تفتخر بالحرية والتقبّل مقارنة بمدن أوروبية أخرى. قد تكون تلك الحرية والتقبّل الدافع الأساسي لتحوّل هذه المدينة الأوروبية إلى عاصمة العرب الكويريين أيضًا. منذ عام  2015 زادت أعداد العرب من السوريين وجنسيات عربية أخرى الذين لجؤوا إلى أوروبا، سواء بشكل قسري أو اختياري، هرباً من السياسات الدكتاتورية والقمع الذي يشِلّ الشعوب العربية. في حين التقيت بعدد كبير من المصريين والمغاربة والأتراك وغيرهم من الكويريين، وتبيّن لي عامل مشترك بينهم، إلّا وهو رغبتهم في حياة كريمة وحرة. إذًا ماذا تعني أن تكون برلين عاصمة للعرب الكويريين؟ ما هو شكل المدينة التي تُجسّد هذه الرغبات للكرامة والحرية؟

ماذا يعني أن تكون عربيًا وكوير في برلين؟

الإجابة عن هذا السؤال لن تكون موحدّة أم ممثّلة لكل الكويريّين العرب في برلين، ولكن لأحد العرب الكويريين، "أ" الذي التقت به للحديث عن تجربته كعربي وكوير في برلين، قال أن الأمر بالفعل ليس بسيطًا، "بالنسبة لي برلين مثل فقاعة داخل أوروبا"، يقول "أ"، ويتابع: "حين تذهب إلى الحانات أو النوادي الليلية الكويرية، بالأخص في "الليالي العربية" في برلين ترى أشخاصًا من جنسيات مختلفة حولك، ولكن يوجد حتمًا نوع من  أنواع التجمع التضامني بين العرب الذين يذهبون إلى تلك الأماكن بانتظام. من الممكن أن تذهب إلى بارات أو نوادٍ ليلية، مثل "سيلفر فيوتشر" أو "مويبل أولفى" أو "شفوتز"، وقد أرى أشخاصًا قابلتهم في طابور الحمام أو في داخل حفلة لأكثر من مرة وقد أعرفهم شخصياَ أو لا، ولكن في نهاية المطاف نتشارك الابتسامات أو العناق لكوننا عربًا وكويريين".

مع زيادة الوعي حول الكويرية في المجتمع البرليني، فإن حفلات مثل جايهاني - التي ستحتفل بعيدها العشرين في بداية العام المقبل - كانت من ضمن الحفلات العربية الكويرية التي زاد عددها في برلين مع زيادة العرب الكويريين الذين يسكنون المدينة. في نهاية العام الماضي، نُظّمت أيضاً حفلة باسم "خوات" للتضامن مع المصريين الكويريين الذين يعيشون في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي وتحت سياساته المقمعة. تم تسليط الضوء على تلك السياسات القامعة لمجتمع الميم بعد أحداث حفلة الفرقة اللبنانية "مشروع ليلى" في القاهرة، والتي أشعلت جدلًا كبيرًا حول الكوريين جنسيًا في مصر. عدد كبير من الحفلات والنشاطات مثل "خوات" التي تقام تضامنًا مع العرب الكويريين واللاجئين العرب الكويريين أيضًا في برلين، قد تكون السبب وراء ظهور نوع من أنواع الوجود المتناسق والتضامني بين العرب الكويريين وأنفسهم وفي المجتمع الغربي الكويري في المدينة. وبالرغم من الانفتاح والتقبل الذي يستمتع بها العرب الكويريين هنا، لا يستمتع بعضهم بهذه الحرية بشكل مطلق وبلا أن يتعرض لمقاطعة من قبل عائلاتهم والمجتمع المحيط.

بالنسبة للعرب الكويريين الذين انتقلوا إلى أوروبا ويعيشون مع أهلهم، فإن مشاركة هويتهم الجنسية مع عائلاتهم وذهابهم إلى هذا النوع من الحفلات وتعّلقهم بالمشهد الكويري في المطلق قد يعقّد الأمر أو يؤدي الى أذى إذا انكشفوا لأهلهم. هذا أيضًا يصعّب فكرة وجود مجتمع عربي كويري متناسق، لأن المخاوف من المجتمع العربي تلاحق بعض العرب الى أوروبا. بالإضافة إلى هذه التعقيدات، يوجد أيضًا مجموعة من الكويريين ليس لديها الرغبة للمشاركة في هذه الحفلات بسبب ارتباط الحفلات بالعالم العربي بشكل أو بآخر، حيث يرغب البعض بنسيانه والانقطاع عنه، هذه الرغبة النابعة من تجربة قاسية مارسها الواقع على كونهم كويريين. ولكن سواء يختار العربي الكويري أن يشارك أو لا في الحياة الكويرية الاجتماعية، لكن ماذا تعني لهم إتاحة الفرصة للمشاركة؟

بالرغم من إثارة الحفلة كفرصة للرقص على طبلة ورِق في عاصمة أوروبية، فإن حفلة جايهاني ترمز لأكثر من ليلة رقص، بل تشير إلى وجود عدد كبير من الكويريّين العرب في هذه المدينة.
بالرغم من الانفتاح والتقبل الذي يستمتع بها العرب الكويريين في برلين، لا يستمتع بعضهم بهذه الحرية بشكل مطلق وبلا أن يتعرض لمقاطعة من قبل عائلاتهم والمجتمع المحيط.
بالرغم من أن الحفلات العربية الكويرية ليس لها القدرة على خلق مجتمع ميم عربي متناسق، لكن من الواضح أنها خلقت مساحات جديدة للتعبير والاستمتاع وفرصاً للتضامن بين شعوب تشبه بعضها البعض.

الوجود كتمرّد

بالرغم من التمتع بالحرية والتقبل النسبي في الغُربة، لا يزال بعض العرب يشتاقون إلى مُدنهم من حين إلى آخر. وجود حفلات مثل "جايهاني" و/أو فضاءات أكثر للعرب الكويريين في برلين تساعد على شمولهم في مجتمع غربي وغير مألوف. قابلت "ك"، وهو شاب لبناني كويري منذ عدة سنوات والآن يسكن في برلين. يمارس "ك" ما معروف باللغة الإنجليزية، بالـ "Drag"، وهي طريقة للتعبير عن النفس من خلال الملابس اللَمّاعة وأحيانًا النسائية تقليديًا والمكياج بالإضافة إلى الغناء أو الأداء الفنّي على المسرح. بالنسبة لـ "ك" فإن الـDrag أصبحت طريقة أكثر راحة للتعبير عن هويته الجنسية والجندرية.

خلال معظم عروضه التي حضرتها شخصيًا، ارتدى "ك" فساتين من جميع الألوان وغنى أغاني متنوعة، منها "إنت إيه" للمغنية نانسي عجرم و"بوس الواوا" لهيفاء وهبي وغيرها. مارس "ك"  الـDrag بطلاقة حتى اكتشف أحد أفراد عائلته في لبنان حسابه الشخصي على أحد مواقع التواصل، مما وضع ذلك "ك" في موقف حرج، إذ يجازف من خلال ذلك بعلاقته العائلية وحريته المطلقة في برلين.
إلا أن "ك" أخبرني بأنه لن يتوقّف عن المشاركة في عروض الـDrag بعد اكتشاف عائلته لنهج حياته في برلين، وأضاف أن قراره نابع من فكرة أن "أهلي هناك وأنا هنا"، وانتقاله من لبنان إلى برلين كانت خطوة نحو الحدّ من انتهاكات المجتمع لحياته الشخصية، وهو لن يوقف حياته، وسيواجه أي عائق يصطدم به.

هذه الشجاعة والصمود والدافع للعيش كعربي وكويري معًا ترمز إلى القدرة على تخطي العوائق التي يمرّ بها أفراد مجتمع الميم العربي في برلين. قد يواجه العرب الكويريون في الخارج أحيانًا صعوبات في متلازمة هويتهم الثقافية وهويتهم الجنسية، حيث لا يمنح أحيانًا المجتمع الغربي لهم المساحة لممارسة هوياتهم العديدة والمتنوعة والمركبة. ولكن وجود حفلات مثل "جايهاني" تخلق فرصًا جديدة لهم للتعبير عن أنفسهم، وتمنح مساحات للتمتع بحريتهم التي يختارونها.

حين سألت "أ" ما هو الجانب المفضّل بالنسبة له في حياته الجديدة في برلين؟، فأجاب على سؤالي بابتسامة وقال لي: "الحرية"، ثم وصف لي أوّل حفلة عربية كويرية ذهب إليها، وقال :"لا يوجد وصف يتسع للتجربة...إذا لم ترها بعينيك لا تجيد تخيلها. ذهبت إلى حانات مثلية في دول أوروبية أخرى من قبل، ولكن لم أشعر بالراحة في المكان، وليس لأنني لا أتقبل ميولي الجنسية أو هويتي الجندرية، بل لأنني لم أشبه معظم الناس الكويرية في أوروبا. ولكن حين ذهبت وحيدًا إلى جايهاني وصودف بجواري ناس يتكلمون لغتي ويفهمون خلفيتي وصراعاتي اليومية كانت تجربة فريدة من نوعها. شعرت وكأنني في مدينتي".

"أ" ليس وحيدًا في إحساسه بالحرية في برلين، وفي تلك الحفلات التي ينضّم إليها شبان وشابات من أمريكا اللاتينية وإيران، والتقيت بهم في الحفلة ويقولون أنه بالرغم من كونهم لا يفهمون العربية والتركية ولكن يشعرون بالأمان والراحة بين أناس يشاركون خلفية وسياقات تُشبه خلفياتهم وسياقاتهم السياسية والاجتماعية والثقافية. وبالرغم من أن الحفلات العربية الكويرية ليس لها القدرة على خلق مجتمع ميم عربي متناسق، لكن من الواضح أنها خلقت مساحات جديدة للتعبير والاستمتاع وفرصاً للتضامن بين شعوب تشبه بعضها البعض.

قد تبين أن تحويل برلين إلى عاصمة الكويريين العرب، هو أمر غير مقصود، لكنه أنتج ارتباطات جديدة بين مجموعات مختلفة، وهذا بسبب ما يسمى "سحر" هذه المدينة الأوروبية العجيبة، حيث يحدث ما لا يتوقعه أحد. بالتأكيد برلين لم تصبح هكذا من لا شيء، فأظن أن الغريب في هذه التجربة العمرانية والاجتماعية هي المفاجآت والاحتمالات التي أتت وكأنها من عالم آخر. من الممكن أن تاريخ برلين القاسي، الذي كان أكثر ألمًا على مجتمع الميم البرليني في ذلك الوقت، سهّلَ تحويل برلين إلى عاصمة للكويريين عامّة وللعرب خاصّة.  وأن الأهم من السبب وراء كونها هكذا، هو أن كل ما يحدث في برلين من المؤكد أنه لا يحدث في أي مدينة أوروبية أخرى… علنا نصل إلى ذلك اليوم الذي تتيح فيه بلادنا هذه المساحات الآمنة لأن نمارس هوياتنا الكويرية كما نشاء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard