شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
في عيدها: آراء عربية وأجنبية في ألبوم فيروز

في عيدها: آراء عربية وأجنبية في ألبوم فيروز "ببالي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 21 نوفمبر 201704:53 م
أية حماقة أن أكتب عن فيروز وعملها الجديد والعالم العربي على فوهة بركان لا يعلم أحد متى يثور ويلقي بحممه على رؤوس الجميع! لكنها ليست المرة الأولى التي ألوذ فيها بالسيدة عندما يحاصرني الجنون والعبث، لطالما اتّخذت صوتها ملاذاً خلال الحروب التي تعاقبت على العراق وما تلاها من حصار وانهيار وحتى بعد انضمامي إلى قوافل الشتات قبل أعوام عشرة. عالم فيروز أجمل دائماً من واقعنا، معالمه أوضح والعيش فيه أسهل وأمتع، هو المهرب المثالي من الأزمات والمحن. "يجب أن أعترف بأني كنت قاسياً في حكمي الأول على الألبوم، استمعت للأغاني خلال الأيام الماضية وبدأت بتذوقها أكثر الآن، الصوت لا يزال يحمل تلويناته الدافئة التي أُغرِمتُ بها عندما كنت صبياً في الاسكندرية". قرأت الرسالة النصية التي بعث بها إلي صديقي الأستاذ الجامعي محمود شرارة من مقر إقامته في الولايات المتحدة وابتسمت، فما أشبه اليوم بالبارحة، أو بالأحرى بعشية صدور ألبوم "أيه في أمل" قبل سنوات سبع. "زياد لم يقدم جديداً، الأغاني ليست بمستوى الطموح، كلماتها وتوزيعها عاديان، الغلاف غير جذّاب... إلخ" كانت ردود الأفعال الأولى لصدور الألبوم كما وردتني من أصدقائي الفيروزيين وقتذاك... "أيه في أمل" بات اليوم عملاً كلاسيكياً ركن الكثيرون من منتقدي الألبوم الجديد إلى اتخاذه معياراً لإثبات ما ذهبوا إليه من أن "ببالي" هو أسوأ ما غنت فيروز على الإطلاق. اكتشفت فيروز في وقت متأخر نسبياً، لم أشغف بها فعلياً حتى التحقت بالجامعة عندما بدأت باقتناء إصداراتها السابقة والاستماع لها بشكل مكثّف. كانت السيدة وقتذاك قد انفصلت عن الأخوين رحباني ومضى وقت طويل منذ طرح آخر عمل لها. عثوري على إعلان ألبوم جديد من تلحين ابنها زياد على واجهة أحد محال الموسيقى في بغداد كان مفاجأة سعيدة، فألبومهما السابق "وحدن" كان واحداً من أعمال السيدة المفضلة بالنسبة لي... ابتعت العمل الذي حمل عنوان "معرفتي فيك" وشرعت بالاستماع الى أولى أغانيه "خليك بالبيت". ما هذا؟ هل هذه فيروز حقاً؟ كيف سمح زياد الرحباني لنفسه بكتابة أغنية سيئة كهذه؟ وكيف سمحت له فيروز بالعبث في صوتها وتاريخها بهذا الشكل؟ شعرت يومذاك بحيرة وغضب شديدين حتى أني رميت غلاف الألبوم على الأرض... عندما أتذكّر ذلك الآن أضحك، فالعمل وكل ما كتب زياد لفيروز من البومات بعدها هي من بين ما أحرص على الاحتفاظ به من أقراص مدمجة هنا في نيوزلندا ولا أملّ من الاستماع إليها المرة تلو الأخرى.
جمهور فيروز الغفير الذي يعشقها إلى درجة التقديس يكاد يكون الأصعب إرضاءً على الإطلاق، فما يتوقّعه منها ويطالبها به يقارب المستحيل، بل هو المستحيل بعينه
قد يود مهاجمو "سذاجة" كلمات ألبوم "ببالي" أن يعودوا إلى مراجعة كلمات "خليك بالبيت" تحديداً وأغنية أخرى كان قد كتبها إلياس الرحباني وأدتها فيروز في مهرجان بعلبك في أواخر التسعينات حملت عنوان "معك"، ربما سيعيدون النظر عندها في أحكامهم التي أصدروها على الأغنيات الجديدة أو على الأقل يقرأونها ضمن إطارها الموضوعي كبداية جديدة، وكما البدايات دائماً فهي في طور التجريب والاكتشاف. قد يصدمهم أيضاً سماع واحد من أعمال السيدة القديمة من ألحان وكلمات الأخوين رحباني بعنوان "نحنا دجاجات الحب، ونحنا ديوك الأحلام!" نعم، فيروز غنتها في الخمسينيات، خلال الفترة التي سجّلت فيها "راجعون" وسواها من القصائد الوطنية والعاطفية الرنّانة. لا أنكر أن كلمات الأغاني التي كتبتها المخرجة والشاعرة ريما الرحباني عن نصوص الأغاني الأصلية الأجنبية قد استوقفتني أنا الآخر، تساءلت هل الالتزام بمحتوى الأعمال التي باتت كلاسيكية هو رغبة شخصية من فيروز أو شرط أملته عليها حقوق مالكي تلك الأغاني؟ لا شك أن الأمر قد شكل ضغطاً وعبئاً على ريما وحدّ من حريتها في التعبير إلى حد كبير، كثيرون شكّكوا بموهبتها الأدبية وقارنوها بقدرة أخيها على كتابة نصوص بسيطة ممتنعة ومبدعة. ربما كنت سأفعل مثلهم لولا اطلاعي على أعمال سابقة لها، تحديداً ما كتبته لوالدتها بمناسبة عيد ميلادها في العام الماضي ونشرته على صفحتها الرسمية في فيسبوك: أوْقاتْ بفَكّر لَوْ مَا إِنْتِ خلِقْتِ مِينْ كَانْ رَحْ يكُونْ مَحَلّكْ؟ مِينْ كَانْ رَحْ يكُونْ إِنْتِ؟ يِمْكِنْ مَا حَدَا! ويِمْكِنْ مَا كِنْتْ خلِقْتْ لَوْ مَا إِنْتِ خلِقْتِ! ويِمْكِنْ الله كَانْ خَلَقْ وِحْدِة إسِمْهَا مِتْلِكْ وصَوْتهَا مِتْلِكْ وتيَابْهَا مِتْلِكْ وكِلْهَا مِتْلِكْ، وِحْدِة تكُونْ إِنْتِ بَسْ مِشْ إِنْتِ! واللّي بَدّي أَعْرفُو هُوّ إِذَا كِنْت رَحْ حِبْهَا مِتْل مَا بحِبّكْ! تأثّرت عند قراءتي الأولى للمعايدة، ليس فقط للعاطفة الجيّاشة التي تضمّنتها، ولكن للصور المبتكرة التي شكّلتها كاتبتها وتساءلت مع نفسي عن مسار ريما الرحباني الفني، وكيف كانت ستكون ملامحه لو أنها كرّست وقتها لممارسة شغفها عوضاً عن الانهماك في إدارة أعمال والدتها وخوض المعارك للحفاظ على إرث والدها عاصي الرحباني. أمر آخر استوقفني في الألبوم هو مشهديته المسرحية الواضحة، كأنه (مع استثناءات قليلة) عمل عن حياة فيروز وكواليس حفلاتها ومشاعرها تجاه وطنها وذكرياتها وتجاربها وتأملها لمرور الزمن. لو وضعنا جانباً "أغنية الوداع" الشهيرة من كلمات والحان زياد الرحباني في ألبوم "كيفك إنت" ربما تكون هذه المرة الأولى التي تحدثنا فيها فيروز عن نفسها بصيغة "الشخص الأول"... كان سيكون من الملائم (برأيي) لو أن صورة الغلاف تضمنّت لقطة للسيدة من الخلف وهي تقف بمواجهة ضوء المسرح الساطع والمسلّط عليها وهي تغني، فهي أول ما تبادر الى ذهني عند الاستماع للعمل. لكن الكلام ليس المكوّن الوحيد في الأغنية، وإن كنا كعرب نوليه الأهمية الكبرى على حساب أداء الصوت واللحن والتوزيع، ولذلك فقد حرصت على استطلاع آراء بعض الأصدقاء الأجانب حول أغنيات "ببالي" بهدف معرفة وقع العمل على آذان محايدة ومتذوّقة للموسيقى والفنون.

"من ذا الذي يستطيع أن يحدّد ما يصح أو لا يصح لفنانة بحجم فيروز أكثر منها هي..."

أسمعت السوبرانو النيوزلندية ومدربة الأصوات كاثرين واتس أغنية "لمين" وطلبت رأيها في الأداء والموسيقى، أخبرتها بأن المطربة قد تجاوزت الثمانين من عمرها وبأن اللحن فرنسي الأصل من الستينيات معاد توزيعه من قبل البريطاني الحائز جوائز موسيقية مرموقة ستيف سيدويل (حاولت التواصل معه، لكن مساعدته الشخصية اعتذرت بسبب انشغاله بتسجيل أعمال أخرى). "هذه سيدة تجيد الأداء والتحكّم بصوتها" كان رأي كاثرين التي سمعت عن فيروز ومنجزها من دون أن يتسنى لها الاطلاع على أعمالها عن كثب، أثنت واتس أيضاً على جودة الموسيقى، توزيعاً وتسجيلاً... أخبرتها عن الضجة المثارة حول العمل واستهجان البعض امتناع فيروز عن الغناء بطبقات عالية، رغم أني شخصياً أجد بأن سحر صوتها كان ولا يزال يكمن في قدرته الاستثنائية على صناعة الهمس المدوّي. "أليس من حق المغنية أن تنضج صوتياً كما يحق للمغنّين من الرجال؟" تساءلت كاثرين. في الحقيقة، جمهور فيروز الغفير الذي يعشقها إلى درجة التقديس يكاد يكون الأصعب إرضاءً على الإطلاق وهو دائم التجاوز على حقوقها المشروعة، فما نتوقّعه منها ونطالبها به يقارب المستحيل، بل هو المستحيل بعينه. نريد منها الالتزام بالكلاسيكي والمألوف ثم نشكو من عدم التجديد، البعض يفضّل الشرقي الصرف والآخر يريد مزجاً بين الشرقي والغربي، وفئة أخرى تبحث عمّا وراء الاثنين، قسم يحبها مع الأخوين رحباني وفيلمون، وآخر لا يرضى عن زياد بديلاً. الأمر لا يتوقف عند الاختيارات الفنية بل يتعدّاه إلى نمط الحياة والرأي السياسي والسلوك الشخصي، نريد فيروزاً مثلنا تؤمن بما نؤمن به وتفعل ما نهواه حتى إذا ما آثرت السيدة العزلة والتواري عن الأنظار، شكونا من غيابها وقلة انتاجها. لا أعتقد أن لعلاقتنا مع فيروز سابقة في تاريخ الفن عند الشعوب الأخرى، قد يكون سبب ذلك ارتباطها العميق بوجدان الناس من خلال طوباوية شخوص المسرحيات التي قدّمتها وأعمالها الملحمية الأخرى. "أتفهّم احتجاج البعض من جمهور السيدة، مثلهم أجد صعوبة في سماعها تؤدّي تلك الأغاني الغربية الشهيرة، وكنت أفضّل أن تُبقي على أسلوبها الذي عرفتها وأحببتها من خلاله، لكن من ذا الذي يستطيع أن يحدّد ما يصح أو لا يصح لفنانة بحجم فيروز أكثر منها هي؟". قرأت رأي الشاعرة الأمريكية كاثلين ليلارد دولان عن الألبوم الجديد وأستوقفتني ملامستها لأمر لاحظه عدد من الفيروزيين من خلال المقطع المصوّر الذي انتشر للست، وهي تسجّل الأغنيات وبدت فيه مرتاحة ومستمتعة بالعمل على نحو لم نرها فيه من قبل. ماذا عن رأيي الشخصي في الأغاني؟ هل أحببتها أم لا؟ لا أزال في مرحلة التعرّف على الألبوم، أحاول تجنّب إطلاق الأحكام المتسرّعة وأصغي للألحان بتأمّل ورويّة، بدأت بالميل لقسم منها أكثر من القسم الآخر، لكنني لا أجد ما يمكن لوم فيروز وريما الرحباني وستيف سيدويل عليه. فقد قدّموا لنا منتجاً فنياً رصيناً من الناحية التقنية على أقل تقدير. كل ما أستطيع قوله الآن هو أننا إزاء مرحلة جديدة في مشوار السيدة الفني، قد تكون خطوتها التالية استئناف تعاونها مع زياد أو غناء ألحان لمؤلفين جدد، لا أحد يدري. المهم أن فيروز لا تزال تغني وأنها قادرة على التحدي والتغيير واختبار مساحات بكر وجميلة في صوتها الفريد.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard