شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حين تكون فلسطين أكبر من حدودها... آمال الراعي مثالاً

حين تكون فلسطين أكبر من حدودها... آمال الراعي مثالاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 14 يونيو 201703:59 م

حين أفكر بأبطالي تتقافز أمامي صور سليم بركات والياس خوري ومروان البرغوثي والظاهرة البرازيليّة رونالدو والكثير غيرهم، لكن صورة آمال الراعي تحتل موقع الصدارة بين مجموع صور أبطالي الشخصيين.

كانت المرة الأولى التي أدخل فيها إلى مخيم فلسطيني في لبنان حين رأيتها في ذلك الشارع ذي المدخل الضيق الذي يوصلنا إلى تجمع سعيد غواش، والتجمع هذا ملاصق لتجمع الداعوق المتداخل مع مخيم صبرا المجاور لمخيم شاتيلا في بيروت، وهذه التجمعات والمخيمات هي أكبر تجمع للفلسطينين في العاصمة اللبنانيّة.

سمراء ذات سمرة حلوة، نحيلة كأن لا لحم يكسو عظامها، طويلة كأنّها تعانق نخل السماء. تبتسم وتصيح بالناس في الوقت نفسه. مشت معنا في دروب المخيم الضيقة حتى وصلنا بيتها الصغير حيث ولدت، وما زالت تعيش فيه. كنّا بضعة شباب يريدون أن يساعدوا السوريين اللاجئين حديثاً إلى بيروت.

بقي بيتها مركزنا في المخيم مدة سنة ونصف السنة عشتها في بيروت. كانت تساعدنا في كلّ شيء، وتساعد الناس في كلّ شيء. كان عملها تطوعياً؛ تذهب إلى المستشفيات مع النساء اللاتي على وشك الولادة، تسجل أسماء العائلات الجديدة القادمة إلى المخيم لتسهيل إيصال المعونات لهم، تبحث عن بيوت للسكن وأماكن للإيواء، تشتري الأدوية من مالها الخاص حين يحتاج مريض إلى دواء، ترسل أولادها في كلّ الاتجاهات لخدمة بشر لا تعرفهم، وكلّ ذلك دون مقابل مادي.

18402643_1500207573356720_4553240080401237922_n

أكسبتها شهرتها بين اللاجئين والعاملين في الجمعيات المدنيّة والأهليّة، الجديدة منها والقديمة، كأبرز الناشطين المجتمعيين في مخيمات بيروت عداوة بعض الناس ومحبة معظمهم. هي لم تكن تلتفت إلى كلّ هذا، كان همّها الوحيد هو أن تساعد الناس ليعيشوا حياة كريمة، بالحد الأدنى على الأقل.

حين أفكر بفلسطين أراها تشبه آمال الراعي، تعرفوا عليها...
لا أدري كيف أكتب عن هذه التي لا تتوقف عن القتال كلّ لحظة من أجل حياة ملأى بالمعنى في زمن لا معنى فيه

آمال الراعي لم تبدأ حياتها العامة ونشاطاتها المجتمعيّة حديثًا، فهي كانت قد انضمت إلى مجموعات الثوار الفلسطينيين منذ طفولتها، حملت السلاح خلال اجتياح بيروت رغم عمرها الصغير آنذاك، كان لها دور في إنقاذ بعض الناس في حرب المخيمات من خلال عملها في إسعاف الجرحى وتأمين احتياجات العالقين في حصار المخيم. صورة ياسر عرفات معلقة في صدر غرفة معيشتها،، تحبه إلى درجة أن أحد أولادها كان يظن أنّ أبا عمار هو جده.

زارت سجون النظام السوري حين كان يحتل لبنان، كثير من الناس كان يحاربها خلال عملها، زواجها الأول والثاني، تقلبات حياتها غير السهلة... هذا كله لم يجعلها تتخلى عن أهدافها. ظلّت متمسكة بمبادئها التي لا تتزعزع: فلسطين، التي لم ترها، هي الحب الأوحد، وكلّ إنسان له الحق في العيش بكرامة في أيّ زمان ومكان.

كانت تقول إنّني ابنها الذي لم تلده، رغم أنّها حتى اليوم تُخطئ لفظ اسمي. مرة اضطررت إلى الدخول إلى سوريا بطريقة غير شرعيّة ولم أستطع الخروج لشهور. قالوا لي إنّها كانت تبكي كلّما ذُكر اسمي أمامها. حين وصلت بيروت بعد رحلتي المتعِبة احتضنتني في الشارع الضيق المفضي إلى بيتها، عيناها مغرورقتان بالدموع، قبّلت يدها وقلت لها "يمّا".

لا أعرف ما الذي يجب أن أكتبه عن هذه المرأة، أخاف أن أظلمها في ما أكتب. لا أدري كيف أكتب عن هذه التي لا تتوقف عن القتال كلّ لحظة من أجل حياة ملأى بالمعنى في زمن لا معنى فيه. لا أدري ماذا أقول وكيف أقول وعن أي صفات أتحدث. أريد نصًا حقيقيًا لا مدحًا ولا ذمًا. أريد أن أكتب حقيقة ما رأيت من هذه المرأة وما سمعته منها. أريد أن أكتب حكاياتها التي لا تنتهي مثل حكايات الجدّات رغم أنّها لم تبلغ عمر العجائز بعد، لكن أخاف أن تضيع حكايتها وسط كلّ هذه الحكايات. أؤمن بأنّ الزمن والتاريخ غداران، لذا أخاف أن لا تُقال حكاية آمال فتموت؛ لأنّ الحكايا التي لا تقال….. تموت.

فلسطين هي قضيتي، مثل باقي قضايا الحريّة والكرامة في العالم، وحين أفكر بفلسطين أراها قويّة وحلوة ولا تخاف شيئًا كمقاتل وضع الحريّة نصب عينه ولا يُحيده عن هدفه شيء. أراها طيبة وحنونة مثل امرأة لا تستطيع الإنجاب فتحّن على كلّ أطفال العالم. أراها عزيزة وكريمة وحرّة مثلما أشتهي لحبيبتي أن تكون. حين أفكر بفلسطين أراها تشبه آمال الراعي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard