شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لنخفض صوتنا... فحكايات الأطفال هذه، لا يحب أحد سماعها

لنخفض صوتنا... فحكايات الأطفال هذه، لا يحب أحد سماعها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 20 نوفمبر 201810:50 ص
في حديقة السبكي وسط العاصمة السورية، دمشق، يجتمع بعد ظهر كل يوم حوالي عشرة أطفال. لن أذكر أسماءهم وتقصدت ألا أحفظها، فالأسماء ليست مهمّة هنا. على اختلاف أعمارهم والمدن أو البلدات التي ينتمون إليها، يجمعهم عامل مشترك وهو "عالم التشرد" كما يحبون أن يطلقوا عليه، وهو عالم له قوانينه وتقاليده التي لا يجب على من ينتمي إليه، أن يخرقها.
هل أنا غبية لأستبدل الحرية المطلقة هنا بسجن هناك؟
الأطفال ليسوا مشردين بالضرورة. بعضهم فقد منزله بسبب الحرب، ويعيش مع أهله في منزل أو غرفة فندق بالإيجار حيث يعود إليها في الليل. آخرون فقدوا منازلهم وأهلهم. والبعض يعرف تماماً أين يعيش أهله، لكنه اختار الحياة هنا في هذه الحديقة بعيداً عن عائلته، وفي عالم التشرد، فهو عالم أكثر حرية، حيث لا قواعد ولا ضوابط، وحيث يمكن لأي منهم أن يفعل ما يشاء، ومتى يشاء. عندما تبدأ الشمس بالغروب وتحل أولى ساعات المساء، يشعر الأطفال بحاجة للراحة بعد يوم طويل من التسوّل، وبيع المحارم أو العلكة أو غيرها، وأيضاً الشجار. يستلقون على عشب الحديقة المبلل ناظرين للسماء، وأجلس إلى جانبهم. تتنهد الفتاة الكبرى ولها من العمر اثنتي عشر عاماً وتقول إنها تحب هذه الرائحة، وتعشق الحرية في هذا المكان. "أين يعيش أهلك؟" "في منزل قريب من هنا في شارع الثورة". "ولم لا تعودين للمنزل؟" "هل أنا غبية لأستبدل الحرية المطلقة هنا بسجن هناك؟ هنا أفعل ما يحلو لي، وآكل ما أشاء، وأتسول عندما أرغب بذلك"، تنظر إليّ بعينين محمرتين من قلة النوم، ومن التدخين وتعاطي "الشعلة". يقترب طفل آخر، ثمانية أو تسعة أعوام. تلمع عيناه بشقاوة، ويقول إنه يريد أن يخبرني عن الشعلة. "هل جربتَها من قبل؟" "لا ولكني أعرف تأثيرها". يمكن لأي طفل كان أن يشتري علب الشعلة، وهو صمغ شديد الالتصاق، من أي دكان قريب. عادة يلجأ أطفال حديقة السبكي لمحل محدد يعرفون صاحبه، ويشترون علباً صغيرة سعر الواحدة 350 ليرة (أقل من دولار أمريكي)، كما يشترون السجائر بسعر 25 ليرة للسيجارة الواحدة. INSIDE_SyrianKids "يتسابق الأطفال هنا لشمّ أكبر عدد ممكن من العلب، ومن يفعل ذلك يكون أكثر قوة من غيره"، يقول الطفل الشقي. "وكيف تشمونها؟" "أنا لا أشم. هم فقط"، يكرر الطفل ويشرح لي آلية الشم. يفرغون محتوى العلب في كيس من النايلون. يضمون فتحة الكيس لتصبح على مقاس الفم، وينفخون فيه، ثم يستنشقون البخار الخارج منه والمشبع بما يحتويه الصمغ من مواد كيماوية، ثم، تبدأ مرحلة الهلوسة. "بدك تشوفيهم كيف بيتسطحوا على أرض الحديقة ويصيروا يتخيلوا"، يضحك. "مرة أنا تخيلت كتير مصاري، ومديت إيدي لأمسكهم تبخروا. مرة تخيلت قلوب قلوب، بس راحوا فوراً". "ألم تخبرني بأنك لا تشم؟" أسأله مستنكرة تحايله عليّ. "مرة واحدة. جربته مرة واحدة، أو ربما مرتين. لكن هؤلاء؟ يشمون كل يوم وأحياناً عدة مرات في اليوم"، يقول، ويتشاجر مع آخرين وكأنه أفشى لي بسرّ من أسرار العصابة. ألتفت للفتاة وأخبرها بأنني أرغب بتجربة "الشعلة"، علّي أرى قلوباً، أو منزلاً جديداً، أو تلك النقود الكثيرة. تصرخ بي بخوف: "لا. شو بدك فيها؟ نحنا تعودنا بس أنتِ حرام". يتقافز الأطفال حولنا. تشتعل عيونهم بذكاء وطاقة غريبة. يحين وقت تناول الطعام. يشترون سندويشات لحوم ودجاج من محل مجاور للحديقة. للجميع رأي واحد: هم ينتمون فقط لهذا العالم، وليس للعالم الآخر الجميل النظيف، حيث أعيش أنا ويعيش معي من يشبهني. يقترب طفلان. أخان. يبيعان العلكة، وقد حان وقت عودتهما للبيت. "آنسة، نحنا ما منشم شعلة وما مندخن. نحنا بس منشتغل لنساعد أهلنا"، يقول أكبرهما بابتسامة، ويمد يده الصغيرة لمصافحتي. أمد يدي فيشد عليها كثيراً ويتشكرني. "ألن تعودي؟ تعالي لرؤيتنا مرة أخرى"، يودعني ويذهب.
"عالم التشرد"، كما يسميه الأطفال، وهو عالم له قوانينه وتقاليده التي لا يجب على من ينتمي إليه، أن يخرقها.
والبعض يعرف تماماً أين يعيش أهله، لكنه اختار الحياة هنا في هذه الحديقة بعيداً عن عائلته، وفي عالم التشرد، فهو عالم أكثر حرية، حيث لا قواعد ولا ضوابط.
يفرغون محتوى العلب في كيس من النايلون. يضمون فتحة الكيس لتصبح على مقاس الفم، وينفخون فيه، ثم يستنشقون البخار الخارج منه والمشبع بما يحتويه الصمغ من مواد كيماوية، ثم، تبدأ مرحلة الهلوسة.
هم ينتمون فقط لهذا العالم، وليس للعالم الآخر الجميل النظيف، حيث أعيش أنا ويعيش معي من يشبهني.
في مثل هذا اليوم من كل عام، يحيي العالم "عيد الطفل" احتفالاً بذكرى صدور اتفاقية حقوق الطفل واعتمادها من قبل الأمم المتحدة في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1989. في هذا اليوم، وبمطالعة آخر إحصائيات منظمة اليونيسف عن سوريا، نقرأ الأرقام التالية:
  • هناك أكثر من مليوني طفل في سن الدراسة غير ملتحقين بالمدارس.
  • واحدة من كل ثلاث مدارس لا يمكن استخدامها إما لأنها متضررة أو مدمرة أو لأنها أصبحت مأوى للعائلات المشردة أو تستخدم لغايات عسكرية.
  • في سوريا، تضاعفت نسبة الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع (أقل من 1.90 دولار يومياً) من 34% قبل الأزمة إلى حوالي 70% حالياً.
  • 6.5 ملايين شخص يواجهون انعداماً حاداً للأمن الغذائي.
  • أكثر من 5.6 ملايين شخص، بمن فيهم 2.7 مليون طفل، يعيشون كلاجئين مسجلين في مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا منذ بدء النزاع.
لكن، لنخفض صوتنا، فهي أرقام وحكايات تزعج كثيرين ممن لا يروق لهم سماعها. حكايات تملأ حياتنا ولكننا نفضل المرور إلى جانبها وإغماض أعيننا عنها. "شو طالع بالإيد؟".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard