شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
حكاية إنسانيّة منسيّة عن اللجوء الأوروبي في سوريا والعالم العربي

حكاية إنسانيّة منسيّة عن اللجوء الأوروبي في سوريا والعالم العربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 14 يناير 201904:28 م

قبل سبعة وسبعين عاماً بالضبط، وتحديداً يوم الحادي عشر من كانون الثاني/ يناير 1942، نشرت مجلة "هنا القدس" الفلسطينية وفي العدد الأول من السنة صورة غلاف يبدو بأن موضوعها كان مألوفاً بكثرة في تلك الفترة، إذ لم يرد أي ذكر أو شرح لها في صفحات المجلة الداخلية.

تُظهر الصورة امرأة ترتدي وشاحاً على رأسها، وأمامها صندوق يحتوي على بعض علب الأطعمة، وتمسك قطع ثياب بيديها لتوزعها على مجموعة من الأطفال المتحلقين حولها.

كُتب أسفل الصورة "توزيع الأطعمة والثياب في سوريا على اللاجئين من بلاد اليونان"، وتأتي في سياق استقبال سوريا وبلدان عربية وشرق أوسطية أخرى آلاف اللاجئين الأوروبيين إبان الحرب العالمية الثانية التي عصفت بالقارة العجوز بين العامين 1939 و1945، حيث كانت مجلة "هنا القدس" التي تصدر في فلسطين آنذاك بشكل نصف شهري تهتم بشكل خاص بأخبار تلك الحرب. نُشرت الصورة من جديد وأعيد تداولها خلال الأيام الماضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في تزامن مع تاريخ نشرها الأصلي، وأيضاً مع ما عاشته وتعيشه سوريا ومنطقة العالم العربي بشكل عام من نكبة معكوسة خلال العقود الماضية، إذ تحوّلت لأكبر بلدان مصدّرة للاجئين، الذين توّجه الملايين منهم إلى مختلف أنحاء العالم بحثاً عن حياة أفضل وأكثر أمناً، وتحملت العديد من البلدان الأوروبية أعباء استقبالهم وتقديم المعونات لهم.

يفصل بين الكارثتين حوالي سبعين عاماً. وفي حين صُنّفت الحرب العالمية الثانية بأنها أكبر مأساة في القرن العشرين، فإن معضلة اللجوء السوري بشكل خاص اعتُبرت في العام 2015، على لسان المفوض السامي لشؤون اللاجئين أنطونيو غوتيريس، بأنها "أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية"، حيث غادر حوالي ستة ملايين شخص البلاد منذ العام 2011، كما نزح عدد مماثل تقريباً بشكل داخلي هرباً من الموت والمعارك.

ولم يمنع ثقل حجم هذه الكارثة الأصوات المنتقدة للسوريين الهاربين من الموت من أن تعلو، وكأن هذا الهرب كان خيارهم. فكثيراً ما تم وصفهم بأنهم اتكاليون وغير قادرين على الاندماج وبأنهم يشكّلون عالة على المجتمعات التي يستقرون فيها، وكثيراً ما تم اتهامهم بأنهم يهددون أمن البلاد التي يلجأون إليها ويثيرون فيها المشاكل والاضطرابات.

واليوم تشكّل الصورة المذكورة فرصة للتذكير بأن من يترك بلده وقت الحرب يفعل ذلك مجبراً، وبأن اللجوء ليس غاية بحد ذاته وإنما وسيلة للعبور لحياة جديدة.

من يترك بلده وقت الحرب يفعل ذلك مجبراً، واللجوء ليس غاية بحد ذاته وإنما وسيلة للعبور لحياة جديدة

حكايات لجوء منسية

في مقال نشره موقع واشنطن بوست منذ حوالي عامين تحت عنوان "الحكاية المنسية لمخيمات اللاجئين الأوروبيين في الشرق الأوسط"، يتحدث الكاتب إيشان ثارور عن "رحلة العبور المحفوفة بالمخاطر للبحر المتوسط أملاً بالوصول للملاذ الآمن على الطرف الآخر"، ثم يستدرك بالقول: "مهلاً، نحن لا نتحدث هنا عن محنة اللاجئين السوريين التائقين للهروب من خراب بلادهم. حكايتنا اليوم هي على الأغلب منسية ولا يعرفها كثيرون، عن آلاف الأشخص من أوروبا الشرقية وبلاد البلقان والذين اتخذوا من مخيمات في الشرق الأوسط، وخاصة سوريا، موطناً مؤقتاً لهم خلال الحرب العالمية الثانية".

صورة من عام 1945 لمخيم للاجئين اليونانيين في النصيرات، جنوب فلسطين. (إدارة الأمم المتحدة للإغاثة والتأهيل)

يركّز الكاتب في مقاله على فكرة أن الآلة الحربية هي ذاتها منذ قرون، لا ترحم أحداً، وأينما حلّت ستترك وراءها حالات نزوح وتشرد وتهجير قسري، ويسرد تفاصيل لا يملك القارئ سوى مقارنتها مع ما عاشه السوريون واللاجئون بشكل عام في وقتنا الراهن، ليكتشف بأن مرارة هذه التجربة هي ذاتها مهما اختلف الزمان والمكان.

صورة من عام 1945 لمخيم الشط في مصر تظهر نساء يغسلن ملابسهنّ في الهواء الطلق. (إدارة الأمم المتحدة للإغاثة والتأهيل)

يرسم ثارور طريق الهجرة الذي سلكه اللاجئون الأوروبيون من مختلف البلدان المنكوبة بالحرب. بعض الكرواتيين هربوا إلى جزر في البحر الأدرياتيكي بين إيطاليا والبلقان. يونانيون فضلوا اللجوء لجزيرة قبرص القريبة والتي كانت تحت الحماية البريطانية، وعشرات آلاف البولنديين وصلوا إلى إيران بين العامين 1939 و1941، في حين انتشر حوالي 40 ألفاً من بولونيا ويوغوسلافيا واليونان في مخيمات لجوء وجدت مواقع لها في كل من مصر وسوريا وجنوب فلسطين، وذلك في إطار برنامج إغاثي قادته بريطانيا عام 1942 تحت عنوان "إدارة الشرق الأوسط للإغاثة واللاجئين" MERRA Middle East Relief and Refugee Administration، لتشغيل شبكات متنامية من مخيمات اللجوء في جميع أنحاء العالم، بالتعاون مع حكومات ومنظمات إغاثية محلية ودولية منها الصليب الأحمر Red Cross وصندوق إنقاذ الطفولة Save the Children Fund ومؤسسة الشرق الأدنى Near East foundation.

في نهاية المطاف، انتهت الحرب العالمية الثانية، وعاد معظم اللاجئين الأوروبيين لبلادهم، لكن الذاكرة الإيجابية لتجربتهم في العالم العربي، والمعاملة الحسنة التي تلقوها بالمجمل، لم تعد تلقى سوى القليل من الاهتمام في الأحاديث الحالية حول تدفق اللاجئين العرب إلى أوروبا

أطفال كرواتيون يكتبون كلمة "مدرستنا" على الرمال في مخيم تلمباط في عام 1945. (إدارة الأمم المتحدة للإغاثة والتأهيل)

ونقلاً عن تقرير أعدته إذاعة PRI الأميركية، يتحدث الكاتب عن الظروف المعيشية في مخيمات لجوء الأوروبيين تلك ومعظمها يعتمد على الخيام أو ربما بعض الأبنية الفارغة، "ظروف سيئة لكن ليست بائسة تماماً"، حيث يعيش أولئك المقيمون المؤقتون في أحياء سكنية مقسمة بين العائلات والأطفال غير المصحوبين بذويهم والرجال، ويحصلون لدى وصولهم على بطاقة تصبح بمثابة هويتهم الخاصة بالمخيم حيث تتضمن اسماً ورقماً ومعلومات كافية عن التاريخ التعليمي والمهني والشخصي، كما يخضعون لإجراءات فحص طبي شاملة ودورية للتأكد من سلامتهم وصحتهم. 

أما فيما يخص العمل، فكان بإمكان اللاجئين الأوروببين ممارسة الحرف التي يتقنونها أو تعلم مهن جديدة من خلال دورات تدريبية كانت تقام في تلك المخيمات، وبذلك تمكن بعض اللاجئين من توفير مصدر دخل مقبول، وكانوا قادرين على شراء مخصصات من المواد الغذائية أو الحاجيات الضرورية من المتاجر المحلية، رغم اضطرارهم للتقنين بالغذاء في بعض الحالات.

بشكل عام، كان هناك توجه لتشجيع اللاجئين على العمل بهدف كسب بعض الدخل وأيضاً تمضية الوقت بشكل مفيد وممتع. إضافة لذلك، توفرت صفوف دراسية في معظم المخيمات، وكان فيها "عدد قليل من المدرّسين وعدد كبير من الطلاب، مع إمدادات غير كافية نظراً للاكتظاظ الذي كانت تعانيه".

اعتمدت تلك الصفوف على تبرعات وجهود محلية وحاولت الحفاظ قدر الإمكان على لغة وتقاليد اللاجئين، مما جعلها أفضل من نظيرتها في مخيمات اللجوء بالولايات المتحدة الأميركية كما يشير مقال واشنطن بوست. ومن أجل الترفيه، كان مسؤولو المخيمات يقيمون حفلات ومسرحيات دورية للاجئين، الذين كان يحق لهم في بعض الأحيان الخروج للتنزه في المناطق المأهولة القريبة لكن تحت إشراف المسؤولين، وكان بإمكانهم ممارسة بعض الهوايات الرياضية كلعب كرة القدم وكرة اليد. "كان هناك ميلٌ لجعل الحياة في تلك المخيمات عادية قدر الإمكان".

من المفارقات التاريخيّة أن مدينة حلب شمالي سوريا، التي شهدت أقسى فصول المعارك بين العامين 2012 و2016، كان لها نصيب كبير في استقبال اللاجئين الأوروبيين في مأساتهم، حيث أقيمت مخيمات خارجها، وكان اللاجئون فيها يحظون بفرصة زيارة المدينة

من المفارقات أيضاً أن مدينة حلب شمالي سوريا، التي شهدت أقسى فصول المعارك بين العامين 2012 و2016، حيث تدمر جزء كبير منها وقُتل ونزح مئات الآلاف من سكانها، كان لها نصيب كبير في استقبال اللاجئين الأوروبيين في مأساتهم، حيث أقيمت مخيمات خارجها، وكان اللاجئون فيها يحظون بفرصة زيارة المدينة، التي كانت من أهم المراكز الحيوية جغرافياً واقتصادياً وثقافياً في المنطقة، وربما مشاهدة أحدث الأفلام التي تعرضها قاعات السينما هناك.

في نهاية المطاف، انتهت الحرب العالمية الثانية، وعاد معظم اللاجئين الأوروبيين لبلادهم، لكن الذاكرة الإيجابية لتجربتهم في العالم العربي، والمعاملة الحسنة التي تلقوها بالمجمل، لم تعد تلقى سوى القليل من الاهتمام في الأحاديث الحالية حول تدفق اللاجئين العرب إلى أوروبا.

من المؤسف أن نرى كيف تعارض بعض الحكومات الأوروبية خاصة اليمينية استقبال المدنيين الهاربين من الحرب، ولعلّنا ببعض البحث والعودة للتاريخ نكتشف بأن أجداد عدد من أعضاء تلك الحكومات اضطروا يوماً للعيش في مخيمات لجوء في سوريا وغيرها من بلدان العالم العربي، وحصلوا على دعم يرفضون اليوم توفيره لغيرهم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard