شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رمضان à la دبي

رمضان à la دبي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 31 مايو 201803:29 م
لعل المبهج الوحيد في قدوم رمضان بالنسبة لي أثناء حياتي في دبي، كان ساعات العمل القصيرة. ست ساعات من التاسعة حتى الثالثة، وكالسحر، يمر الشهر سريعاً! خلال تلك الساعات المعدودة من  كل يوم بالكاد يمكن للأعمال أن تُنجز، ليس فقط لضيق الوقت، بل بسبب التكاسل والتراخي اللذين يطبعان إمارة العمل أثناء رمضان أيضاً. حتى لتصبح محاولة إنجاز أية معاملة حكومية أثناء الشهر الكريم ضرباً من الجنون. وطبعاً، في كل شركة ومؤسسة يتذمر المديرون الأجانب (وجميع المديرين في دبي أجانب) من دون كلام وتدور عيونهم في محاجرها، غير قادرين، أو بالأحرى غير مالكين لما يكفي من الشجاعة، ليوجهوا انتقاداً صريحاً لموظفيهم الصائمين، ولثقافة رمضان في الخليج والعالم العربي، بشكل عام. يمثل رمضان للجميع، من غير الصائمين، بل وحتى الصائمين أحياناً، شهراً من الخطوط الحمراء التي يصبح قضاء رمضان بسببها أشبه ما يكون بعبور حقل ألغام. حتى لعمري إن أصخت السمع ستصلك تنهيدات ساكني دبي حين يتنفسون الصعداء مع انتهاء الشهر وإعلان عيد الفطر. وللحديث عن إعلان بداية رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى استفاضةٌ واجبةٌ. إذ في حين يمكن للخارطة الفلكية أن تعلمنا على وجه التحديد بموعد دورات القمر حتى الثلاثة آلاف سنة القادمة، ما زلنا نقوم بإرسال أحدهم إلى رأس جبلٍ ما كي ينتظر رؤية القمر، لنختلف بعد ذلك كدولٍ على من رآه ومن لم يره، وينتهي بنا الأمر لأن يغني كلٌ على ليلاه ولأن يصوم المسلمون كلّ بمزاجه، أو لنقل كلٌ بحسب انحيازاته السياسية. وإن كنا نرفض التكنولوجيا الفلكية تمسكاً بالنص الديني، فإنني لا أفهم لم لا نتمسك بالنص الديني في امتلاك العبيد مثلاً أم أن الحداثة تصيب أجزاءاً وتغفل أخرى؟
يمثل رمضان للجميع، من غير الصائمين، بل وحتى الصائمون أحياناً، شهراً من الخطوط الحمراء التي يصبح قضاء رمضان بسببها أشبه ما يكون بعبور حقل ألغام.
تلك هي قصة التابوهات الرمضانية، أما عن المنطق وراء قوانين كهذه فمازال عصيّاً على فهمي حتى بعد اثتني عشرة سنة من الحياة في دبي.
وبالحديث عن العبيد، فلنعد لدبي مرةً أخرى. هل تعلم عزيزي القارئ أن مضغك للعلكة في رمضان قد يرسلك إلى السجن؟ أظنك سمعت بذلك قبلاً، من قريب أو صديق مقيمٍ في دول الخليج، وما أكثرهم! (فالحقيقة أن العبودية الاقتصادية في الخليج أنفع من العبودية السياسية التي نعيشها في ظل حكوماتنا العربية؛ ولكن هذا حديث لوقتٍ آخر). في رمضان تتجلى هذه العبودية بأوضح صورها: إذ لا يجرؤ أحد، عربي أو أجنبي، مسلم أو غير مسلم، صائم أم مفطر على انتقاد أي من الممارسات التي لا تمت للإسلام في شيء، والتي أقل ما يقال عنها بأنها قمعية. وليس ذلك فحسب، بل إن أحداً لا يعرف أين تقع الخطوط الحمراء وبالتالي يعيش الجميع في حالةٍ جماعيةٍ من الحذر والترقب. وكمثال على ذلك أسرد هذه القصة التي حدثت منذ ثلاث سنوات. في أحد الصباحات الرمضانية كنت أقود سيارتي للعمل، كالعادة، ضمن جحافل السيارات العالقة في ازدحامٍ مروري محموم، يزداد سعيره في رمضان لأن الجميع من قطاع عام وخاص ومدارس وجامعات يبدأ وينهي نهاره في نفس التوقيت؛ يمكنك هنا تخيل الجحيم المروري الرمضاني! في سيارتي كنت أستمع للبرنامج الإذاعي الصباحي الذي يبث على الهواء من قناة أجنبية داخل الإمارات. وفيما تثرثر المذيعة البريطانية عن صباحها الذي بدأ مبكراً جداً تقول دون انتباه: "سأحتاج لفنجانٍ آخر من الشاي" ليسود بعدها صمتٌ قصيرٌ ثقيلٌ استطعت من خلاله أن أطير عشرات الكيلومترات إلى الاستديو وأن أرى نظرات الندم الممزوج بالذعر قد ارتسمت على وجهها. عاجلها زميلها المذيع، البريطاني أيضاً، ليردف قائلاً: "بالتأكيد تقصدين بعد الإفطار" ولينتقل لفاصلٍ إعلاني. لم أستطع تمالك نفسي من الضحك، وإلى اليوم أجده من أكثر المواقف الرمضانية في دبي هزليةً وقسوة. فالمذيعة بريطانية، وفي عالمٍ عاقلٍ وناضج، لا أحد يتوقع أنها صائمة، أو أنها مثلاً لا تتناول طعامها وتحتسي شايها كالمعتاد. لا شيء في تعاليم الإسلام، وحتى أكثر التفاسير تشدداً، يفرض عليها الصيام كغير مسلمة. ولكنها تعبر حقل ألغام ولا تعرف متى قد ينفجر لغمٌ تحت قدمها تكون عواقبه وخيمة عليها، وربما حتى على الإذاعة التي تعمل بها. كانت النتيجة موقفاً ساخراً ومؤلماً على الهواء مباشرةً. يأخذ هذا الخوف أبعاداً أكثر خطورة مثل تجنب إطعام الأطفال أو سقياهم في الأماكن العامة في رمضان. بالنسبة لي لم أكن أتردد في إعطاء أطفالي الماء في العلن أثناء ساعات الصيام، ولو أنني كنت أتأكد من إطعامهم في المنزل قبل الخروج تحسباً من أية مضايقات غير متوقعة. كنت أشعر بالثقة بالقيام بذلك لأنني أعلم بتعاليم الإسلام، وأعلم أنه ما من شيء يفرض الصيام القسري على الأطفال وكنت قادرةً على محاججة أي شخصٍ قد يعترضني أو يزعجني (إذ يشعر الكثيرون بأحقيتهم بالتوجه بالانتقاد العلني إلى أي شخص، غالباً من النساء، ممن يشعرون بأنهن أسأن اللباس أو التصرف). أما بالنسبة للأجانب المساكين فقد كان الخوف من الإساءة لرمضان، والتي قد لا تحمد عقباها، يدفعهم إلى حرمان أطفالهم حتى من شرب الماء، في بلد تُشوى في الصيف بدرجة حرارة تتجاوز الخمسين مئوية. مللت وأنا أكرر لزملائي في العمل بأن ذلك التشديد على الطعام والشراب ليس من الإسلام في شيء، وأننا في بلاد الشام وغيرها الكثير من البلاد العربية كنا نأكل ونشرب في رمضان. فالصائم يصوم لنفسه والمفطر يأكل لنفسه ولكل ثوابه وعقابه، وبالتالي لا يمكن تفسير هذا التشديد إلا كنوعٍ من فرض السيطرة الاجتماعية-السياسية على مجتمعٍ متعدد الأعراق والأجناس والطوائف لا يشكل فيه العرب والمسلمون الأغلبية. وتأكيداً على ارتباط هذه "العادات الرمضانية" بأي شيء إلا الدين، فقد أبدت دبي تراجعاً إيجابياً، غير مبرر، عن فرض الصوم على الجميع. فقد بدأت الإمارة منذ سنتين تقريباً بفتح ردهة المطاعم في المولات لتقديم الطعام والشراب أثناء ساعات الصيام، طبعاً وراء ستائر وبرفانات. يجب أن أضيف هنا بأن هناك حارساً يقف على مداخل تلك المناطق المغلقة ويمنع المحجبات، وكل من يبدو بأنهم مسلمون من الدخول، بغض النظر عن عشرات الأسباب التي قد تقف وراء رغبتهم بالدخول والتي قد يكون إطعام أطفالهم واحداً منها. المهم أن اتخاذ هذه الخطوة يعد نقلةً نوعية – قد تكون استجابةً لضغطٍ من نوع معين - في التخفيف من تلك المغالاة اللامعقولة فيما يتعلق برمضان. أختتم حديثي بتجربتي في رمضان الماضي عندما أخذت أطفالي إلى "ما وراء الستار" لأطعمهم في المول. وفيما استلمت طلبي من الوجبات الجاهزة فوجئت لأجد طلبي معبأ ضمن أكياس وليس على صينية كما هي العادة في مطاعم الأكل السريع. بدايةً، ظننت أن الموظف فهم طلبي خطأ فأنا أردت تناول طعامي في المول على الطاولة التي تبعد مترين ونصف عن المطعم. إلا أن الموظف أجابني باعتذار بأن قوانين المول تقضي بألا يقدم الطعام على صوانٍ وإنما بالأكياس. نظرت إليه قائلةً، وقد أسقط في يدي: أنت تدرك أنني سأخطو عشر خطوات إلى طاولتي وأفتح هذا الكيس والتهم ما بداخله على العلن أمام جميع من هم غير صائمين أصلاً، أليس كذلك؟ هزّ رأسه أيجاباً ولم يملك من أمره شيئاً إلا أن اعتذر مضيفاً: إنها القوانين! تلك هي القصة، أما عن المنطق وراء قوانين كهذه فقد فاتني حينها، وما زال عصيّاً على فهمي حتى اليوم. لا أدري بمَ أفسر كل هذا لغير العرب والمسلمين الذين لا يمكن لهم أن يفهموا مدى ارتباط القَبَلي بالديني والاجتماعي بالسياسي في منطقتنا المشؤومة. حاولت كثيراً أن أفسر على مدى اثني عشر عاماً هي مدة إقامتي في الخليج، لكنني أشعر الآن بلا جدوى كل هذا الكلام: إذ كيف يمكن لك أن تفسّر ما لا يُفسّر؟ وأن تُمنطِق ما يقع خارج نطاق المنطق؟
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard