شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"زرزورة" قصة الجنة الأرضية المفقودة في صحراء مصر الغربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 25 يناير 201706:30 م
يهرب البسطاء من عناء الدنيا ومشقة الحياة، ويمنّون أنفسهم بالوصول إلى جنة أرضية يخلقونها، ويسردون حولها قصصاً وحكايات وأوصافاً، يحاكون بها الجنة السماوية، بما يتماشى مع معطيات بيئاتهم الفقيرة. هكذا هو حال أهالي الواحات الداخلة في صحراء مصر الغربية، الذين صنعوا بمخيلتهم جنة أرضية أسموها "زرزورة"، صاغوا حولها القصص المختلفة ووضعوا شروطاً لمن يدخلها وخطايا تخرج مقترفها منها. يستعرض الباحث فارس خضر في كتابه "المدن المسحورة... تجسير المسافة بين السماء والأرض"، حكايات هذه الجنة الأرضية المفقودة، التي وردت في كتب التراث الإسلامي، وعلاقتها بمعطيات البيئة والعقلية الشعبية التي صاغتها.

لماذا زرزورة؟

تعتقد الجماعة الشعبية أن وراء هذه التسمية مزارعين كانوا على مشارف الصحراء، فإذا بزرزور (طائر) يأتي من ناحية هذه الصحراء الشاسعة، التي لا يعتقد بوجود مناطق مأهولة أو مزروعة خلفها، ولما اصطادوا هذا الزرزور ذبحوه، ووجدوا أمعاءه ممتلئة بالحبوب، فخمّنوا أن وراء هذه الصحراء واحة عامرة بالخيرات. MAIN_2Zarzoura

مستورة عن العيون

من الصفات التي أضفتها الجماعة الشعبية على زرزورة، أن الجان سترها عن العيون، حسب وصف المقريزي، فتتبدى بأشكال متباينة. تارة تظهر بصورة مفاجئة في الصحراء ليلاً، وتارة يدلف التائه في الصحراء إليها عبر بئر مهجورة وناضبة، وتارة تكشف إحدى الحفر عن مدخل ليمر منه الداخل ثم ينغلق دونه، أو يظهر القصر الذهبي كمقدمة لهذه المدينة المخفية. وفي كل الأحوال يكون الوصول إلى "زرزورة" براً. ويروى عن البئر المهجورة المذكورة، أن في داخلها باباً قديماً متهالكاً، وبجواره ثعبان حارس، وأن أحد الأشخاص تجاهل الثعبان ودفع الباب بأطراف أصابعه وانفتح عن "زرزورة" الجنة الأرضية المهملة، فجريد النخيل متروك لم يجزّه أحد، والحيوانات سائبة ترعى في المراعي الخصبة على حريتها، والمياه تفيض عن الآبار. ولا يكشف الجان عن المدينة إلا لمن تتوافر فيه شروط الوصول إليها، فكل ما فيها من خيرات غير ذات قيمة بالنسبة لهذه الكائنات فوق الطبيعية، لذا هي جنة مهملة، وما بها لا يمثل أهمية إلا للداخل إليها فحسب. ويتسق هذا التصور مع ما هو شائع في معظم الثقافات الإنسانية عن الأماكن التي تسكنها الكائنات فوق الطبيعية. فهي غالباً ما تكون مهجورة، ورغم أن الجن يأتي كمرادف للعفريت في التداول الشعبي، إلا أنه غير مؤذٍ، لهذا من غير المستغرب أن يكون الداخل إلي الجنة الأرضية المسكونة بالجان، لا يخاف الإيذاء، بل يكون هذا الجان هو الذي منحه حق الدخول إليها، كثواب له على أعماله الصالحة وصفاء نيته.

مليئة بالذهب

زرزورة فيها ذهب كثير، إذ ترنو الجماعة الشعبية المتشوقة للثراء بخيالها، إلى قناطير من الذهب والفضة، كحالة من التعويض عما تلاقيه في بيئاتها المحرومة، من ندرة في الأموال والثروات. لكنها لا تغالي في جعلها جنة مفارقة للواقع تماماً كما في الجنة السماوية، التي تمتلئ بقصور ذهبية وآنية وكؤوس وأساور وأمشاط من الذهب.
يُحكى أن في صحراء الغرب في مصر "جنة مفقودة" اسمها زرزورة، ذهب الكثيرون بحثاً عنها ولم يجدوها
مدينة مصرية مفقودة يقال إنها الجنة على الأرض، استخدمها بعض المستكشفين كحجة معلنة لرحلاتهم التجسسية
يروي ابن الوردي في كتابه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب"، أن رجلاً من صعيد مصر أتاه رجل آخر وأعلمه أنه يعرف مدينة في أرض الواحات فيها كنوز عظيمة، فتزودا وخرجا وسافرا في الرمل ثلاثة أيام، ثم أشرفا على مدينة عظيمة فيها أنهار وأشجار وثمار وطيور ودور وقصور، فصعدا إلى المدينة، ووجدا من الذهب وغيره ما لا يوصف، فأخذا منه ما استطاعا حمله ورجعا. ودخل الرجل الصعيدي إلى أحد ولاة الصعيد، وعرفه بالقصة، وأراه من الذهب، فوجّه معه جماعة وزوّدهم زاداً يكفيهم مدة، وجعلوا يطوفون في تلك الصحارى ولا يجدون لذلك أثراً، وطال الأمر عليهم فسئموا ورجعوا بخيبة.

ليس فيها كدح ولا مشقة

من يدخل الجنة الأرضية يمارس حياة معززة مكرمة، يأمر ولا يؤمر، يأكل كل ما يشتهي، والأهم أنه لا يكدح ولا يشقى، وهذا ما أشار إليه المسعودي في كتابه "أخبار الزمان". فقال إن من يصل إليها يأخذ من كنوزها ما أحب من غير مشقة ولا ضرر. أما ابن الوردي، فيصف المدينة بالرغدة التي يسكنها قوم مقيمون تناسلوا وهم في أرغد عيش وأنزه مكان.

آهلة بذوي الأمراض النفسية

نادراً ما ينجو تائه في الصحراء من الموت ليرجع إلى أهله، كما أن حوادث الاختفاء في صحراء الواحات غالباً ما تحدث لمن يعانون بعض الأمراض النفسية، ممن يصعب عليهم تحديد طرق الرجوع إلى قراهم، عند خروجهم للصحراء المترامية الأطراف. وهم أيضاً من تُلصق بهم الجماعة الشعبية صفات فارقة، على اعتبار أن بهم مساً شيطانياً أو "راكبهم جان"، ما يحفز المخيلة لتنسج حكاياتها حول عثورهم على جنتهم الأرضية المفقودة، أو بمعنى آخر وصولهم إلى مدينة يكون سكانها من الجان، الذين هم أقرب إلى طبيعتهم. وهو ما يرسخ في الأذهان تلك المعتقدات الدائرة حول مدينة ذهبية يصل إليها الصالحون كثواب دنيوي على صلاحهم.

الاكتناز والطرد من الجنة

هذه الوفرة المتخيل وجودها في المدن المسحورة، تحمي سكانها من الوقوع في خطيئة الاكتناز. فالكل يأخذ بقدر حاجته فقط، ما يمنع قيام أي فرد بأي اكتناز ولو ليوم واحد وإلا طُرد من المدينة. وفي حين يقدم الموروث الديني الرسمي، صورة للحياة الخالدة في الجنة، تخلق العقلية الشعبية جنتها الأرضية التي تكون الإقامة فيها مرهونة بعدم ارتكاب الخطايا، وأهمها خطيئة الاكتناز، وإن كان يوجد ما يبررها في الحياة الواقعية، لرغبة الأفراد في تكوين التراكم المالي الذي يؤمن مستقبلهم بسبب خوفهم من تقلب الظروف والأحوال. هذا الدافع غير وارد على الإطلاق في المدن المسحورة، حيث مجتمع الوفرة والكفاية والعدل، كما أن الاكتناز يؤدي إلى تنامي الحقد والكراهية، ومن هنا يتوجب خروج مرتكب هذه الخطيئة من هذه المدينة على الفور.

خطيئة إفشاء السر

الخطيئة الثانية التي استوجبت الخروج وعدم الرجوع لهذه الجنة الأرضية، أن أبطالها حين خرجوا منها ارتكبوا خطيئة "إفشاء السر"، حتى وإن تحججوا بأنهم سيخرجون منها، ليجلبوا معهم أهلهم إلى هذه المدينة، لهذا عوقبوا باختفاء المدينة من أمام أعينهم. ويروي المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار"، أن عاملاً عنّف بعض البنائين لديه، ففروا في صحراء الغرب ومعهم زادهم، ولما قدم بعضهم إلى سفح جبل وجدوا عيراً قد خرج من بعض الشعاب، فتبعه بعضهم، فانتهى إلى مساكن وأشجار ونخل ومياه وقوم هناك يرعون، ولهم مساكن، أقاموا عندهم حتى صلحت أحوالهم، وخرجوا ليأتوا بأهاليهم ومواشيهم ويقيموا عندهم، فساروا مدة وهم لا يعرفون الطريق ولا يتأتى لهم العود فأسفوا على ما فاتهم.

موسى بن نصير وأسوار زرزورة

وروى ابن الوردي فى كتابه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب"، أن موسى بن نصير، لما انطلق من مصر لتولي أفريقيا، في عهد الأمويين، أخذ في السير على ألواح الأقصى معتمداً على النجوم والأنواء، وكان عارفاً بها، فأقام سبعة أيام يسير في رمال بين مهبي الغرب والجنوب، فظهرت له مدينة عظيمة لها حصن عظيم بأبواب من حديد، رام أن يفتح باباً منها، فلم يقدر، وأعياه ذلك لغلبة الرمل عليها، فأصعد رجلاً إلى أعلاه، وكان كل من صعد ونظر إلى المدينة صاح ورمى بنفسه إلى داخلها، ولا يعلم ماذا يصيبه وما يراه، فلم يجد لها حيلة فتركها ومضى.

عمر بن عبد العزيز والبحث عن المدينة المفقودة

ويروى ابن الوردي في كتابه أن رجلاً أتى عمر بن عبد العزيز، الذي كان يتباحث في أمور خاصة بمصر وأعمالها، فعرّفه أنه وجد في صحراء الغرب شجرة عظيمة بساق غليظ تثمر من جميع أنواع الفواكه، وأنه أكل منها كثيراً وتزود. فقال له رجل من القبط: هذه إحدى مدينتي هرمس الهرامسة (يقال إنه النبي إدريس)، وفيها كنوز عظيمة. فوجه عمر مع ذلك الرجل جماعة من ثقاته، استوثقوا من الزاد والماء عن شهر، وطافوا تلك الصحارى مراراً فلم يقفوا على شيء من ذلك.

رحلة أحمد حسنين باشا

Ahmad_HasneinAhmad_Hasneinفي عامي 1921 و1926 قام أحمد حسنين باشا برحلتين استكشافيتين للصحراء الغربية، كان مزوداً خلالهما بآلات الرصد والقياس المتوفرة في ذلك الوقت. دوّن قياساته طوال الرحلتين في كتابه "البحث عن الواحة المفقودة"، ولم يذكر أياً من تلك الحكايات العجائبية عن المدينة المسحورة. ورغم أنه لم يمر بالواحات الداخلة، إلا أن الجماعة الشعبية تروي أن حسنين باشا، خلال مروره في الواحات، توقف بقافلته ليلاً فوق أحد الكثبان الرملية العالية، ونظر ومن معه، ليجد حدائق عامرة، وآباراً جارية، وحيوانات مستأنسة تجوب المكان بحرية، فآثر ألا ينزل بهذه المنطقة العامرة ليلاً، وأن يبيت ليلته على مشارفها ليقصدها ومن معه في الصباح، وحين طلع الصبح لم يجد لما رآه أثراً. يهدف العقل الشعبي بهذه الرواية إلى تفعيل قانون درء عدم التصديق، وذلك عن طريق بث الدهشة والإبهار في ذات المتلقي، وفي الوقت نفسه، تعميق وترسيخ المعتقدات الموروثة، وإيجاد شرعية ومسوغ لوجودها، عبر نسب هذه الوقائع المتوهمة إلى كتاب حسنين، مستندين في ذلك إلى اسمه (أي اسم الكتاب)، رغم أن المقصود كان البحث عن واحة لم تكتشف من قبل وليس الجنة المفقودة. ورغم أن العديد من الرحالة قاموا برحلات استكشافية للصحراء الغربية، إلا أن الجماعة الشعبية ألصقت روايتها بحسنين باشا، لأنه الأقرب طبقياً لها، فهو في النهاية مصري، وابن شيخ أزهري، وإن صار في ما بعد رئيساً لديوان الملك فاروق.

توظيف المعتقد لأغراض التجسس

لم يرد اسم زرزورة في المؤلفات التي تسبق ظهور المستكشف المجري لازلو ألماسي، في النصف الأول من القرن العشرين، والراجح أنه رّوج لهذا الاسم بعدما أدرك ما تمثله هذه المعتقدات الموروثة في الصحراء الغربية، من سلطة وقوة. فوظّفها بما يجعل من البحث عن الواحة المفقودة، الهدف المعلن لرحلاته العلمية التجسسية، أثناء الحرب العالمية الثانية. فانطلق يرسم خرائطه العلمية الدقيقة، بدعوى أنه يحاول حل لغز واحة زرزورة، بينما كان يمد بها الجيش الألماني الذي استغل معلوماته عن المنطقة في الخطط العسكرية والتمويه. ويبدو أن الصحراء الغربية كانت أرضاً خصبة، ينشط فيها المستكشفون من جنسيات مختلفة، وخاصةً الإنكليز، حتى أن نادياً يضم هؤلاء المستكشفين الجغرافيين سُمي نادي زرزورة في وادي حلفا (مدينة تقع جنوب مصر على الحدود مع السودان). وكانت كل المعلومات والخرائط توضع تحت إمرة الجيش البريطاني، فكان يعقد لأعضاء النادي اجتماعات دورية في لندن. واستطاع المستكشفون البريطانيون مساعدة جيش مونتغمري في حسم معركة العلمين الشهيرة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard