شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
بعد شطب

بعد شطب "ألهاكم التكاثر": أين نعثر على الله؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 21 فبراير 201712:17 م
هل الحرب التي تشهدها الساحة الثقافية هذه الأيام تستهدف فعلاً المقدسات؟ وهل مسارحنا التي تعمد إلى توظيفها بأشكالها المختلفة في أعمالها الابداعية تهدف إلى استنطاقها أم هي تعكس تصوّراً فكرياً من منطلق انتقامي ضدّ سياسات توظيفها في مواسم الذبح وقوافل القتلة من الإرهابيين وآكلي لحوم البشر.

المقدسات، هل تكون ملكاً للجميع؟

أود أن أسأل بأي حق يصير النص المقدّس مصادراً من قبل الجماعات التكفيرية والمحافظة وحكراً عليها دون الآخرين، من الفنانين خاصة؟ وهل حضور المقدّسات في صالونات العروض أمر يمس من نرجسيتها وغرورها المعمّد في تصدير القيم المطلقة؟ وهل فعلاً استخدامها في النصوص المسرحية وعروضها يراد به تدنيسها؟ ألا يجعل هذا الأمر من المقدسات محاصرة بين ثقافتين، أولى تحتكرها، وتنزلها إلى سطح البسيطة كي تهبها شرعية القتل وتكفير طائفة ما من البشر، وثانية تحاول استنطاقها فلا هي تعيد للمسرح بهاء التقائه بما هو طقوسيّ، عندما كانت الأساطير تروي غوائل الطبيعة وصراع الناس ضدّها، ولا هي تشطب ما لحق هذه المقدسات من تشويه متعمّد؟ أليس من الأفضل أن تتمّ عملية شطبها, كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف "جان لوك ماريون"، عسى أن تتحرّر من ثقافات تحرّم وتجرّم، وأن تظلّ نقية خارج قيح هذه الحضارة المضرّجة بالجراحات، فتتحرّر من الوجود كما قال المفكر التونسي فتحي المسكيني؟

الرقابة والقرابين السياسية

ثمّة تراجيديا طائفية تحدث الآن، أصابت عدواها الفعل المسرحي، فبالأمس القريب وقف أكثر من نائب في البرلمان الكويتي، متّهماً وزير الثقافة الذي تمّ شطبه من مهامه، نتيجة عرض مسرحي تونسي اعتبر في نظرهم مخلاً بالأخلاق، ومنتهكاً للعادات والتقاليد. وبالأمس القريب، أثارت مسرحية عراقية جدلاً واسعاً في الجزائر، لأنه ثمّة ممثّل جسّد شخصية النبي موسى. ثم ها هو فصل آخر من فصول هذه التراجيديا يجد منبعه في عرض كوريغرافي/ مسرحي للمخرج نجيب خلف الله، من إنتاج المسرح الوطني التونسي، فمنذ عرضه الأوّل وبسبب تدوينة على شبكات التواصل الاجتماعي للممثلة الأردنية القاطنة بتونس "أسماء مصطفى"، كتبت فيها اسم العرض لا أكثر: "ألهاكم التكاثر"، عمدت نقابة الفنانين الأردنيين إلى فصل عضويتها، بل وشنّت ضدّها حملات تشويه وصلت حدّ تكفيرها. في المقابل، أرسلت نقابة الأئمة وأعوان المساجد في تونس، بتاريخ الجمعة 17 فبراير أو شباط 2017، مبعوثا قانونياً لمعاينة اللافتة الإشهارية للعرض، لأنها تتضمّن صورة تنتهك المحرمات في نظرها، وإضافة إلى ذلك وجّهت رسالة خطية إلى إدارة المسرح الوطني مختومة بكثير من الوعيد، بينما جنّدت أقلاماً محافظة لتجرّم هذا العرض وتكفّر الممثلين، معتبرة أنّ المساس بكلمات وردت في النص القرآني استفزاز علني وصريح ضد معتقدات المسلمين، وتهكّم سافر وجب مقاومته بأي شكل من الأشكال.
"ألهاكم التكاثر" فجن جنون المباحث... عندما يتحول النص المقدس إلى سلاح في لعبة الشطرنج السياسي
بعد الجدل الذي أثارته مسرحية "ألهاكم التكاثر" في تونس.. هل آن أوان أن نعيد للمقدس براءته بطرده من وجودنا؟
أثار هذا الموقف حفيظة التقدميين والفنانين والسياسيين، إذ رأوا فيه موقف يهدّد الحرّيات ويقوض جل المكتسبات المعنية بالحق في التعبير، كما نظر إليه المسرحيون من زاوية عودة الرقابة وسلطة المراقبة والمعاقبة التي تحرروا منها. حقّقت زوايا النظر المختلفة هذه ضجة في الشارع التونسي، خاصة بعد أن ترجمته وسائل الاعلام بأشكال مختلفة، ما ولّد احتقاناً مخيفاً ومرعباً يمهّد لتصادم فعلي بين مختلف المؤيديين والرافضين. نتيجة الضغوطات التي تعرّض إليها المخرج، مع الصمت المريب لإدارة الإنتاج، تقدّم باعتذاره، وشطب عنوان العرض، ما حوّل وجهة غضب الجمهور المسرحي ومسانديه، من إدانة التيار المحافظ، والتأهّب ضدّه وصدّه، إلى تهجمهم على المخرج ذاته، بتخوينه، واتهامه بالجبن. هنا منبع التراجيديا ذاتها، إذ تضاعفت وطأتها، فأن تنتصر إرادة نقابة الأئمة بهكذا شكل، فهذا يمهد لتطاولها المستقبلي على المنجز الابداعي والمسرحي، بوصفها تحشر نفسها الآن كجهاز للرقابة يرسم حدوداً أخلاقية لم يعد للمسرح الحقّ في تجاوزها. ولأنّ هذه النقابة مرتبطة تنظيمياً تمام الارتباط بتوجهات أطراف سياسية، فمن المؤكّد أن تستثمر انتصارها، بعد أن حقّقت شعبية جماهيرية أثرت عليها من خلال هذه المعركة، في أوّل انتخابات بلدية قادمة، وكما هو معلوم فقد اقترب موعدها، وهذا ما يفسّر كيف تحوّل الفعل المسرحي بصفة خاصة والفن بصفة عامة إلى قربان سياسي محض.

عندما يتحول المُقدّس إلى سلاح سياسي

إن الإشكال الحقيقي، ليس في شطب عرض "ألهاكم التكاثر" من عدمه، فقد يكون متواضعاً من زاوية جمالية إذا تمّ تشريحه وتحليله بآليات وأجهزة مفهومية تجد تربتها في الحقل المسرحي، ولكن الأقسى في هذا الأمر، أن يتحوّل المقدّس إلى حصان طروادة، أو سلاح يتمّ تشغيله لغايات تقتضيها لعبة الشطرنج السياسي، بما هو عنوان شرعية الوجود بالنسبة إلى البعض.

هل يعد استخدام كلمات وردت في القرآن استفزاز علني ضد معتقدات المسلمين ولماذا يحاصر القرآن بهذه الطريقة؟

ولا يخفى علينا أنه منذ صار سبياً في بنادق الأصوليين، تحوّل المقدس إلى مارد يهاجم الفنانين ويهدّدهم، إلى حد الترويع والقتل، فلم يكن منهم إلا التصدي له، ومنذ حرب ضروس كهذه ولدت مقولة الفن في مواجهة الإرهاب، ولكنها للأسف كانت مواجهة بافلوفية، قائمة على ردّة الفعل، لا على استنطاق السرديات الدينية وتحريرها من دائرة التعصّب والقيم المطلقة إلى ما هو نسبي، تسامياً بها إلى حسّ إشكاليّ، وهذا ما جعل من الفنّانين أنفسهم يجعلون من المسرح شبيهاً بسلاح طائفي مضادّ لطائفة القتل ومذاهب الذّبح. بضرب من المجاز اللغوي، يمكننا القول إنّ المقدس لم يعد يجد له وطناً في هذا الوجود. فمن جهة سياسية، لم تعد ثمّة ثقة إطلاقاً في أولئك الذين نصبوا أنفسهم دفاعاً عنه، متكلمين بدلاً منه، بعد أن غمّسوا اللحوم البشرية في محارق الشواء، واستبدلوا القرابين الحيوانية والأضاحي بأخرى آدمية، وكتبوا سرديات توحّشهم بدم الأطفال، ثمّ رشقوا الرؤوس، فاغتالوا وفجروا وخربوا وعمروا سطح البسيطة بأشباح وكوابيس مرعبة. ومن جهة فنية، ظلّت المسارح وصالوناتها محفوفة بغير قليل من البهرج الليبرالي، وحتى أنها فتحت قلاعها لهذا المقدّس، فهي إما وجدت صعوبة في استنطاقه، أو هي تتراجع وتقدّم اعتذارها، ما حوّل المقدس إلى لاجئ يبحث له عن ركن مهجور في هذا الوجود علّه يحتفظ بقليل من البراءة. أجل، إنّها أعنف تراجيديا يشهدها قرننا الحالي، فلأول مرة، نعم لأول مرة، يغادر المقدس الرّكح كشهيد بائس، فبعد أن طعنته مدية الإرهابيين منذ أن تلبّسوا به، ثم أمروه أن يذبح ويقتل، أن يخرج من أفواه البنادق كمن تحرّكه نزعة الغلّ، يخرج الآن طريداً من المسرح، بعد أن وجد فيه الوطن والمنفى الأخير، مجبولاً على الدمّ، على صدره بقايا دم يابس، وبين كتفيه جرح غائر. سيبدو السؤال ملهماً حين نطرحه كالتالي: هل آن أوان عودته إلى الصفاء الخالص، البراءة الأولى، بطرده من وجودنا وكوكبنا؟

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard