شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
من تركوا أوطانهم...

من تركوا أوطانهم...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 12 يوليو 201607:31 م
في نوفمبر عام 1956، بعد الأزمة السياسية التي انفجرت بسبب تأميم قناة السويس، وصلت أم مصرية إلى مبنى سكني معتم في القاهرة، كانت قد انقطعت الكهرباء عن المدينة. هكذا، عندما دقت المرأة بقوة على باب أختها، كان صوت دقها الوحيد الذي يخترق الصمت المخيم. لم يكن الباب باب شقة أختها، فقد أخطأت المرأة بالطابق بسبب العتمة. والباب الذي طرقت عليه كان باب شقة لعائلة تم القبض عليها للتو دون أخت المرأة. ربما انهارت المرأة بين ذراعي أختها عندما تلاقتا في النهاية، وقالت لها إن زوجها الذي يعمل في قناة السويس ما زال محتجزاً مع عدد من رجال العائلة، في مكان كان في السابق مدرسة خاصة للفتيات المضطربات، وهم يأكلون الفول الذي خلطه الحراس بالرمل، والسبانخ التي صبوا عليها البول. وربما حكت لها أنها بسبب ذلك أخذت أطفالها الثلاثة في قطار القاهرة، ونبهتهم ألا يتكلموا بالفرنسية، كي لا يميزهم أحد كيهود عندما تسلق النوافذ رجال "غاضبون، صارخون"، واقتحموا عربتها. "لقد نجونا من الموت" كما كتبت في ما بعد. الطفل الأوسط كان فتاة، هي أمي. Picture1Picture1 هناك طائفة يهودية اسمها "العنانيين"، أو "كرائيم"، وتتم ترجمة اسمهم في العادة بـ"القرائين". أسرتي تفضل تسميتهم بـ"الذين يتبعون الكلمة المكتوبة"، لكن المعنى هو نفسه. يعترف القراؤون فقط بالتوراة المكتوب، الذي يتألف بالأساس من كتب موسى الخمسة الأولى. وهم يرفضون التقاليد الشفوية التي دونت في نصوص لاحقة، وسلطة التفسير الحاخامية. ولأن أبناء الطائفة يسجدون وهم يؤدون الصلاة، فقد ذهبت مقالة في نيويورك تايمز إلى القول إن الطوائف اليهودية الأخرى ترى أن القرائين "يصلون مثل المسلمين".
كيف يمكن لفرد أن يحيا في عالم جديد، وذاكرته موجودة في عالم آخر؟
اسأل الذاكرة، ودعها تتكلم...
المرأة وزوجها الذي أطلق سراحه في ما بعد، وأطفالهما، والأخت الكبرى للمرأة، والصغرى، وعائلاتهما، كلهم معاً، جزء من "الجماعات المنسية ليهود في مصر"، فروا جميعاً. كانوا فعلياً بلا جنسية، فلا مشروع جمال عبد الناصر يعترف بهم، ولم تحسب لهم حساب القوات الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية التي صارعت المشروع الناصري. وقد حلوا في نهاية المطاف في الولايات المتحدة الأميركية. أما الآخرون من طائفتهم فقد ذهبوا إلى البرازيل، أو إلى إسرائيل. والغالبية العظمى، بما فيهم جدي وجدتي، وعمتا والدتي، فقد ماتوا، وتاريخ حياتهم في القاهرة بكامله يكاد يكون تاريخاً منسياً. كنيس القرائين الوحيد في الولايات المتحدة الأميركية، حيث أعمل كباحثة في الأدب، موجود في كاليفورنيا، ويديره أفراد آخرون من عائلتي. ربما نشأ القراؤون في القرن التاسع في بغداد، وهناك احتمال ثان أن جماعة القرائين كانت تعيش في مصر منذ منتصف القرن السابع الميلادي. كانوا في وقت من الأوقات يشكلون نصف عدد اليهود تقريباً. وقد حافظوا، بين القرن التاسع والثالث عشر الميلاديين على وجه الخصوص، على علاقات وطيدة مع المجتمعات الإسلامية عبر العالم العربي. وعدد القرائين الآن يراوح تقريباً بين 30 و50 ألفاً في إسرائيل، والولايات المتحدة، وشرق أوروبا. [caption id="attachment_65306" align="alignnone" width="700"]صورة من عرس جدتي وجدي في 29 أكتوبر، 1946_---صورة-من-عرس-جدتي-وجدي-في-29-أكتوبر،-1946- صورة من عرس جدتي وجدي في 29 أكتوبر، 1946[/caption] بعد زواجي عام 2013، تلقيت حزمة من الوثائق الأصلية التي تتابع طفولة جدتي في الإسكندرية، وزواجها من جدي، وحياتهما في الإسماعيلية، وعمله في شركة قناة السويس، وشهادات ميلاديهما، وهويتيهما الشخصيتين، وشهادة سلوك صادرة عن جماعة القرائين في القاهرة. وثائق استخدمتها العائلة في محاولة إثبات نسبها المصري. وأخيراً بين هذه الأوراق الكثيرة، أدلة على فشل، أو عدم جدوى، ذلك المسعى: إيصالات خمس تذاكر سفر بحراً من بور فؤاد إلى مرسيليا، وطلبات لجوء إلى فرنسا، والولايات المتحدة الأميركية، وإشعارات بالتعويضات النقدية من شركة القناة، اعترافاً منها بالمعاناة والألم، صدرت بعد سنوات عديدة. Picture2Picture2 تتساءل المرأة، بعد نصف قرن على مغادرتها العالم العربي، لماذا مصر في روحها أقوى من أن تنسى: "هذا البلد، بلدنا، والبلد الوحيد الذي كنا نعرفه". إنه سؤال قديم، يعاد مرات لا نهاية لها، على الرغم من أن مشكلة الهجرة إلى أوروبا الحالية تجعله، على وجه الخصوص، واضحاً على نحو ملح: كيف يمكن لفرد أن يحيا في عالم جديد، وذاكرته موجودة في عالم آخر؟ الجواب عشوائي، لا يميز ولا يكترث لشهادة عالم الآثار السوري، أو معلمة المدرسة الباكستانية، أو الأب الأريتيري، أو المرأة القرائية: اسأل الذاكرة، ودعها تتكلم.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard