شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ماذا يعني أن تكون طبيعيًّا؟ (الجزء الثاني).. تجارب من الجلوس أمام الكاميرا

ماذا يعني أن تكون طبيعيًّا؟ (الجزء الثاني).. تجارب من الجلوس أمام الكاميرا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 11 ديسمبر 201812:37 م
في البدايات، أيامَ كنت أشتغل مع المجلّات، كان لنا رئيس تحرير يقول لنا دائمًا: لماذا لا تصوّر الناس بشكلٍ يبدوا فيه طبيعيّين؟ ربّما كان يقصد شيئًا آخر؛ ربّما كان يعني أنْ أصوّرهم عندما يؤدّون أدوارهم بشكلٍ جيّد، لكنّه لم يستطع إيصال فكرته، فكنّا نتجادل دائمًا حول هذا الأمر. افترضوا أننا نريد إجراء حوار مع كاتبٍ ما، هو أحدكم؛ يجلس المراسل أمامك، تمامًا كما لو أنه ذئبٌ إن انشغلتَ لحظة عنه، يفترس حنجرتك. يسأل باستمرارٍ، سؤالًا بعد سؤال، ليجرّك إلى ركن الحلبة. يدور المصوّرُ حولك، وبين تارة وأخرى، ينقل بعض الأشياء الموضوعة في الغرفة من مكانٍ إلى آخر. وكلّما يهدأ، يصوّب عدسة طويلة جهةَ وجهك. هذه الوضعية كلّها، وضعية غير طبيعية. ثمّ رئيس التحرير هذا، يتوقّع أن تلتقط صورة طبيعية من ذلك المسكين. وذلك السيد الذي يكون كاتبًا، في مثل هذه الحالات، أقصى ما يمكن أن يبذله من جهدٍ فنّيٍّ هو أن يمثّل دورَ كاتبٍ ما؛ دور "كليشيه" للكاتب، قد تعلّمه من الإعلام؛ ينظر نحو الآفاق البعيدة، ويضع يده على جبينه، وكأنّه مشغول بحلّ أسرار الكونِ كلّها.. وهذه أكثر الوضعيات غيرَ طبيعية. غالبيّتهم، ولاسيّما الشباب، ينظرون مندهشين، وكلّهم، شبابًا وشيوخًا، حزانى ومقهورون. مشينا كثيرًا كي نصوّر هذا الشخص. وهو قد ارتدى أفضل ثيابِه من أجل ذلك. الحالة الأكثر طبيعة في هذه الحكاية هي أن ينظر الكاتبُ العزيز في الكاميرا، وبهذا العمل غير الناطق يقول: أيها الناظر إلى الصورة في المستقبل، في هذه الظروف التي يجلس المصوّر فيها أمامي، ويصوّب الكاميرا باتجاهي، هكذا أصبح أنا الكاتب، وهذه أكثر الوضعيات طبيعة بالنسبة لي. ولكن، إن أراد أن يكون كما طلب رئيس تحريرنا، فيصبح الأمرُ لعبًا في لعب؛ تمثيل الحالة الطبيعية في وضعية غير طبيعيّة. ورغم أن أبعادًا أخرى من الكاتب تُكشف، إلا أن نوع الحالة الطبيعية مختلفة هنا.
كنتُ قد صوّرتُ بعضًا منهم من قبل. كانت تفيض السياسة من حركاتهم جميعًا؛ يأتون فيجلسون بوضعيات قد فكّروا بها، وتهيّأوا لها من قبل؛ إلا أن صديقنا هذا كان مختلفًا. كان قد فقد السيطرة على نفسه بشكلٍ خفيّ جدًّا. ربّما كنتُ أنا الواقف خلف الكاميرا فقط، أشعر به. لم أعرف لماذا؛ ربما لأنّه لأوّل مرة كان يجلس في ظرف جديد، أو ربّما لأنه لم يكن في مكانه المعتاد. كانت البراءة تفوح منه فعلًا في تلك اللحظة. كان واضحًا جدًّا أنه غير صالح للأمر.
وتلك كانت النقطة الفارقة بيني ورئيس التحرير. لم يكن لدينا استنباط مشترك من الحالة الطبيعية للأشخاص، والحالة الطبيعية كانت تعني شيئًا آخر بالنسبة لرئيس التحرير؛ شيء كنت أعتبره غير طبيعيّ. قبل ما يقارب عشرة أعوام، قرّر أحد المخرجين في إيران أن يترك عمله في السينما، ويلتحق بعالم السياسة. كان من المقرّر أن يصبح نائبًا في البرلمان. كنت أعمل آنذاك في إحدى الصحف الإيرانية، يرتادها كثير من الذين كانوا يريدون أن يصبحوا نوّابًا في البرلمان، وأظنّ أن الصحيفة كانت قد أُسّست لهذا الغرض. كنتُ جالسًا مع أحد أصدقائي في مكتب الصحيفة، فإذا بالمخرج الذي لم أكن أعرفه في ذلك الوقت دخل. كنتُ أراه لأوّل مرّة، أما صديقي فكان يعرفه، وقد شاهد أفلامه. تمّ القرار أن نصوّره بعد مرور نصف ساعة. كانت الصورة التي يجب أن يعرّف نفسه بها للناس؛ صورة "نيابة البرلمان". مفكّرًا أنه مخرج، ومن المفترض أن يكون مرتاحًا أمام الكاميرا، نهضتُ لأشرع في العمل. كنتُ قد صوّرتُ بعضًا منهم من قبل. كانت تفيض السياسة من حركاتهم جميعًا؛ يأتون فيجلسون بوضعيات قد فكّروا بها، وتهيّأوا لها، من قبل؛ إلا أن صديقنا هذا كان مختلفًا. كان قد فقد السيطرة على نفسه بشكلٍ خفيّ جدًّا. ربّما كنتُ أنا الواقف خلف الكاميرا فقط، أشعر به. لم أعرف لماذا؛ ربما لأنّه لأوّل مرة كان يجلس في ظرف جديد، أو ربّما لأنه لم يكن في مكانه المعتاد. كانت البراءة تفوح منه فعلًا في تلك اللحظة. كان واضحًا جدًّا أنه غير صالح للأمر. بعد كثير من الحركات والتعرّق، ذهبت يدَه في النهاية تحت ذقنه. فهمتُ سريعًا أنها هي الحركة التي يقوم بها دائمًا. لم ألتقط الصورة بعدُ حتى قال أحد ما من الخلف: اجلسْ في وضعية أخرى. تحطّم كلّ شيء بهذه الجملة. انفصلت اليدُ من تحت الذقن، وأصبح له يدانِ؛ كلتاهما زائدتان. يدانِ ترتعشان، دون أن يعرف ماذا يفعل بهما. بدا لي أنه قام بعملٍ لا طريق للرجعة منه، وإن كان بيدِه، لترك كلّ شيء في اللحظة، ولذَهب يتابع أفلامَه. أنا في النهاية صوّتُّ لهذا الشخص، رغم أني كنت أعرف أنه لا يمكنه الدفاع عن حقّه، فما بالُك بحقّ الشعب؟! بعد بضع سنوات، وكانت انتهت فترة نيابته، التقينا في مكان ما. كان من الطبيعيّ أن يكون قد نساني، غير أنّ اللحظات التي كنتُ أصوّره فيها كانت منقوشة أبدًا في ذاكرتي. كان جالسًا هذه المرّة في غرفة المونتاج؛ بعزيمة وثقة بالنفس واطمئنان. بعد قليل، وبشكلٍ مفاجئ، أتى لنا بصينية فيها أكواب الشاي، دون أن يُسمع أيّ صوت من الأكواب وصحونها الصغيرة. دائمًا ما هناك راوٍ للصورة، وهو الضمير المتكلّم. يجب أن نتذكّر: الضمير المتكلّم. وفي الصورة دائمًا ما تكمن جملة المصّور: شاهدتُ، فشاهدْ. ولا معنى في الصورة لشيء من قبيل "شاهدْنا" أو "شاهَدوا". المعنى السرديّ لما يقال بأن المصوّر ينبغي ألّا يُشاهَد في الصورة، هو أن المصوّر يجب أن يمثّل دور الضمير المتكلّم. وبرأيي لا مجال لهذا الأمر في التصوير. لا شيء مجهول في الصورة، فكلّ شيء واضحٌ وجليٌّ فيها، ويمكن الوصول إلى الإجابة بسرعة، إلا إن كنّا نريد أن نغشّ أنفسنا! الأمر بسيط جدًّا: لقد شوهد كلّ شيء. ومن رأى؟ -المصوّر.  

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard