شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تفاصيلُ باردةٌ ومعذّبةٌ كقطعةِ ستيك حمراء!

تفاصيلُ باردةٌ ومعذّبةٌ كقطعةِ ستيك حمراء!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 8 أكتوبر 201806:27 م
بعد كلّ ذلك، عليّ الآن أن أعرف ماذا أفعل بهذا الألم في قلبي. أذهب إلى الحمّام، أشعر بالغثيان، أتقيأ. أتصل به قائلةً: لقد حدث.
  • ماذا حدث يا حبيبتي.
  • ما كنتُ دومًا أخشاه.
تمنيتُ أن أصمّ؛ أن يغمى عليّ؛ أن أفقد الإدراك اللغوي، وألّا أفهم ما يقال بالعربية. ولكن، كلّ التفاصيل كانت نيئة ودامية وباردة كقطعة ستيك حمراءَ مجلدة في طورِ الذوبان. لا مجال للتخفيف من بشاعةِ وألمِ الكلماتِ بلغةِ الأمّ. أشعر أنّه من الأسهل أن أتعرّض أنا للتعذيب جسديًا على سماعِ تلك الحكايات.
  • تصوّرْ أنه كان عليّ الاستعانة بقاموسٍ مرارًا لأنني لا أعرف مفرداتِ التعذيب بالألمانية. يا للروعة، إنه عملُ أحلامي!
  • آه، حسنًا.
لماذا تقول حسنًا، أصرخ فيه، ما الحسَن في الموضوع؟
  • إنه مجرّد تعبير لغويّ.
  • إذًا لا تستخدمه، فلا يوجد أيّ شيء حسَنٌ بالموضوع.
أشعر بالذنب لأنني أفرغ كلَّ مشاعري السلبية عليه. فأضيف مفسّرة: القاضية كانت أفظع ساديّة رأيتها في حياتي؛ ظلت تشويه وتقليه وتسأل وتسأل كأنها تستمتع بالتفاصيل. لقد كرهتها، لا أستطيع سماع حكايات تعذيب دون إسقاطاتٍ أتخيلها عن نفسي وعن أبي. لا أعرف لماذا، أنا وأبي فقط.
أنا أصل إلى البيت محطّمة؛ لا أستطيع أن أبتسم؛ لا أستطيع أن ألعب مع أطفالي؛ لا أستطيع أن أغنّي لهم قبل النوم، صوتي يختنق وأتشردق.
المسألة نسبية؛ نحن محرومون فقط بقدرِ ما يملكه الأشخاصُ من حولِنا، عندما نقارن أنفسَنا بهم.
الشخص أمامي إن كان صادقًا، إن صدّقته تعتريني رغبةٌ أموميّة عارمة باحتضانِه لامتصاصِ كلّ ذلك الألم. ولكن، على السطح، أكتفي بقناعي المهنيّ. يصبح صوتي خافتًا أكثر أثناء طرح الأسئلة، وكأنني لا أريد لصوتي أن يُسمع. يحلّ فيّ هدوء غير مألوف. الدموع تنهمر في قلبي فقط، ولا تصل عينيّ أبدًا.
يا لي من مدلّلة رخوة وجبانة، أشفق على نفسي أنه عليّ أن أستمع لمُعاناتِهم، فحسب.
"خلص"، سوف أترك هذا العمل من الغد. أنا لم أخلق لهذا العمل، أنا رقيقة جدا، أنت لا تفهم، تركيبتي النفسية لا تسمح لي. المحققون الآخرون لا يعبؤون، بل بعضهم يضحكون ويهزؤون من الحالات التي تصلهم. يقولون: "بكرا بتتعودي". مرّ شهران على اليوم الذي أنزلتني فيه الوزيرة إلى قسم العمليات، وأنا لا أتعود. لا، بل أنا أتألم أكثر في كلّ مرة. كأنك تجرح مكانا مجروحًا مسبقًا. للتروما طبقاتٌ طبقات.
  • تعالي إلى البيت فنتحدث. كلّ شيء سيكون على ما يرام. أنتِ قوية.
  • لم أعد أريد سماعَ أنني قوية. ماذا تعني أنت قويّة، أن أفقد الإحساس مثلًا!
  • لا يمكن أن تتوقفي عما بدأتِه. أنت تساعدين هؤلاء الناس. أسبوعان فقط وتعودين إلى مكتبك في الوزارة.
  • لا، لا. بإمكان أحدٍ غيري أن يساعدهم. أنا لم أعد أحتمل، أفضّل العودة لتنظيم مهرجان البرليناليه، الإدارة الثقافية أفضل لي. هناك الكثيرون من الذين يستطيعون القيام بدوري؛ ليس من الضروريّ أن أكون أنا. معي وبدوني العمل سيستمر، ومن يستحق اللجوء سيحصل عليه بدون صوفي فريدريش.
  • ليست هذه نظرتك للأمور حبيبتي. أنتِ مرهقة. أخرجي إلى الطريق الآن لتريِ الضوءَ قبل غياب الشمس. تعالي إلى البيت، الأطفال بخير وسعداء، لقد أكلوا وهم يلعبون الآن، انظري اليهم فقط، وستشعرين بتحسّن. إنهم يشتاقون إليك.
أمشي في الكوريدور الرمادي الطويل المظلم لأصِلَ إلى غرفة الطباعة. أريد أن أعمل نسخا عن جدول أعمالي لكل اليوم. أثناء المشي، أفكر بأبي، ترى هل تعرَّض لذلك أيضاُ؟ لا، لا أريد حتى أن أتخيل ذلك، فهو فوق قدرة احتمالي على الألم اليوم. أعرف جيدا في قرارة نفسي أنه  قد تعرّض لذلك وحتى أسوأ، من أجل تهمة لم يعرف يومًا ما هي. لكنّه لمّح ولم يوغل مرةً في أي تفاصيلٍ أمامي، يعرف حساسيتي الشديدة، أنا ابنته الوحيدة. في هذه اللحظة، أحتاج قوةَ ذلك الرجل وثباته. أعرف أن لا شيء سيشدّ من عزيمتي سواه. أحاول الاتصال به عدّة مراتٍ عبر واتس أب، ولا أنجح. لا شكّ بأنه في غرفة العمليات. لا أعرف ما يعرف أخي، فنحن لم نتحدّث عن هذا مطلقا، ولكنني أجزم بأن أمي تعرف كلّ شيء. يعاود الاتصال بي وأنا أمشي في الطريق.
  • بابا!
  • كيفك يا صوفي؟
  • بابا انا منيحة.. بس..
  • بس شو؟
  • بابا أنا ما بقى فيّي أتحمّل هالشغل من كل القصص اللي عمْ بَسمعها.
  • صوفي من أي متى إنتي هيك بتِنهاري بسهولة؟ أنا بعرفك أقوى من هيك.
  • عم بستفرغ، مش عم باكل، مش عم نام... كيف بقى ممكن عيش هيك وأنا عم بسمع اللي عم بَسمعُه، وعم بعرف اللي عم بَعرفُه؟ كيف ممكن كفّي حياتي عادي، وأنا بعرف إنّه بكل لحظة فيه إنسان هلق عم يتعذّب؟
  • بابا انتي ما بتشوفيني كيف أنا كمّلت حياتي ونضالي أكثر صلابة من الأوّل؟ خلّي يكون عندك شوية ثبات.
  • بابا أنا مش إنت، يا ريت كنت بقوتك! خلص رح أترك الشغل عالأرض بكرا. رح قِللُن برجع عالمكتب أو أنا فالّة.
أنَسِيتِ يا صوفي حين كانت سهى بشارة مثالًا للشجاعة والقوة في سنيّ طفولتِكِ ومراهقتِك؟
أنتِ تعرفين تماما أنك لست مجبرة على القيام بهذا العمل، أو أيّ عملٍ آخر، وبإمكانك التوقّف عندما تشائين. ولكن هل هذه صوفي التي ربيتُها؟ أنت لا تستسلمين عادةً، وما عدتِ صغيرة. تعرفين أن هذه الأمور تحدُث في الحياة، وأنت تساعدين هؤلاء الناس للهروب من جحيمِ التعذيب وبدءِ حياةٍ جديدة.
  • ولكن ماذا عن الجحيم الذي أدخل أنا فيه؟ هناك زملاء كُثرٌ يقومون بذلك دون دفعِ فاتورة نفسية كبيرة كالّتي أدفعها. أنا أصل إلى البيت محطّمة؛ لا أستطيع أن أبتسم؛ لا أستطيع أن ألعب مع أطفالي؛ لا أستطيع أن أغنّي لهم قبل النوم، صوتي يختنق وأتشردق.. أطفالي بحاجةٍ لأمّهم. سألتني أوليفيا البارحة: ماما لماذا أنتِ حزينة؟ كلُّ براءة أطفال هذا العالم، والفرحُ الذي تلِدُه، تصبح وهمًا وبخارًا أمام حقيقة وجود التعذيب القاسية.
صوفي اسْمَعيني جيدًا. هذه الأمور تحدث، سواء عملت في مساعدة هؤلاء الناس أم لا. الإجراءات والإدارة ستستمر فيك أو بدونك، ولكن كيف ستواجهين نفسَكِ عندما تعرفين أنه كان بإمكانكِ المساعدة بينما اخترتِ أنتِ الانسحاب؟ ولا تنسيْ أنك في قسم العمليات لثلاثة أشهر وحسب، ولمراقبةِ العمليات على الأرض وبعد ذلك سوف تعودين الى مكتبِك باقتراحات لتحسين سير الإجراءات والتقاط الأخطاء. بضعة أسابيع فقط وتعودين إلى قواعدِك سالمة.
  • لا أعرف لماذا يقحمون بي في هذه القضايا فقط لأنني أعرف اللغةَ العربية، ألذلك كُتب عليّ أن ترافقني لعنةُ الحروب واللجوءِ والإرهاب وكلّ ما في هذا الكون من مآسٍ؟ كأني أحمل همَّ اللغة، وهمّ أهلها وأرضها.
  • الحياة ليست للواقفين على الحياد، وعهدي بك أكثر شجاعة. الخيارُ، خيارُك طبعًا.. قبّلي حفيديّ.
وينهي الاتصال. أفكّر وأنا أسند رأسي إلى زجاج القطار بينما أنظر للثلج في الخارج، إذا كان أبي قد تعرّض للتعذيب ولكنه أكمل حياته قويًا يجري العمليات الجراحية لضحايا التعذيب والحروب والألغام والانفجارات. أكمل حياته قويًا مؤمنًا بما يناضل من أجلِه، ولم يكسره شيءٌ، حتى الكوما والموت شبه المؤكد في بلدٍ غريب. تابع وقوفه بجانب الضعفاء والدفاع عن الفقراء والمظلومين، كيف يمكن لي أنا أن أهزم لسماع حكايا ضحايا التعذيب فقط؟ لا يغيب عن بالي في هذه الأيام كتاب مقاومة لسُهى بشارة، زهرة الجنوب، الذي كتبتْه فورَ خروجِها من الأسْر، بمساعدةِ صحافيةٍ فرنسية. يا للشجاعة ويا للجمال! فرغم كلِّ ما قاستْه من سجنٍ وتعذيب، لقد أكملت حياتَها؛ تزوّجت وأنجبت طفلتين وهي تعمل اليوم مع الصليب الأحمر في سويسرا. أنَسِيتِ يا صوفي حين كانت سهى بشارة مثالًا للشجاعة والقوة في سنيّ طفولتِكِ ومراهقتِك؟ أخرُج من القطار. الظلام والضباب يلفّان الشارع، ومع أنني أكره البرد، إلا أنّني شعرتُ بشيء ما لطيف ومهدّئٍ بهطول نفناف الثلج على وجهي. عشر دقائق من المحطة إلى البيت. أدير المفتاح في قفل الباب بحذر. أدخل على رؤوس أصابعي حتى لا أوقظ الأطفال. أخلع معطفي وحذائي في الردهة. أدخل غرفة الجلوس، أرى شموعًا مضاءة وكأسين. لقد أعدّ لي سلَطَتي المفضّلة. وسكب نبيذي المفضّل الأحمر مسبقا حتى يتنفس. البيت في سكونٍ ودفء، وكأن سنواتٍ ضوئيةً تفصله عن عالم اللجوءِ البارد الذي أتى منه. أسعد لذلك الاهتمام والدلال، وأحسّ بالذنب في الوقت عينِه. هناك آلافٌ من اللاجئين يمشون على الطرقات الآن، وآلاف محشورون في خيَم داخلَ القاعات والملاعب الرياضية الكبرى دون أدنى خصوصية ومساحة شخصية. يا لي من مدلّلة رخوة وجبانة، أشفق على نفسي أنه عليّ أن أستمع لمُعاناتِهم، فحسب. ما كنت أعتبره مع عائلتي الصغيرة وجبةً عاديّة: سلطة سيزر مع الدجاج، صرتُ أنظر إليه الآن على أنه نعمة كبيرة. الشموع والنبيذ، يا لها من كمالياتٍ لا يملكها الملايين. كم أنا محظوظةٌ يا ربي، شكرا لك! بيتٌ دافئ ومريح لا أتشاركه مع أيّ عائلةٍ أخرى؛ رجلٌ يحبّني ويفعل كل ما بوسْعِه لأجلِ إسعادي؛ أطفالٌ أصحّاء سعداء وعائلة تدعمني؛ وإخوة أعرف أين هم وغيرُ مفقودين. لكم أنا جاحدة لأحسّ بالتوتر والقلق والاكتئاب أيضًا! أعود وأفكّر بنظريةِ الحرمانِ النسبي Relative Deprivation التي تعلمتُها في صفّ التحليل السياسي الأول 101. المسألة نسبية؛ نحن محرومون فقط بقدرِ ما يملكه الأشخاصُ من حولِنا، عندما نقارن أنفسَنا بهم. مجدّدًا ودائما، الفهمُ أو طريقة إدراكنا للأشياء (perception) هو أكثر أهميّةً من الواقع. أمام هذه الأفكار، يصبح كلّ شيء كالاكتئاب الخفيف بطرًا. ثمة تناقضٌ هائلٌ بين البيئةِ التي آتية أنا منها والعالم الذي أعمل فيه؛ تناقض أجبرني على أن أقسو وأودّع عهدَ البراءة مع بلوغي الثلاثين. صورة المقالة للفنانة Victoria Reynolds
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard