شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أنا أشول ...

أنا أشول ... "طب وماله"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 13 مارس 201806:21 م
لا أتذكر تحديداً في طفولتي المبكرة أياً من ذكريات رحلتي مع التعلّم. مشهد واحد فقط ظل عالقاً في ذهني حتى الآن حين ذهبت إلى الفصل في أول يوم دراسي وأنا طفلة لا أتعدى الـ6 سنوات، حيث نهرتني المُعلمة وبشدة لاستخدامي اليد اليسرى في الكتابة، لتسألني بانفعال في وجهي "أنتِ شولا"؟ (الذي يكتب باليد اليسرى في العامية المصرية)، كأنه إثم، لم أدرك وقتذاك الجُرم في استخدام يدي اليسرى! ولم أعرف سبب انفعالها؟ كُل ما أتذكره أنها تركت بقية التلاميذ وأخذت تعنفني بشدة على ذلك، وتجبرني على استخدام اليد اليمنى. حينذاك لم أكن أعي ما يحدث غير أنني دخلت في نوبة من البكاء الشديد كوني لا أستطيع استخدام يدي اليمنى، شعور ما زال يراودني كلما تذكرت الأمر كأني أُصبت بالشلل، كان كلّ ذلك وسط تحذيرها المتزايد بألّا آتي اليوم التالي، وأنا ما زلت "شولا". ببراءة شديدة، حكيت لأبي ما حدث، فما كان منه إلّا أن أتى معي إلى المدرّسة ليُحذرها بألا تعاملني بقسوة وأن تدعني أكتب باليد اليسرى، ربما أبي لم يعرف وقتذاك أن إجبار الأطفال على استخدام اليد اليمنى بدل اليسرى يؤدي إلى مضاعفات خطيرة قد تؤثر  سلبًا في شخصياتهم، وإدراكهم أنفسهم ومحيطهم، وقد تمثل إصابة نفسية يحملها طوال عمره. لكنه في النهاية أراد أن يحميني من تعنت تلك المُدرّسة التي لا أتذكر منها حتى الآن سوى ذلك المشهد فقط.

القوى الشريرة في "الشمال"

المعتقدات الدينية القديمة المرتبطة بكون اليد اليسرى هي يد "الشر"، موجودة منذ الأزل، فهناك نصوص دينية في التوراة مثلاً تُمجد أصحاب اليد اليمنى عن أصحاب اليسرى، واشتبه في أحوال كثير ة بأن الذين يستخدمون اليد اليسرى إنما يمارسون الدجل والشعوذة وعندهم مسُ من الشيطان، حتى أن الرسامين المسيحيين في العصور الوسطى رسموا الشيطان "أعسرَ" في جميع الأحوال، وعاقبت المدارس الكاثوليكية الأطفال الذين يستخدمون اليد اليسرى، وأُجبر العُسر قديماً على استخدام اليد اليمنى وإلا كان مصيرهم الضرب أو السخرية،.كذلك المسلمون الأوائل تبنوا تلك الأفكار، فاليد اليمنى للغايات "المُشرفة" كالأكل مثلاً، أما اليد اليسرى فتستخدم للأغراض غير المُشرفة كمسح القُبُل والدّبُر عقب "التبول والتغوط". عندما يراني شخص أكتب باليسرى، أول سؤال يطرحه علي: "وأنت بقى بتأكلي بإيدك الشمال برضو...؟ إوعي تكوني بتعملي كده حرام".
عندما يراني شخص أكتب باليسرى، أول سؤال يطرحه علي: "وأنت بقى بتأكلي بإيدك الشمال برضو...؟ إوعي تكوني بتعملي كده حرام"
الحقيقة أن معضلة الأكل باليد اليسرى شغلت بال كثيرين من رجال الدين الإسلامي، فأخيراً وقبل أيام، أصدرت إدارة الشؤون الدينية التركية (ديانات) فتوى تنصح بعدم الأكل أو الشرب باستخدام اليد اليسرى، لأن "الشيطان" هو الذي يأكل ويشرب بيده اليسرى. ليست تركيا وحدها في هذا الأمر، فالعقيدة المترسخة داخل أدمغتنا جميعاً تقول ذلك، فالإنسان منذ الصغر يُربّى على ألّا يستخدم يده اليسرى لأن الشيطان يأكل معه إذا فعل ذلك. ومع الكبار أيضاً، يحدث الأمر وتنتشر الفتاوى الدينية المنفرة من أصحاب اليد اليسرى وأن من يستخدم يده اليسرى قد يكون مصيره "النار"... وتُوصي فتوى بعرض من يستخدمها على طبيب نفسي لإعادة تأهيله... ياخبر! هل يكون مصيري النار لأنني أستخدم اليد اليسرى؟! لا أعتقد، الله خلقني على هذه الصورة، لم أختر  أن أكون هكذا... ها أنا الآن أتكلم بشكل فلسفي ربما بعيداً من شخصيتي قليلاً، لا أريد التفكير في هذا الأمر السلبي... لكن ، لماذا يقول العلماء ذلك؟ ولماذا يشغلهم الأمر؟ لا أعرف! على الرغم من هذا التشدد الديني، إلا أن الدنيا لا تخلو من الأشخاص المرنين، فالدكتور على جمعة مثلاً أباح الأكل باليد اليسرى عكس شيوخ كُثر، وقال أنه لا حرج في أن يستخدم الشخص السكين باليسرى والشوكة باليمنى أو العكس، ويرى كذلك أن استخدام اليد اليمنى سنّة لا فرض، وترْكُها من باب عدم القدرة لا حرج فيه، ما دام لا يُقصد التكبر على سنّة النبي. ويؤكد أن الرسول كان يستخدم يديه الاثنتين في الأكل، فيمسك في اليمنى «قثاء» وفي اليسرى بطيخاً، يكسر حر  هذا ببرد ذاك. "أتنفس الصعداء الآن... الله يكرمك ياشيخ جمعة... ريحت قلبي... في أمل بالجنة في فتواك". في فتواه أيضاً، يرى مفتي الديار المصرية السابق، أن الشيطان يأكل أيضاً مع من يأكلون باليسرى، رجعنا تاني للشيطان"... ليس هذا موضوعنا إذاً... لكن، تبقى الفكرة مرتبطة بالشيطان واليد اليسرى، جميع ذكرياتي مع استخدام يدي اليسرى مرتبطة بكون الشيطان سيأكل معي، سيغرف معي الطعام، بالتالي ستقل بركته، سيقلب معي الشاي، سيغسل وجهي، سيقص معي أي شيء لأنني لا أستطيع استخدام المقص. أتذكر  أخي عندما نظر إلىّ، مستغرباً عندما وجدني أقلب الطعام بيدي اليسرى، ليزيحني بسرعة كي يقوم هو بذلك، لم يزعجني الأمر حقيقة لأنها كانت فرصة للهروب من إعداد الطعام في ما بعد... صار الأمر بعد ذلك عادياً في أسرتي، لكن التساؤلات ظلت ممن هم خارج هذا الإطار.

أعسر بالوراثة

اختلفت الأسئلة الموجهة إلىّ بعد ذلك باختلاف التجارب الحياتية. فمثلاً أثناء عقد قراني كان لا بد أن أمضي وثيقة الزواج، أمسك القلم باليسرى، أسمع صوتاً منتفضاً، "أنتِ شولا"...؟ أرد: أيوة... إنه والد خطيبي قبل أن أُوقع العقد، يصمت الرجل لبرهة، كأنه وجد عيباً كبيراً، إلّا أنه لم يتكلم... أحدث نفسي "ناوي يفشكل الجوازة ولا إيه"؟ أُوقّع بسرعة قبل أن ينتبه... يصمت... لكن الرجل لم ينسَ الأمر... تمر الأيام وأُنجب ابني. وكان في كل زيارة إلى بيتنا، أجده مهتماً بمتابعة استخدام الطفل يده، أرى ذلك لكن لا أتكلم، في إحد ىالمرات، قال: "الولد بيستخدم إيده الشمال أكتر من اليمين، ياريت تعلموه يستخدم اليمين، كده مينفعش"! "يادي النيلة"... هو  يعتقد أن الولد "هيطلع "مُعاق" زي أمه"... فهناك معتقدات شعبية مصرية ترى أن مستخدم اليد اليسرى عنده نوع من الإعاقة... أعرف أنه يعني ذلك... لا أعلق... أضحك سراً... السبب الأساسي المسؤول عن ولادة طفل أيمن أو  أعسر لم يكتشفه العلم بعدُ، ودور الجينات في ذلك لا يتعدى نسبة 25%. واستنتج باحثون أن النخاع هو المسؤول عن تحديد سيطرة إحدى اليدين، كونه وحده يرسل إشارات إلى الذراعين. هناك دراسات تشير  إلى أن احتمالات ولادة طفل أعسر لأبوين يستخدمان اليد اليمنى لا تزيد عن 9.5%، لكن هذه النسبة تتضاعف لو كان أحد الأبوين أعسر، وترتفع إلى 26% لو كان الاثنان من ذوي اليد اليسرى، وتؤكد أبحاث أن 18% من التوائم المتطابقين يكون أحدهما أعسر ، وترتفع فرص اختلاف تفضيل إحدى اليدين بين التوائم عموماً مقارنةً بالأشقاء العاديين، وترتفع نسبة ولادة طفل أعسر بنسبة 128% إذا تخطت الأم سن الـ40. هناك من يعتقد أن الشخص الأشول ربما يكون أكثر تميزاً من غيره من أصحاب اليد اليمنى. يستند الاعتقاد بأن العُسر أكثر إبداعًا من اليُمن إلى فكرة أن الفص الأيمن من المخ الذي يسيطر على اليد اليسرى، هو بيت الإبداع في الدماغ. لكن علماء اليوم يؤمنون بأن الإبداع نشاط يتطلب عمل فصي المخ معاً، وتؤيد هذا الرأي أبحاث عالم الأعصاب «روغر سبري» في ستينيات القرن الماضي التي درس فيها حالة مرضى مصابين بنوبات صرع حادة، تطلّب علاجهم وقتذاك فصل فصي المخ عن بعضهما بعضاً جراحيًّا. وعلى الرغم من أن الجراحة عالجت المرض، إلّا أنها أدت إلى قطع الاتصال بين فصي المخ، وصار ما تراه العين اليمنى لا يدركه سوى النصف الأيسر من المخ. فتحت دراسات سبري الباب أمام أبحاث كثيرة، خلصت إلى أن الإبداع عملية معقدة تتطلب عمل نصفي المخ معاً، وليس أحدهما فقط. في النهاية، الإبداع ليس حكراً على أحد، كما أن الكمال ليس لأحد دون آخر. وشكراً للعالم الذي أعطى العُسر يوماً مبهجاً وميزهم بالاحتفال في 13 آب من كل عام.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard