شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"الله لا يعيش في السماء؛ بل في الصحراء"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 9 أغسطس 201705:19 م

قال الفيلسوف الأوروبي الشهير إرنست رينان: "الصحراء هي التوحيد". ففي القرن التاسع عشر قدّم في نظريته شيئاً كان قد أدركه الكثيرون في ذلك الوقت: هناك صلة قوية بين القوة الساحرة للصحراء ومفهوم الله الواحد العظيم. تحدث الفيلسوف إيمانيويل كانت، في القرن الثامن عشر، عن القوة الساحقة للطبيعة تجاه كل إنسان خبر الوجود، أو فرصة الوجود، في محيط غير إنساني، وقد وصف رينان الصحراء بطريقة قريبة جداً من تعريف كانت للطبيعة العظيمة. ولكن قبل أي بحث فلسفي، هناك دليل تنبثق منه كل هذه التساؤلات: الديانات التوحيدية الثلاث كلها ظهرت في منطقة صغيرة تعرف الآن باسم الشرق الأوسط، في نفس الصحراء، وفي أرض قاحلة وقاسية؛ حيث لا توجد أشجار كثيرة، وحيث وجدت العقائد تربة خصبة لازدهارها.

إن مشقة الحياة في الصحراء، وتشابه المناظر الطبيعية، وغياب التنوع، كل هذه المظاهر تجعل من الصحراء مقابلاً لازدهار الطبيعة. وبهذا المعنى، فإن شريعة الديانة الهندية، التي تتبنى مجموعة لا حصر لها من الآلهة؛ كل واحد منها مخصص لغرض معين، ومكرس لنوع معين من الحماية، هي نتيجة للتجاوب في بيئة حيوية مليئة بالتفاصيل، والحيوانات والنباتات المختلفة. وفي المقابل، واجهت الشعوب السامية العزلة، والعيش تحت سماء ممتدة، والسير في أرض شاسعة، حيث لا يوجد أي شيء بوفرة، لا الفواكه ولا الأشجار ولا الينابيع. إن الحياة في الصحراء تعني العيش في مواجهة غير متكافئة مع الطبيعة التي تصبح مظهراً لله اللامتناهي، وفي طبيعة قاسية إلى هذا الحد تصبح الحاجة للمساعدة الإلهية أمراً لا مفر منه. هذه الطريقة من العيش قادت الشعوب السامية إلى "ألا يكون لديهم أنصاف درجات، في سجل رؤيتهم"، وهذا اقتباس من تي. إي. لورنس المواطن الإنكليزي المعروف باسم لورنس العرب بسبب مشاركته في الثورة العربية ضد الإمبراطورية العثمانية في القرن العشرين. كانت هذه الشخصية مثيرة للجدل في أغلب الأحيان، واعتبر الوجه الآخر للاستعمار الأوروبي، أو سفير الموقف الغربي النموذجي الذي قولب النظرة النمطية عن الشعوب الشرقية، تلك الممارسة التي سماها إدوارد سعيد "الاشتشراق".

وبغض النظر عن الانتقادات، فإن كتاب لورنس "أعمدة الحكمة السبعة" غنيّ بالآراء المتعلقة بحياة البدو؛ والتي لازال بعضها صحيحاً. لقد أثبت التاريخ أن اليهودية، والمسيحية، والإسلام ظهرت في نفس البقعة الجغرافية القاحلة من الأرض العربية في الشرق الأوسط، ولكن كيف نفسر هذه الخصوبة الروحية لهذا المكان الرتيب؟ المساحات الشاسعة العارية الفارغة، ورياح الصحراء الذي "بأحسن أحوالها بلا طعم" ... وكما قال البدو للورنس: هي علامة على غياب أي إشارة للوجود البشري، ولغياب إمكانية تحديد الأراضي التي تقاوم أي جهد إنساني لتغييرها. 

كيف يمكن تفسير علاقة الأديان السماوية بالصحراء؟ هل هناك ربط بين طبيعتها القاسية وتصور الوجود؟
مقارنة بالديانات الشرقية التي تتبنى منظومة متعددة الآلهة، تشترك الديانات السماوية بنظرتها للوجود وقدرة الإله الخالق
هذه البيئة، على الرغم من كل الصعوبات العملية، هي المكان الوحيد على الأرض الذي يستطيع الفرد أن يجد فيه نفسه متحرراً تماماً من المخاوف والطموحات المادية. وفي الوقت نفسه، فقد تركت هذه الحرية المطلقة صبغتها على الله، الإله الواحد الذي يظهر وجوده القوي من خلال الطبيعة. وحسب تعبير لورنس: "الله بالنسبة للبدوي ليس مجسماً، ولا ملموساً، أو أخلاقياً، وليس مهتماً بالعالم أو به، ولا بالطبيعة، ولكن بالوجود: بهذا ألوهيته لا تأتي من إنكاره بل من الاعتراف به، كوجود كامل، وكأساس لكل شيء، والطبيعة والمادة مجرد مرآة تعكس وجوده وعظمته".

الله واحد، متماثل مع شكله الأرضي: الصحراء الممتدة إلى ما لا نهاية. الصحراء ليست مكاناً للبشر، وهذه الخاصية تجعلها تجسيداً مثالياً للماورائيات: الله. ليست الصحراء تجسيداً لله بحسب؛ بل كانت موطناً لأنبيائه. فموسى، نبي اليهودية، قابل الله في الصحراء، وهناك تسلم الشرائع الإلهية لشعبه. وكذلك، المسيح بدأ بالوعظ العلني بعد أن قضى أربعين يوماً في صحراء يهوذا يصلي وحيداً. وأيضاً قضى محمد السنوات الأولى من حياته في الصحراء. وثلاثتهم بدؤوا حياتهم في مراكز تعجّ بالناس، ولكنهم استطاعوا الاتصال بالله فقط عن طريق العزلة في الصحراء؛ حيث لم يقدر أي إنسان أن يصل إليهم، بعيداً عن ضوضاء الحشود.

القدس المدينة المقدسة في الديانات الثلاث محاطة بالصحراء، نفس الصحراء التي جاء منها الأنبياء إلى المدينة لبشروا بما تعلموه فيها. كتب الكاتب روبرت رودريجيز في مقالته "إله الصحراء": "لقد جئت إلى الأرض المقدسة لأن إله اليهود، وإله المسيحيين، وإله المسلمين، إله مشترك، كشف عن نفسه في الصحراء". إنها مسألة الفراغ، والغياب، في أفضل حالاتها، هي تذكير بالوجود: "كل الأمكنة الفارغة في المدينة المقدسة، كل الساحات، والمناظر والمقابر، والذخائر الدينية، تشابه "فراغ" الصحراء... إن القدس هي عروس الصحراء"، كما كتب رودريجيز. أمّا الشرك فيعني الإيمان بعدة آلهة، أي إن لم تستطع أن تجد الله في مكان واحد، أو وضع واحد، فإن من المحتمل أن تجده في الزاوية التالية، أو أثناء الحدث التالي. ولكن بدلاً من ذلك يدور معظم التوحيد حول المطلق: سواء كانت الفكرة هي الحضور المطلق، أو الغياب المطلق، فالأمر يعود إلى الفرد. فإذا كنت مؤمناً، فإن الصحراء ستكون الصورة المطلقة لقوة الله؛ وعلى العكس من ذلك، فإذا لم تكن مؤمناً فإن الصحراء ستكون نموذجاً ودليلاً للفراغ فقط. ربما كانت قوة الطبيعة أول وأوضح رمز لله، كما يعلّمنا التوحيد، ولكن قد يقول بعض الملحدين بدلاً من ذلك، إن قوتها هي الشاهد الأهم على غيابه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard