شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"قوس الدائرة": المرأة التي لا تدرك ما يحصل، "غائبة الوعي"، الشبقيّة، المحمولة على رأسها وقدميها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 7 فبراير 201906:01 م
أُوفدَ سيغموند فرويد لدراسة طبِّ الأعصاب في مشفى (سالبيترير Salpêtrière) في باريس عام 1885، وهناك درس تحت إشراف واحدٍ من أشهر أطبّاء الأعصابِ "جان ماري شاركوت"، الذي كان أبرز من أعادوا دراسة الهيستيريا، موظفاً التنويم المغناطيسيّ، والاختبارات الكلينيكيّة، والتشخيص الطبيّ، وذلك للابتعاد عن الأوهام والخرافات المرتبطة بهذا "المرض" وتاريخه القمعيّ والمتحيّز، حتى أنه وفرويد كانا مهتمين بالهيستيريا لدى الرجال، في محاولة منه لتحرير هذا "المرض" من تاريخه المرتبط بالنساء فقط. charcot لم يكن فرويد فقط أبرزَ تلاميذ شاركوت، بل أيضاً هناك بول ريشور، الذي قدّم مجموعة من الأبحاث والرسومات الطبيّة التي تصف أعراض الهيستيريا ومراحلها وارتباطها بالصَرَعِ، مُسجّلاً نصّاً ورسماً كيفية تحرّك جسد المرأة حين تصيبها نوبة هيستيريا كبرى، ومحاولاته الطبيّة وزملائه لتفسيرها، لكن بالرغم من أن تجاربهم لم تحمل عنفاً مباشراً، إلا أنها لم تتمكّن من تغيير سمعة المشفى، الذي كان يُعتبر سجناً لبائعات الهوى، والنساء اللواتي لا شفاء لأمراضهن، فقد ذُبحت 25 امرأة منهن عام 1792، بعد الثورة الفرنسيّة فيما يسمّى مذبحة مشفى سالبيترير. هذه التواريخ والأمكنة والأبحاث الطبيّة جعلت كلّ من شاركوت وتلميذه ريشور مخترعي الهيستيريا في العصر الحديث، ومن نفيا التفسيرات السابقة لها، والتي ترى أن الهيستيريا سببها وجودُ نطافٍ في الرحم أو هجرة الرحم، وبفضلهما أيضاً، طوّر فرويد نظرياته في التحليل النفسيّ، وخصوصاً فيما يتعلّق بالهيسيتريا، لا بوصفها مرضاً جسدياً، بل عارضاً جسمانياً لطاقة ليبيدو دفينة مرتبطة بالعُصاب، هذه التفسيرات بقيت حاضرة حتى الثمانينات، حين أزيل هذا "المرض" من المصطلحات الطبيّة.
قوس الدائرة: علامة على المرأة التي لا تدرك ما يحصل، "غائبة الوعي"، الشبقيّة، المحمولة على رأسها وقدميها، تلك التي لدونة جسدها لا تشبه حركة أجسادنا، هي خطر يهدّد "العقلَ/العلمَ" من جهة، والآخرين من جهة أخرى، هناك رعب يحيط بها كونها لا تنتمي لعالمنا، نحن العقلاء

لكن، لم هذه المقدمة والأحداث المثيرة؟

السبب هو مجموعة الرسومات التي أنجزها ريشور وأشرف على نشرها شاركوت والتي تشخّص مراحل الهيستيريا بصرياً، إذ كان السعي حينها هو جعل "المرض" و"الألم" مرئيين، كالجراثيم، يمكن رؤيتهما، وقياسهما وتشخيصهما، من أجل العلاج، وهنا تأتي هذه الرسومات كدلائل طبيّة، أشهرها المرأة في وضعيّة "قوس الدائرة"، التي نراها معلّقةً بحجم كبير في لوحة بيير أندريه روي، بعنوان "درس إكلينيكي في السالبيترير" وفيها نرى شاركوت يسند بيده امرأة "هيستيريّة" وحوله طلابه، ومنهم ريشور، وعلى الجدار، نرى اللوحة التي أنجزها ريشور للمرأة بوضعيّة "قوس الدائرة". الاستعراض الطبيّ الذي نراه في اللوحة، وتحديقة الذكور في جسد الأنثى "المريض" ليس إلا امتداداً لتقاليد الفن الأوربي، التي كان بعضها جزءاً من العمليّة التعليميّة، ثم دخل تاريخ الفن، وما يهمّنا من اللوحة، هو ظهور القوس، الذي حسب الجدول البصريّ الذي أنجزه "ريشور" يظهر ضمن المرحلة الثانية من نوبة الهيستيريا، والتي تسمّى "التهريجيّة" والتي يصفها شاركوت بقوله " تقع المريضة على الأرض فجأة، وتصرخ بعنف، وتفقد وعيها بشكل كامل، وتتشنّج كل الأطراف، بعدها، وفي افتتاح للمشهد، ترتفع إلى درجة عاليّة، و يتثنّى الجسد بقوّة إلى الخلف، المعدة مسطّحة، وبعيدة عن سطح الأرض". هذه الأشكال البصريّة التي يبلغ عددها 197 رسماً، والتي نُشرت مع نصوص و تعليقات عليها تحت عنوان " دراسة إكلينيكيّة عن الهيستيريا الكبرى أو الهيستيريّة الصرعيّة" ما زالت موجودة في المدرسة العليّا للفنون الجميلة في باريس، هي ليست بيانات طبيّة، بل شكل من أشكال التعبير الفنيّ -العلميّ، ما يعني، أنها تحوّلت إلى ظاهرةٍ ثقافيّة، خارج السياق الطبيّ، وتحوّلت العلامات الجسديّة من دلائل طبيّة إلى آثار فنيّة، وهنا، يمكن النظر إلى قوس الدائرة كموتيف من تاريخ الفنّ، الذي تحضر فيه هذه الرسوم بوصفها انعكاساً فانتازياً للمعرفة، إذ تقدّم وهماً طبيّاً بالحقيقة لغير المختصّين. كما أنّها غواية جماليّة للعاملين في القطاعات الثقافيّة والفنيّة، فالمتأمّل فيه، بعيداً عن الكلام السابق، يرى ولو بصورة منحرفة مجموعة من الوضعيات التي تأخذها فتيات الـ"pin up". قوس الدائرة، واحد من أسرار الهيستيريا، يراوح بين الصَرَعِ والشَبَقِ والجنون، والمسِّ الشيطانيّ، هو يلبّي الرغبة البصرية برؤية اللاطبيعي، المَرَضي، المُخيف، هو تمثّلٌ للألم ومَسرَحَةٌ له، بين الرأس والقدمين، هناك مسافة فارغة، تحت القوس، تتحرّك ضمنها محرّكات التأويل والمخيّلة، هو شكلٌ مرعبٌ للكائن الغرائبيّ الذي هو "المرأة"، ذاك الذي لا يفهمه الرجل، والذي يمكن أن يتجمّد شبقاً في حال النظر إليه.  التقاطُ الثقافة الشعبيّة والصناعة الثقافيّة لهذه الرسوم العلميّة وما حولها من نصوص جعلها مادة مثيرة لإعادة تقديم الهيستيريا في سياقات يظهر فيها قوس الدائرة كعلامة على المرأة التي لا تدرك ما يحصل، "غائبة الوعي"، الشبقيّة، المحمولة على رأسها وقدميها، تلك التي لدونة جسدها لا تشبه حركة أجسادنا، هي خطر يهدّد "العقلَ/العلمَ" من جهة، والآخرين من جهة أخرى، هناك رعب يحيط بها كونها لا تنتمي لعالمنا، نحن العقلاء، هي التمثيل الثقافيّ لما هو "شرير" ولا ينتمي حتى لهذه الأنطولوجيا. هذا ما نراه بدقّة في رواية the exorcist ثم الفيلم الصادر عام 1973، والذي نرى فيه "ريغان ماكنيل" ذات الـ12 عاماً، تصاب بنوبات "صرع"، يعجز العلم بداية عن فهم ما تمرّ به، إذ تصرخ بالطبيب قائلةً "انكحني..انكحني"، لنكتشف لاحقاً أن فيها مسّاً شيطانياً، يهدّد عقلها، ويأكلها من الداخل، والذي يظهر في مشاهد السرير، التي نلاحظ أنها بأكملها مستوحاة من رسومات ريشور السابقة، أما القوس فقد أصبح ضمن الفيلم أسلوباً للحركة، لا فقط وضعية ثابتة، وكأن احتمال انتشار الشرّ والجنون أصبح قائماً. ذات العلاقة مع الداخل ذي الطاقة الجنسيّة العالقة نراها في فيلم دراكولا، لفرانسيس فورد كوبولا، الصادر عام 1993 والذي يُحيي الفيلم السابق، في مشهد أيضاً تبدو فيه ضحيّة دراكولا ملوّثة، غائبة العقل الذي يتحكم به دراكولا، داخلها معطوب، شبقها لا حدود له، فدراكولا أذهب عقلها وتجلّى أثره مرئياً في تشنّجات جسدها، الذي لم يعد ملكاً واعياً لها، بل لآخرٍ "شريرٍ" أفقدها سيادتها عليه، وحوّلها إلى احتمال للخطر، في ذات الوقت هي تضيع في نشوة ما، ولذّةٍ تعجز عقولنا القويمة عن إدراكها أو محاكاتها، هي تجسّد أعراض الهيستيريا بصرياً، بوصفها حسب فرويد تترافق بهلوسات وأحلام جنسيّة. بالرغم من محاولات شاركوت تحرير الهيستيريا من تاريخها المرتبط بالجنس والرغبة، نحو آخر عقلاني/طبيّ إلا أن النتاج الفنيّ والثقافي حافظ على هذا التاريخ، فالسورياليون رأوا في المرأة الهيستيريّة أقصى التعبيرات عن الشَبَقِ وعن الحالة الشعريّة الفطريّة، كما ظهر القوس مرّة أخرى لاحقاً، كتعبير عن الغواية، والمرأة التي لا تستطيع احتمال الشَبَق. هي شديدة الجاذبيّة لأن رغبتها ليست "طبيعيّة"، وكأنها تطفو مؤغلمةً على البيانو مثلاً، تتقوّس أمام العازف وتغوي الحضور، وأحياناً تغني، هي عصيّة على اللمس لكنها مشتهاة من قبل الجميع، تتحرّك بينهم وتنساب بين أجساد الرجال المحدّقين بها شهوة واستغراباً، في استعراض مشابه للاستعراض الطبّي في اللوحة السابقة، حيث تتكأ المرأة "الهيستيريّة" على يده، و هو يشرح لهـم -للعقلاء- أعراضها و يفسّر استعصاء فهمهم وصعوبة سبر أغوارها، هي تتألم، لا فقط شهوة، بل لعجز الجميع عن فهم ما يحصل داخلها. https://youtu.be/gQNFCRom7c0 لا يمكن أن نقول أن "القوس" ظهر لأوّل مرة في رسومات ريشور، ولا أن كلّ دلالته محصورة بما سبق، فهو موجود في الرقص وفي الحركات الأكروباتيّة، وفي الكثير من الأحيان هو جماليّ، لكن لا يمكن إلا ملاحظة السياقات التي يظهر فيها، وخصوصاً ضمن الأشكال الفنيّة الثقافيّة، التي تخاطب بعضها البعض، وتعيد إنتاج ما هو سابق، هو مُنتشر في الكثير من الأماكن، في البوسترات، وفي أفلام الكرتون ونوادي التعريّ، لكن حين ظهوره، لا يمكن إلا أن يتبادر للذهن التاريخ الطبيّ المرتبط به، والمكان الذي رُسم فيه لأوّل مرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard