شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ريم الحلوة مثل فلسطين

ريم الحلوة مثل فلسطين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 21 سبتمبر 201811:50 ص
رحيلٌ آخر يضاف إلى أحزاننا، وهذه المرة رحلت ريم، ريم الحلوة مثل فلسطين. رحلت صاحبة القلب الكبير الذي يستطيع أن يغرق العالم كلّه بالحب، رحلت تاركة إرثًا هائلًا من الموسيقى والحب. كان الخبر صادمًا رغم علم الجميع بصراعها اليومي مع المرض، لكن الجميع كان يعرف أنّها قاهرة المرض ولا تستسلم بسهولة. صوتها كان شوكة في حلق الاحتلال ووجودها كان شوكة في حلق الموت. كان الخبر صادمًا ومفجعًا فهي ليست فنانة وحسب، لقد كانت صديقتنا التي تعطينا القوة. نعم، صديقتنا الحبيبة، فريم صديقة الجميع. كنتُ دائمَ التعجب من قدرتها على جمع هذا الكم من الأصدقاء، تبادلهم المحبة والاهتمام والتقدير. ريم شخصيّة محبوبة على نطاق واسع قلّ مثيله، محبة لا تشبه محبة الجمهور لفنان ما بل تشبه محبة الأصدقاء غير المحدودة، تشبه المحبة غير المقيدة بشرط وحدود وزمن. بكيتُ وأنا أتابع الأخبار القادمة من الناصرة الحبيبة، لقد رحلت ريم. كان الحزن ثقيلًا على قلبي. أحسستُ بأنّ أمي رحلت، لاحقًا حدثت نفسي: أنظر إلى هذا الكم الهائل من الحزن الذي طغى على كلّ الأخبار الحزينة الأخرى بسبب رحيل "ريمنا"، أنظر كيف يبكيها أصدقاؤها ومحبوها وجمهورها وأنظر إلى ما تركته بعد رحيلها. رغم الحزن الهائل الذي خلفه رحيلها عن عالمنا فإنّ من يترك كلّ هذا الحب بعد رحيله لا يموت هكذا ببساطة، شخص يتمتع بكلّ هذا الحب سيبقى حيًّا، هكذا ستبقى ريم حيّة في قلوبنا ما حيينا، وهذا الحب سنورثه لأولادنا من بعدنا.
تعلمت الشعوب العربيّة أن تحب فلسطين الأرض بمسجدها الأقصى دون أن تحبَّ شعب هذه الأرض
ريم فتحت لنا نافذة على فلسطين، نرى من خلالها حيوات الناس في المدن القريبة الممنوعة، ومن هذه النافذة أطل علينا أشخاص آخرون أخبرونا عن فلسطين التي لا تشبه قنوات الأخبار
فلسطين كانت بالنسبة لنا مؤلفة من قصص إخباريّة وأحاديث عن بلد مسلوب ومن فلسطينيين يعيشون في سوريا منذ وقت طويل كمواطنين من الدرجة الثانية، وحرب إسرائيليّة مستمرة. كان فلسطين هي النكسة والنكبة ومجزرة صبرا وشاتيلا واتفاقية أوسلو ومنظمة التحرير وحماس واجتياح جنين وقصف غزة واستيطان. كلمات كبيرة تتكرر كثيرًا إلى أن فقدت معانيها. لم نكن نسمع قصص الناس وأخبارهم، لم نعرف شيئًا عن حياة يوميّة في قريّة فلسطينيّة في أيامنا الحاليّة. ريم فتحت لنا نافذة على فلسطين، نرى من خلالها حيوات الناس في المدن القريبة الممنوعة، ومن هذه النافذة أطل علينا أشخاص آخرون أخبرونا عن فلسطين، فلسطين الجديدة لنا، التي لا تشبه قنوات الأخبار ولا تشبه بيانات الديكتاتوريين أصحاب أنظمة التطبيع وأنظمة الممانعة. عرفنا فلسطين بقدسها وشهدائها، بزعترها وبحرها، عرفنا الناصرة والقدس ورام الله وحيفا وعكا وغزة، عرفنا حكايات الناس الذين يشبهوننا ونشبههم. كانت ريم أول أصدقائي الفلسطينيين، أولئك الذين يعيشون في فلسطين، المتمسكين بحقوقهم وأرضهم، الواقفين في وجه الاحتلال بقوة، لكنها لم تكن آخرهم. فتحت ريم الباب ودخل وراءها المئات من المثقفين والموسيقيين والفنانين والكتّاب والصحافيين إلى بيوتنا ومدننا، بدأوا بالتعرف على دمشق وعمان وبيروت والقاهرة وتونس من خلالنا. هكذا بنينا جسرًا بيننا وبين فلسطين بعد أن تدمر الجسر الأصل بفعل الأنظمة العربية المتعاقبة متعاونة، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع الاحتلال الإسرائيلي. اليوم يحتل هؤلاء الأصدقاء مكانة مهمة في حياتي، هؤلاء فتحوا لي شباكًا صغيرًا أطلّ به على شوارع البلاد، صرت أعرف شوارع الناصرة ومقاهي حيفا وقلعة عكا وأحاديث رام الله كما لو كنت قد وُلدت هناك. جواز سفري الذي يمنعني من الدخول إلى فلسطين لم يعد مهمًا، فأهل فلسطين قد حملوا فلسطين معهم أينما رحلوا وجعلونا نحبها كما نحب بلادنا الحزينة. في سوريا علمّنا نظام الأسد أن نحب فلسطين دون أن نحب الفلسطينيين، وكذا الأمر في البلاد العربيّة الأخرى، تعلمت الشعوب العربيّة أن تحب فلسطين الأرض بمسجدها الأقصى دون أن تحبَّ شعب هذه الأرض. ريم الحلوة، ومن مثلها من الفلسطينيين، علمونا أن نحبَّ الفلسطينيين كما نحبُّ فلسطين، علمونا أن لا معنى للأرض دون أهلها وناسها وأحبابها. هذا إرث ريم الذي تركته لنا، أغنيات وموسيقى وبلاد وصداقات وكسر حواجز وحدود وقبول الآخر وتواضع وبساطة وحب لا حدود له، وواجبنا اليوم وكلّ يوم، كأصدقاء ومحبي ريم بنّا، أن نحافظ على هذا الإرث، أن نناضل في كلّ يوم من خلال كلّ تفصيل من تفاصيل حياتنا للوصول إلى ما أنشدته هذه الصبية الفلسطينيّة الناصريّة: عالم عادل حرّ جميل زاخر بالحب والموسيقى، عالم خالٍ من الاحتلالات والدكتاتوريات والقمع والظلم واللجوء.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard