شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"تجميع المُجمّع"... تحقيقٌ خاص يكشف كيف تحايلت مصانع سيارات في السودان على الجمارك

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 16 مارس 201901:07 م

تتمتّع شركات تجميع السيارات في السودان بإعفاء جُمركي على مُدخلات الإنتاج بموجب قانون الاستثمار، شرط إضافة 35% كمُكوّن محلّي للإنتاج النهائي.

في ولاية الخرطوم، ثمانية مصانع لتجميع السيارات، يحقّ لها الحصول على إعفاء جمركي على مُدخلات الإنتاج من المواد الخام، ولكن هذا التحقيق يكشف أن شركات التجميع تستورد سيارات كاملة الصنع، على أساس أنها مُدخلات إنتاج للاستفادة من الإعفاء، بما يُضيِّع على خزينة الدولة ملايين الجنيهات من الرسوم الجمركية.

تمكّن مُعدّ التحقيق من الحصول على مستندات ووثائق تُثبت تورّط مصانع ومخالفتها القوانين واللوائح الخاصة بالجمارك والاستثمار في الخرطوم، بينما زار مصانع لتجميع السيارات وحصل على مستندات تظهر أنها لا تضيف أية مُكوّنات محلية.

يحصل ذلك في مخالفة واضحة للقانون، وسط ضعف في عملية الرقابة من قبل هيئة المواصفات والمقاييس وفي ظلّ عدم توافر بيانات كافية.

أدخل مصنع "أوتوباش" ألفي سيارة معفاة من الجمارك قبل أن يبدأ الإنتاج أصلاً. وفيما أصبح مدير الجمارك الذي وقّع الإعفاء مُخلّصاً جمركياً بعد تقاعده، تعاملت شركة "أوتوباش" معه لتخليص إجراءاتها لدى الجمارك، ثم باعت الشركة لاحقاً سيارات لبنك تابع للقوات المسلحة السودانية، بحسب مسؤول كبير في الشركة.

خلال التحقيق، الذي استغرق إنجازه ستة أشهر، حصل مُعدّ التحقيق على معلومات ومستندات عن منح امتيازات لأصحاب مصانع والتلاعب بالقوانين، وتوضح هذه المستندات أن "أوتوباش" لتجميع السيارات الصينيّة من طراز "جيلي" قد استوردت سيارات كاملة الصنع على أساس أنها مُدخلات إنتاج.

ألفا سيارة كاملة الصنع أدخلتها الشركة دون سداد جمارك، خلال الفترة الممتدة من 2015 حتى 2017، حسب ما أكد نائب مدير المصنع بعد مواجهته بالمستندات.

مدير الجمارك أصبح مُخلّصاً جُمركياً

تُظهر المستندات أنه في عام 2015 رفض ضباط الجمارك الموافقة على دخول سيارات صينية كاملة الصنع، دون جمارك بالشهادة الجمركية رقم 10281، وقد شُكلت لجنة جمركية كتبت توصية بتحصيل الرسوم كاملة على السيارات، لأنها مكتملة الصنع ولا ينقصها سوى تركيب الفوانيس والخطرات (الإشارات الضوئية) الخلفية والأمامية و"الصدّامات"، وهو ما يقوم العمال بتركيبه يدوياً.

لكن مفوّض الاستثمار السابق في ولاية الخرطوم المهندس عبد الله أحمد حمد أرسل خطاباً للجمارك بتاريخ 22-6-2015، حصل مُعدّ التحقيق على صورة منه، ينص على أن مصنع "أوتوباش"، الذي يملكه رجل الأعمال بشير حسن بشير، مُميّز بموجب الترخيص رقم 775/صناعي/2014 الصادر عن مفوضية الاستثمار، وأن المصنع يعمل في مجال تصنيع وتجميع السيارات، وأوصى حمد بمعاملة "أوتوباش" معاملة الشركات التي تتمتع  بالإعفاء وفقاً لقانون الاستثمار الصادر عام 2015 .

ويُعدّ بشير من قدامى أعضاء الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وهو كان صاحب مصنع الشفاء الذي قصفته الولايات المتحدة الأمريكية عام 1998 قبل بيعه لرجل الأعمال السوداني صلاح إدريس.

تمّت الاستجابة لطلب حمد، ووقّع الإعفاء مدير الجمارك الأسبق اللواء سيف الدين عمر سليمان أحمد، رغم رفض اللجنة الجمركية له.

في ولاية الخرطوم، ثمانية مصانع لتجميع السيارات يحقّ لها الحصول على إعفاء جمركي على مُدخلات الإنتاج من المواد الخام... ستة أشهر من البحث في كواليس شركات التجميع تكشف تلاعباً كبيراً يُكبّد الدولة ملايين الدولارات
"أوتوباش" واحد من المصانع المُتحايِلة، إذ أدخل أصحابه ألفي سيارة مُعفاة من الجمارك في حين كان المصنع حبراً على ورق... تحقيق يُوثّق أحد أشكال التحايل الجُمركي في السودان

وقد توصل مُعدّ التحقيق إلى أن اللواء سيف بعد إحالته على الصالح العام في أكتوبر 2015، أصبح صاحب مكتب للتخليص الجمركي ساهم في تخليص أعمال لشركة "أوتوباش"، في حين تم تعيين اللواء عبد الحفيظ صالح أبو الحسن خلفاً له مديراً للجمارك، وهو ابن خالة اللواء سيف، بحسب ضباط من الجمارك.

ودخلت السيارات في 2015 في حين أن المصنع حتى العام 2017 لم يكن قد تم تشييده بعد، حسب ما تبيّن من تصريحات نائب مدير المصنع الذي قال إن "أوتوباش" أدخلت الألفي سيارة معفاة من الجمارك في حين كان المصنع حبراً على ورق.

اتصل مُعدّ التحقيق مراراً باللواء سيف طلباً للتعليق، لكن دون جدوى. ولما أرسل له أسئلة عبر تطبيق "واتساب" عن سبب دخول سيارات كاملة بدون جمارك، ردّ قائلاً "طيّب اسأل الجمارك قول ليها دخلتيها كاملة ليه؟"، ولما أبلغه مُعدّ التحقيق أن السؤال موجه له تحديداً لأن صفقة "أوتوباش" دخلت في فترة رئاسته للجمارك لم يرد على السؤال.

وقال نائب مدير الشركة محمد سمير "تعاملنا مع مكتب اللواء سيف للتخليص الجمركي ومع غيره من المُخلّصين".

من جهته، قال مُفوّض الاستثمار الحالي في ولاية الخرطوم  أحمد عثمان أحمد عبد الله إنه لم يمنح إعفاءات لمصنع "أوتوباش" ولم يخاطب الجمارك بشأنه. وأضاف مؤكداً أن نسبة 35 في المئة من المكون المحلي شرط للموافقة على منح التصديق لمصانع تجميع السيارات.

جهات رسميّة ضمن قائمة الزبائن

جزم نائب مدير شركة "أوتوباش" لتجميع السيارات محمد سمير بأن الشركة أدخلت 2000 سيارة بدون جمارك، بعدما واجهه مُعدّ التحقيق بمستندات إدخال سيارات كاملة الصنع، فقال سمير إن وزارة الاستثمار منحت الشركة المملوكة لرجل الأعمال بشير حسن بشير تصديقاً على إدخال 2500 سيارة غير مُجمّعة، أي كأجزاء سيارات.

وتأتي "أوتوباش"، وهي أول شركة خاصة لتجميع السيارات في السودان، في المرتبة الثانية كأكبر مصنع بعد مصنع "جياد" الحكومي.

TABLE_SudanAutomanufacturing1

وقال سمير "قمنا ببيع 100 سيارة لبنك أم درمان الوطني بالإضافة لبيع سيارات لوزارة الصناعة ولاية الخرطوم".

ويتبع بنك أم درمان الوطني للقوات المسلحة، وكان قد ترأس مجلس إدارته فترة طويلة رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة. ومن المعلوم لدى الصحفيين أن القوات المسلحة السودانية من الخطوط الحمراء ولا يُكتب عنها إلا بإذن مسبق من المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة، لهذا لم يتمكن مُعدّ التحقيق من مقابلته للحديث عن كيفية شراء السيارات من "أوتوباش".

وأضاف سمير أن مساحة المصنع 200 ألف متر مربع في منطقة الجيلي في شمال العاصمة الخرطوم، ويبلغ رأسماله 100 مليون دولار، مشيراً إلى أن شركات أخرى حصلت على الامتياز وتستورد سيارات صينية.

وبحسب عدد من مسؤولي الجمارك الذين تحدثوا، طالبين عدم ذكر اسمائهم، فإن التحايل لإدخال سيارات كاملة التصنيع على أنها قطع سيارات غير مُجمّعة لم يقتصر على صفقة "أوتوباش"، في حين لم تردّ إدارة الجمارك التي يشغل منصب مديرها الحالي اللواء شرطة بشير الطاهر بشير على طلبات إجراء مقابلة للردّ على الأسئلة بهذا الشأن.

الوزير الاتحادي: لست مسؤولاً

نفى وزير الاستثمار الاتحادي السابق مبارك الفاضل علاقته بالتصديقات، وقال إنها صدرت عن وزارة الاستثمار ولاية الخرطوم في عهد حكومة سابقة، وأضاف "لا أعرف ملابسات التصديقات التي نُفذت لأنها سبقت تولينا الوزارة".

ومبارك الفاضل كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء من بين خمسة آخرين وحظي بالمنصب ضمن المحاصصة، في حكومة الوحدة الوطنية التي جاء تأسيسها استناداً إلى مخرجات الحوار الوطني، فشغل حقيبة الاستثمار، غير أنه حين أعاد النظام تشكيل الحكومة وتقلصت حصته الوزارية تم نقله لمنصب متواضع لم يقبله، فخرج على النظام وكوّن كتلة معارضة.

Timeline_Arij_SudanAutoAssembly1

ولم يوضح الفاضل سبب عدم إجراء تحقيق في الأمر، بينما حذّر مُعدّ التحقيق بتهديدات مبطنة مثل "أنت فاهم غلط ولو مشيت كتبت كلام مبني على خطأ، ستوقع نفسك في مشكلة قانونية مع الشركات وهي شركات كبيرة".

رقابة صُوريّة

في شركة "سارين" لتجميع السيارات في المنطقة الصناعية كوبر في الخرطوم بحري، قال المستشار القانوني للشركة كمال الدين محمد يوسف إن المصنع - الذي بدأ الإنتاج عام 2017 - مُلكٌ لرجل الأعمال مأمون عبد المتعال، مالك شركة السهم الذهبي وكيل سيارات "تايوتا" منذ خمسينات القرن الماضي.

في السياق نفسه، أوضح مهندس مشرف على عمليات التجميع الأمر قائلاً: "نستورد السيارة مفككة ونقوم بتركيبها كاملة". وأضاف أثناء زيارته أواخر العام الماضي "نحن نقوم بتجميع السيارة في 12 مرحلة ونجمّع أكثر من 1629 قطعة"، لافتاً إلى أن هيئة المواصفات والمقاييس فحصت في وقت ما "سيارة واحدة من أصل 48 سيارة قمنا بتجميعها وأخذت إفادات في استمارة" دون أي إجراء آخر، ولم يذكر فترة زمنية مُحدّدة لتجميع تلك السيارات.

INSIDE_Arij_SudanAutoAssembly2

في المقابل، أوضح كشفٌ حصل عليه معد التحقيق من الشركة لعملية تجميع الأجزاء أنها لا تتضمن إضافة ولو "مسمار" محلي الصنع، بما يخالف قانون تشجيع الاستثمار رقم 9 للعام 2015 الذي يقضي باضافة 35% إلى السيارة  المُصنَّعة من المنتج المحلي.

متضرّرون من التحايل

شكا مدير تسويق شركة "رينو وسكودا" خالد الصاوي من الأثر السلبي لهذا التحايل. وقال: "تضرّرنا مما يُسمى بتجميع السيارات، ونحن نستورد سيارات بجودة عالية وندفع كل الرسوم المُقرّرة من الدولة، من ضرائب وزكاة ورسوم جمركية كاملة، تبدأ من 150 ألفاً وتصل حتى 800 ألف جنيه سوداني (حوالي 17 ألف دولار)، حسب نوع السيارة.

بحسب تقديرات الرسوم، ضاع على خزينة الدولة السودانيّة حوالي 6 ملايين دولار عن دخول 2000 سيارة فقط مُعفاة لحساب شركة "أوتوباش"

وفي إشارة إلى المخالفين لقوانين تجميع السيارات، علّق الصاوي بالقول إنه بهذه الطريقة "سنقوم باغلاق مراكزنا لأننا أصبحنا لا نستطيع أن ننافس أشخاصاً لديهم امتياز بإعفاء جمركي"، لكنه لم يعطِ أرقاماً عن حجم الخسائر.

وأضاف موضحاً أن الدولة لا تستفيد من إعفاء هذه الشركات، بل يقع عليها ضرر ونقص في مواردها بينما المستفيد الأول هو أصحاب هذه المصانع.

وبحسب تقديرات الرسوم التي أوردها الصاوي، فقد ضاعت على خزينة الدولة السودانية 300 مليون جنيه سوداني على الأقل عن دخول 2000 سيارة فقط مُعفاة لحساب شركة "أوتوباش"(حوالي 6 ملايين دولار).

مصانع على الورق

عند الحديث عن العقوبات التي يُفترض أن تطال المخالفين، أوضح الخبير القانوني وعضو لجنة التشريعات والقوانين في مجلس تشريعي الخرطوم المحامي بارود صندل أن من يُصدّق له بإدخال مكونات تصنيع لكنه يُدخل مُنتجاً كامل الصنع، يجب أن يُصادَر ما لديه من تلك المنتجات وأن يُحاسَب وفق قانون الثراء الحرام والمشبوه لسنة 1989.
من جهته، قال الخبير الاقتصادي عبد العظيم المهل، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الوطنية، إن الامتيازات مفترض أن تكون لمصانع حقيقية لكن توجد مصانع وهمية لاستيراد مواد خام وبيعها في السوق دون تصنيعها.

وأضاف: "في عملية الإعفاء ومنح الامتياز لا توجد شروط حقيقية وهنا يتم التلاعب"، موضحاً أن نسبة التهرّب من الجمارك والضرائب تُقدّر بحوالي 80% .

أما مدير هيئة الجمارك السودانية الأسبق الفريق شرطة صلاح أحمد الشيخ فقال إن الجمارك تقوم بتحصيل الرسوم كاملة على أي منتج كامل الصنع، وإذا تم إخراجه دون جمارك فهذا مخالف للقانون.

الصمت

ثلاثة خطابات أرسلها مُعدّ التحقيق منذ الخامس من أبريل 2018 إلى هيئة الجمارك بقيت دون رد، رغم توجيهات مكتب الإعلام في وزارة الداخلية للهيئة بالحديث حول الأمر.

كذلك، لم يردّ المُراجع العام لديوان الضرائب ولا وزارة الصناعة الاتحادية، بينما أشار عدد من المسؤولين التقى بهم معدّ التحقيق إلى نقص في البيانات، وتضارب في التقديرات لعدد المصانع المُسجّلة لدى الجهات المختلفة.

وقال المهندس عبد المنعم عبد القادر مصطفى أحمد، وهو مدير هيئة المواصفات والمقاييس في ولاية الخرطوم: "لا توجد مصانع للسيارات مُسجّلة لدينا أصلاً".

نقص المعلومات

وصف مدير الغرفة الصناعية عباس علي السيد الحكومة القومية الآن بأنها عاجزة تماماً، ومشغولة عن إعداد برنامج شامل تفرضه على الأجهزة الأخرى. وأبدى السيد استغرابه بالقول: "للمفارقة إننا نصنّع السيارات وفي نفس الوقت نستورد الركشات (التوكتوك)"، مشيراً إلى أنه لا يوجد مصنع في السودان لتجميع الركشات وهي أبسط كثيراً من السيارات.

وأوضح أن الأرقام بالنسبة للمصانع مُفترَض أن تكون مضبوطة جداً ومكتملة، لكن لا توجد جهة لديها المعلومة المكتملة حتى الآن، معلقاً: "لدينا نظام قاصر جداً ومتخلّف جداً، من الناحية الإدارية بكل أسف… أما بالنسبة لعدد مصانع تجميع  السيارات فلا أستطيع أن أقول أية معلومة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard