شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
من جون ناش إلى أبي حيان التوحيدي... هل العباقرة كلهم مجانين؟

من جون ناش إلى أبي حيان التوحيدي... هل العباقرة كلهم مجانين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 28 يونيو 201712:30 ص
كان يطلق عليه اسم "العبقري المجنون". هو عالم الرياضيات الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد جون ناش، الذي ابتكر نظريات عدة غيّرت مجرى الاقتصاد الحديث، وكان في الوقت نفسه يصارع مرض التوحد والهلوسات السمعية والبصرية والشخصيات الخيالية، التي كانت تعيش في عالمه الخاص. لا بد من أن نتساءل كيف يمكن للعبقرية والإبداع أن يجتمعا مع المرض النفسي والجنون؟ وهل القول السائد إن العبقرية والجنون تفصل بينهما شعرة دقيقة صحيح؟ إليكم حكايات أبي حيان التوحيدي، وصلاح جاهين، ومؤنس الرزاز وغيرهم من المبدعين مع الجنون.
[caption id="attachment_91963" align="alignnone" width="350"]John_Forbes_Nash,_Jr._by_Peter_BadgeJohn_Forbes_Nash,_Jr._by_Peter_Badge جون ناش[/caption]

"نحن أصحاب الصنعة كلنا مجانين"

من المتعارف عليه بين عامة الناس أن العبقري غريب الأطوار يعيش في عالم خاص به، ويحمل أفكاراً لا يفهمها من هم حوله. هو شخص استثنائي، لا يشبه بقية الناس في طريقة لبسه وسلوكه واهتماماته. ولو كان شخصاً عادياً، لما كان مبدعاً أو استثنائياً. الفكرة السائدة حول أن العبقري لا بد أن يتسم بالجنون، تعود إلى آلاف السنين. وقد أشار إليها فلاسفة اليونان القدماء، وكانوا أول من تحدث عنها، كما ذكر الطبيب النفسي والأستاذ في جامعة السوربون فيليب برينو في كتابه العبقرية والجنون. كانوا ينعتون أنفسهم بالمجانين، وكان أفلاطون ينصح سكان مدينة أثينا بعدم تقليده في أفعاله وتصرفاته، في حين جزم تلميذه أرسطو بأنه لا يوجد عبقري لا يعاني مسّاً من الجنون، مؤكداً أن العبقرية تبدأ بالوحدة والعزلة، وتنتهي بالصرع والجنون، إذا لم يرافقها العمل والإبداع. ويقول الفيلسوف بيرن: "نحن أصحاب الصنعة كلنا مجانين". بالعودة إلى تاريخ العظماء في العالم، لم يكن جون ناش العبقري الوحيد الذي عانى من اضطرابات وأمراض نفسية. فقد أجمع المؤرخون على أن إسحاق نيوتن مكتشف قانون الجاذبية ومخترع التلسكوب، كان يعاني من مرض التوحد والاكتئاب. وأينشتاين الذي طور النظرية النسبية، كان يعاني من حالة من حالات التوحد، وكان منعزلاً، يتعامل مع الأشياء أكثر من تعامله مع الأشخاص، وعرف بتصرفاته الغريبة، فكان يرتدي ملابس رثة في مناسبات راقية، ويلقي محاضرات صعبة لا يفهمها معظم الحضور. كذلك كان الرسام الهولندي فان غوغ معروفاً بتصرفاته الغريبة والمرضية، فعندما أحب فتاة قطع أذنه وقدمها لها هدية، وكان يعاني من نوبات صرع عنيفة، كاد في إحداها أن يقتل زميله الفنان بول غوغان. وجعله الاكتئاب المزاجي الذي كان يعانيه، يحمل حماساً شديداً للرسم، فكان ينهي لوحات صعبة ومعقدة في فترة زمنية قصيرة، ليدخل بعدها في فترة اكتئاب طويلة، دفعته للانتحار بعد فشل عدة محاولات. كذلك اشترك الملحن والموسيقي العالمي بيتهوفن مع من سبقه بإصابته باضطرابات نفسية عنيفة، جعلته يعاني من اكتئاب حاد وحزن دائم، حاول جاهداً السيطرة عليه وتناسيه بتعاطي الكحول والمخدرات. أما الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز، كاتب رائعته "قصة مدينتين"، فأصيب بنوبات اكتئاب في عمر الـ34، وكان غريب الأطوار، يخرج من منزله ليلاً، ويسير خمسة أميال في الليلة الواحدة، ويدخل منازل أصدقائه من نوافذها بحجة مفاجأتهم.

الجنون العربي

يؤكد المؤرخون أن الكثير من العباقرة العرب عانوا من اضطرابات نفسية حادة أيضاً، أدت إلى انتحار الكثير منهم على مر التاريخ. لكن الموضوع، الذي كان مدعاةً للفخر عند بعض العباقرة والمبدعين الأوروبيين، كان العرب يتجنبون الخوض فيه خوفاً من نظرة المجتمع إليهم واتهامه لهم بالغرابة والجنون. في عداد أبرز الشخصيات الغريبة الأطوار، التي عانت من اضطرابات نفسية حادة قادت صاحبها للانتحار، أبو حيان التوحيدي، الذي يعتبر واحداً من أكثر الفلاسفة والأدباء الذين أثّروا في عصرهم في شتى أنواع  العلوم والآداب. كان أبو حيان التوحيدي يعاني من اضطراب في المزاج، وهو نوع من الاكتئاب المزمن. فكان كثير الشكوى لا يرضى بشيء وسريع الغضب، عاش حياة بائسة انتهت بموته منتحراً وفقاً لروايات عديدة.
[caption id="attachment_91966" align="alignnone" width="350"]صلاح-جاهينصلاح-جاهين صلاح جاهين[/caption]
كما عانى الشاعر المصري صلاح جاهين من اضطراب نفسي جعل مزاجه متقلباً. فأحياناً يكون مبتهجاً، وفي قمة النشاط الإبداعي، وأحياناً أخرى يعيش وحيداً في قمة الحزن والاكتئاب، الأمر الذي زاد من معاناته إلى أن انتهت حياته منتحراً. كذلك عانت الكاتبة والروائية العراقية حياة شرارة من اضطرابات نفسية أدت إلى انتحارها مع ابنتها مها، احتجاجاً على الأوضاع الصعبة والتهميش الذي عاشته. النهاية المأسوية نفسها شهدها الكاتب المسرحي المصري محمود دياب، الذي مات منتحراً أيضاً. أما مؤنس الرزاز، الكاتب والروائي الأردني، فكان يعاني من حالات اكتئاب أدت إلى دخوله مصحاً عقلياً أكثر من مرة، ودفعت به إلى إدمان الكحول والمخدرات قبل وفاته. الشاعر المصري صلاح عبد الصبور لم ينكر إصابته بالاكتئاب أيضاً، لكنه رفض تناول الأدوية وفضل الموت تحت تأثير الاكتئاب على الكتابة بعيداً عنه. لم يقتصر الاكتئاب والجنون على الكتاب والشعراء والروائيين فقط، فبطل دمشق في لعبة الشطرنج عماد حقي المعروف بذكائه الفائق وعبقريته، جاب شوارع دمشق فاقداً عقله، بعدما سيطرت عليه الأمراض النفسية، وسلبه الجنون عقله وإنجازاته.
[caption id="attachment_91965" align="alignnone" width="350"]حياة-شرارةحياة-شرارة حياة شرارة[/caption] إذا كانت الأمراض النفسية من سمات العبقرية، ومحفزاً من محفزات الإبداع، لمَ ينتهي المطاف بكثير من العباقرة في المصحات ومستشفيات الأمراض النفسية؟ وهل توصّل الطب النفسي لتفسير علمي ينهي الجدل في سر العلاقة بين الجنون والإبداع؟ أسئلة عديدة يجيب عنها الطبيب النفسي فيليب برينو في كتابه العبقرية والجنون، الذي تناول فيه حياة عشرات المبدعين والعباقرة، ممن خلد التاريخ أسماءهم، وكانوا يعانون من أمراض نفسية مختلفة، عملوا على التخلص منها واستثمارها في توليد الإبداع. فتفكير المبدع وتصرفاته تختلفان عن الناس العاديين، لكن الاضطرابات النفسية التي تلاحق غالبية المبدعين تزيد الفجوة بين المبدع والعالم المحيط به، وتزيد معها المعاناة والتناقض اللذين يعيشهما مع مجتمعه المحيط، وهذا ما يدفعه لتكثيف جهوده الإبداعية في محاولة للسيطرة على أمراضه النفسية، التي قد تؤدي به إلى الجنون، إن لم يستطع السيطرة عليها وضبطها بالابتكار والإبداع. وهذا ما حدث مع الشاعر الفرنسي جيرارد دو نيرفال، الذي لم يكن يخرج من مستشفى الأمراض النفسية حتى يعود إليه، والفيلسوف نيتشه وغيرهم ممن استطاع الجنون أن يسيطر عليهم.

براهين

قام الباحث فيليكس بوست عام 1994 بدراسة إحصائية لتفسير العلاقة بين الإبداع والجنون، شملت 291 شخصية عبقرية، ظهرت خلال القرنين 19 و20، وانتمت إلى عالم السياسة والفلسفة والعلم والفن والأدب. ووفقاً لنتائج الدراسة، يتميز العباقرة بصفات غير طبيعية، ولا يخلو عبقري من إمارات الجنون أو التوتر النفسي الحاد. و50% منهم يتميزون باضطرابات نفسية حادة جداً، أفقدتهم القدرة على الإبداع في بعض فترات حياتهم. وارتفعت هذه النسبة لدى الفلاسفة لتصل إلى 60%، في حين بلغت النسبة عند الأدباء والشعراء 70%، لتنخفض لدى الرسامين والموسيقيين ورجال السياسة لنحو 30%. دراسة أخرى حديثة أجريت عام 2010، لتفسير العلاقة بين الإبداع والاكتئاب الهوسي الثنائي القطب، الذي يعاني منه عدد كبير من العباقرة، ويتمثل بتأرجح في المزاج بين السعادة الشديدة والكآبة المفرطة، تمت على 700,000 مراهق سويدي بأعمار لا تتجاوز 16 عاماً. أظهرت نتائج الدراسة أن المراهقين ذوي القدرات العقلية العالية، معرضون للإصابة باضطراب ثنائي القطب خلال عقد من الزمن، أكثر من أقرانهم من ذوي القدرات العقلية الأدنى بأربع مرات. وأكد الباحثون أن الأفكار العظيمة البناءة تظهر لدى المصابين بهذا الاضطراب في فترة شعورهم بالسعادة بعد خروجهم من الكآبة المفرطة. ويفسر ذلك علمياً بالارتباط بين مناطق المخ المسؤولة عن الإبداع، والمناطق المسؤولة عن تأرجح المزاج.

ليس كل عبقري مجنوناً

تشير أمل سرحان، الباحثة في علم النفس، إلى أن العبقرية لا ترتبط بالجنون بشكل مباشر، ولكن العبقري إذا أجبر على البقاء في بيئة لا تتوافق مع ميوله واهتماماته، فستسيطر عليه الأمراض النفسية وتؤدي به إلى الجنون. ذلك أن العبقري شديد الحساسية ومتمرد، لا يمكن تقييده بحدود، يفكر بحرية وغرابة ويسعى لإثبات عبقريته بغض النظر عما هو سائد بعرفه ومجتمعه، وهذا ما يعرضه لخطر الازدراء والاستهجان ممن حوله. فالخروج عن المألوف لا يلقى ترحيباً في مختلف الأوساط، ومع تجاهل الآخرين لدور العبقري وتهميشه، تزداد لديه الاضطرابات النفسية، ويزداد معها احتمال إصابته بالجنون. وتؤكد سرحان أن العبقري يمكن أن يكون شخصاً متوازناً، وبعيداً عن المشاكل النفسية، إذا توافرت له البيئة الإبداعية المناسبة. تقول: "يمكن للعبقري المحافظة على توازنه النفسي بخطوات بسيطة، من خلال الحفاظ على حريته واستقلاله بعيداً عن القيود المختلفة، وعدم السماح لأحد باقتحام خلوته الخاصة. فلكل عبقري أوقات يحددها لنفسه للتفكير والإبداع". وتضيف أنه من الضروري تعزيز ثقة العبقري بنفسه وتقدير جهوده وإنجازاته، وتقبل أفكاره وابتكاراته مهما كانت غرابتها، وعليه ألا يسلم نفسه لجهل المحيطين به والمنافسين، وأن يتقبل اختلافه عن الآخرين، ويتفهم التقاليد الاجتماعية المختلفة، دون أن تشغله عن تحقيق هدفه. في المقابل، تشير الباحثة، يجب على المجتمع اكتشاف العبقري واحتضانه وتأمين المناخ التنافسي المناسب لتحفيز إبداعاته لا ازدرائه وتهميشه، فمهمة استغلال العباقرة والمحافظة على صحتهم النفسية وحمايتهم من الجنون، تقع على عاتق مجتمعاتهم.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard