شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ال اس دي... أنا مستعد للتلاشي -1-

ال اس دي... أنا مستعد للتلاشي -1-

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 14 سبتمبر 201702:17 م
الحياة جحيم، في بداية الثلاثينات من عمري ما من إنجاز حققته، ولا روح لدي تستمتع بتفاصيل الحياة، كابوس متكرر، شرطة ومواطنون يطاردوني بسواطير وأنا ألهث، أخاف جداً من النوم، أعرف أن الكابوس سيأتي حتماً، كشيطان يبتسم لي طيلة يومي حتى أنام ليعربد في روحي، وآلام هائلة في القاولون لا تهدأ حتى تعود، ورئيسة قسمي في الصحيفة التي أعمل بها تضايقت كثيراً من إجازاتي المتعددة، غير مقتنعة بأني أعاني من القاولون بتلك الطريقة المفرطة، جهزت جواز سفري، لا حل سوى الهرب إلى أين؟! كراهية للطعام والشراب، وكسل كبير لمجرد الخروج من المنزل، وحضور حفلة عيد ميلاد لصديق بمثابة كابوس، لا شك أني أمر بحالة اكتئاب شديدة. التفكير الاكتئابي يخلق ترابطاً معيناً في دوائر الدماغ، خاصة المنطقة التي تحافظ على الشعور بالذات، كما أن الإحساس بالحسرة والنقد الذاتي يخلقان تكراراً للعلاقات بين الأعصاب في المخ، هكذا يرى ديفيد نوت عالم أعصام من كلية إمبريلا كوليدج إن. ويقول الحكيم الهندي أوشو ومعظم أساتذة التأمل أن الأنا هي المسؤولة عن الاكتئاب، الهوية والطموح والملكية هي السبب في اكتئاب الناس، علي أن أنسى نفسي الملعونة تلك وأعيش لحظتي أو "هنا والآن" كما يقولون، ولكن كيف؟ وأنا أسير لعلاقات بين أعصاب المخ، كيف أتخلص ممن يتحكمون في شعوري ودوافعي؟ "تعال حالاً عندي لك مفاجأة"، لا أدري متى جاءت لي هذه المكالمة، أنهيت شيفتي المسائي في الموقع الإخباري الذي أعمل به، وذهبت إلى صديقي في أحد الأحياء المجاورة لأهرامات الجيزة، وأعطاني قطعة وريقة صغيرة تكاد تُرى بالعين المجردة، وأوصاني بأن أمتصها حتى تذوب. عرفت أنه الأسيد، قرأت عنه كثيراً، وبحثت عنه لسنوات حتى يئست، وضعته في فمي.

التحول

لم تسر الأمور كما خُطط لها، رفض أحد الأصدقاء أن يصطحبنا إلى الأهرامات لكثرة كمائن الشرطة، ركبنا سيارة أنا وثلاثة من الأصدقاء، عائدين من نزلة السمان إلى شقة صديق في وسط العاصمة، سار السائق بسرعة مجنونة، مررنا على عدة كمائن، لاحظت دورية شرطة السرعة العالية التي نسير بها، استوقفتنا، وفتشنا أحد الأمناء "تفتيش سلاح"، وهو يبتسم ويغمز ويلمز، لكنه كان شعوراً جديداً حيال الشرطة لم أختبره من قبل، أنا الذي كنت أراهم يلاحقونني في كوابيسي وأنا أتصبب عرقاً من الرعب، لست خائفاً الآن من الشرطة. بدأت أشعر أني أتذوق الحرية، الحرية من القلق والخوف، واستسلمت ليد الشرطي تعبث في جيوبي، وأنا رافع رأسي مبتسماً، والضابط يضحك، والجميع يضحك. بثت قناة "ناشيونال جيوغرافيك" فيلماً تسجيلياً ذكرت فيه أن العقار جُرب على جنود أمريكيين في فيتنام رفضوا طاعة الأوامر، وساهم في تظاهرات أمريكا ضد الحرب هناك، ولكنها من ناحية أخرى دفعت بعض "المواطنين الصالحين" لممارسة أعمال إجرامية، وهذا سبب كاف لأن تحظره أمريكا وبعدها دول العالم بعد أن كان العقار شرعياً: إنه يفقد الحكومة السيطرة على الناس. جلست أنا وصديقي وشريكته بقية الليل حتى الصباح، يسألني صديقي وهو مجرب للعقار: هل تشعر برغبة في القتل أو الانتحار؟ اندهشت من السؤال، أجبت لا بالطبع، لماذا؟ لم أجد إجابة ولكن وجدتني أقول: إن البشر ليس مفترضاً أن يقتلوا. في الحقيقة كنت مذعوراً من براءتي، إني  أعيش "هنا والآن" ونسيت الـ"أنا" كما يقول الصوفية دائماً في إشارة إلى التحرر من الذكريات والبرمجة العقلية المسبقة، كنت أعيش كطفل يتنفس للمرة الأولى، ويرى ويفرح بكل شيء، كان لهذه التجربة جانب مظلم لم يتحدث عنه الصوفيون، يمكن وأنت بلا برمجة وبلا ذاكرة وتحيا لحظتك أن تفعل أي شيء، تقبل امرأة لا تعرفها، أو تقتل طفلاً، وقبل أن يندهش الجميع لما فعلت ستندهش أنت أيضا. Manel-Torralba_FlickrManel-Torralba_Flickr   مع  تجربة البراءة تلك، أنت مفتوح على احتمالات لا تتوقعها، وهو شعور خطر وحيوي في آن واحد.

السابعة صباحاً

نزلت السابعة صباحاً من مصعد العمارة، وبداخلي طاقة فرح وحب عجيبين، لأول مرة أشعر بهذا الانسجام والإشباع في حياتي، وخرجت إلى الشارع، دُهشت وصُعقت، دُهشت من الألوان الزاهية بطريقة غير عادية، وصُعقت إذ رأيت رجالاً ونساءً مسنين يذهبون إلى عملهم، شعرت بنفور وكراهية كبيرين حيال البشر، يمشون بطريقة آلية تشبه كثيراً أداء شارلي شابلن "قال صديقي إنهم يسمون الأسيد في أوروبا شارلي". وأذكر أني كنت أستطيع أن أُعرّف كل شخص من أدائه الحركي، وفزعت، كثير من الأداءات كانت أداء مخبرين وضباط شرطة، هل أنا أهلوس؟ هل أصبت بالفصام وأشعر أني مراقب؟ أم أن لدي الآن بصيرة غير عادية؟ لا أعلم ما أنا واثق فيه هو أنه على قدر كراهيتي للبشر على قدر محبتي للشجر والطيور، كأن البشر فئران لديك رغبة قوية في دهسهم، وشعرت بالخزي أني أنتمي لهذه الفصيلة، ولازم هذا الشعور بالاشمئزاز من البشر والتواصل مع الطبيعة إحساس عال بعدم جدية الحياة، إننا نمرح نمثل نلعب، وجودنا على الأرض مجرد مزحة مبهجة، فكرت بشكل مسلٍ أن أطرح نفسي أرضاً تحت أي سيارة على سبيل المرح، وتمنيت أن يكون لدي رشاش آلي لأقتل هذه الكائنات البغيضة التي تشعرني بالاشمئزاز.

1943

جرب الكيميائي ألبرت هوفمان في مختبر ساندوز في بازل بسويسرا 1943 مواد كيميائية، كان يحاول تطوير عقاقير تقيد أوعية دموية، وبالصدفة تناول مادة ثنائي إيثيلاميد التي ستعرف لاحقاً بالأسيد، وصدمته إلى الدرجة التي ألف عنها كتاباً "إل إس دي مشكلتي الطفولية"، هذه هي حكاية اللحظة الأولى في اكتشاف العقار. via GIPHY تحدث هوفمان عن أن الأشكال والأحجام في المختبر تعرضت لتغيرات بصرية، الضوء رآه حاداً، وكرجل علم وصف ما يقول عنه متعاطو العقار "الترباية" قائلاً : "أغلقت الستائر، وسقطت في حالة غريبة من السكر، تتصف بالمبالغة في الخيال". عندما أغلق عينيه رأى صوراً غير عادية بألوان حادة، تصعد نحوه، وبعد ساعتين انخفضت الحالة، واستطاع أن يأكل العشاء بشهية. المرة الثانية قرر أن يتناول العقار في حضور زملائه، ليستطيع أن يفرق بين الواقع والهلوسة، رأى وجوه أصدقائه مثل أقنعة ملونة غريبة. يكتب هوفمان عن هذه الحالة: لقد فقدت سيطرتي على الزمن، وأصبحت عشوائياً أكثر فأكثر، وتغلبت على خوفي من أني ذاهب إلى الجنون، الجزء الأسوأ من الأمر هو وعيي بعجزي عن إيقافه، شعرت أني خارج جسدي، اعتقدت أني مت، أنايا معلقة في مكان ما في الفضاء، ورأيت جسدي ممدداً على الأريكة، لاحظت بوضوح أنايا البديلة تتحرك في الأرجاء وتئن. أحس هوفمان أنه يمكن أن يكون للعقار قيمة علاجية هائلة، وفي مختبره تأكد أن العقار غير سام للفئران والبشر والجرذان، وبدأ يستخدمه بطريقة علمية وطبية. via GIPHY

أن ترى الموسيقى

أما أنا فكانت مرتي الثانية أجمل وأقوى من الأولى،  لم أتمالك نفسي عندما رأيته، ما هذا الشيء الذي بلا رائحة ولا طعم يجعل للحياة رائحة وطعماً، تذكرت أغنية بوب ديلان عن الأسيد "أنا مستعد للتلاشي"، تناولته سريعاً، كنت أستمع/أستمتع لأغنيات رود ريجيز "رجل السكر"، و "أتساءل"، هالني أن الموسيقى تتفاعل بشكل ساحر مع روحي، وكأنها خلقت لمتعاطي الأسيد، تخيلت أن ريجيز امرأة وليس رجلاً، حالته كانت أنثوية. شعرت أن الله خلق العالم ومعه الأسيد، ورود ريجيز، وألهمه غناء هذه الأغنية، فقط من أجلي أنا، أدخن السيجارة وأحتسي البيرة وأشعر أن الموسيقى تحررني، للمرة الأولى أستمتع دون الشعور بالخوف والذنب، دون الإحساس بتوتر أو تفكير في غد محبط، أو ماضٍ معقد، وصديقي يترجم لي "إنت الإجابة لما تظهر تختفي كل الأسئلة"، "أنا تعبان من اللي باشوفه، جايب لي معاك إيه، كوكايين وماريجوانا، أنا مشتاق للعب، رجع الألوان لأحلامي" وتخيلت أن الأغنية مدتها ساعة أو نصف ساعة، فوجئت بعد ذلك أنها لم تتجاوز الخمس دقائق، وأن المغني رجل. لأول مرة أجرب معنى أن ترى الموسيقى، أن ترسم الموسيقى وجوهاً وأمواجاً بألوان القوس قزح، أن يتوحد إيقاع الموسيقى مع نبضات قلبك ومع حركة الأشياء أمام عينيك. via GIPHY نتائج بُنيت على دراسات سابقة اعتبرت أن  آثار الهلوسة لمواد مثل المشروم السحري، فالعائلة التي ينتمي إليها الأسيد، تحتوي على مركب نشط في المخ يدعى بيسلوسيبين. اظهر المسح أن الذين يتعاطون العقار يعالجون العالم البصري بطرق مختلفة مقارنة بالذين لم يتعاطوه، المناطق في الدماغ التي لا تتبادل المعلومات في الحالة المعتادة هي التي تتناقش الآن بعضها مع بعض، وتخلق نمطاً من النشاط غير مرئي في أدمغة الناس. وبحسب دراسات سابقة فإن الأسيد يشجع الأعصاب في العقل على نشر روابط  وعلاقات في مناطق غير متصلة ببعضها، ويغير لبضع ساعات النظام الكامل للمخ. النشاط العقلي في العادة عبارة عن ممرات معلوماتية محددة تدعى الشبكات العصبية، ولكن تلك المحقونة بالبيسلوسيبين تتمرد على هذا الإطار، وتثور على تلك الممرات، ويقول علماء أعصاب إن المخ لا يصبح نظاماً عشوائياً بعد حقنه ولكن لديه سمات تنظيمية مختلفة قليلاً عن الحالة المعتادة، وهذه الروابط الجديدة مسؤولة عن حالات الهلوسة فيرون الأصوات، ويسمعون الألوان. يقول لي صديقي "معظم الفرق الموسيقية في الغرب كانت تتعاطى الأسيد في الستينات، كان عبد الحليم يغني "بالأحضان يا بلدنا يا حلوة" وهم يستمعون لهذه الموسيقى بتلك الطريقة التي نسمعها" ضحكت كما لم أضحك من قبل.

التحرر

شعرت باسترخاء غير عادي، وحركة فائقة للدم في جسدي، وميل لذيذ للإغماء، أحسست بالكمال، لا أحتاج إلى امرأة أو خمر أو حشيش أو للسفر، إني رائع هنا والآن، مستمتع بوجودي، قلت لصديقي لأتأكد من أنه يحس شعوري "إيه ده؟" رد وقال "واو!"، كيف في بضع دقائق تتحول من شخص إلى آخر؟ إنه تغير في الإدراك وليس في المزاج، شيء ما جديد على خلايا جسدي وعقلي أشعر به ألمسه أتذوقه وأشمه. قام  ديفيد نوت وزملاؤه  بإعطاء مادة بيسلوسيبين"الكامنة في عقار الأسيد" إلى 15 شخصاً، ووضعوهم تحت جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي، وتحت تأثير البيسلوسيبين لاحظوا انخفاض النشاط المعتاد في مختلف دوائر الدماغ، بما فيها منطقة يعتقد أنها تحافظ على الشعور بالذات، يعلق نوت: "نعتقد أن هذا التقليص لتلك الدائرة يسمح للناس بالفرار من ربطهم بالسلاسل إلى عملية التفكير هذه" في إشارة إلى أن الناس تفكر رغما عنها في مشاكلها وذكرياتها الشخصية، ولا تستطيع التحرر منها. ويحاكي البسيلوسيبين السيروتونين، مادة كيميائية في الدماغ، تستهدفها العديد من الأدوية المضادة للاكتئاب، والآثار المهدئة بيلولوجيا من البسيلوسيبين قد تستمر لأسابيع أو أشهر فقط، ولكنها تعلم الناس طريقة جديدة للتفكير. تساءلت في نفسي: هل يمكن أن أحيا هكذا إلى الأبد؟ لا أفعل أي شيء فقط مستمتع بوجودي...

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard