شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
رأس السنة الميلاديّة: أسطورة البدايات المقدّسة

رأس السنة الميلاديّة: أسطورة البدايات المقدّسة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 31 ديسمبر 201801:25 م
رغم انغراس الإنسان المعاصر في المدنيّة الحديثة وانغماسه في عالمٍ مرقمن حاصره بكلّ وسائل العولمة التي سعت إلى هدم البنى التقليديّة للاعتقاد القائم على الخرافة والأساطير، فإنّه حافظ في لاوعيه على طقوس وتقاليد انفلتت من قبضة العولمة وصمدت في وجه التاريخ قرونًا غابرة فبقيت شاهدة على استمرار أصول الاعتقاد في الخرافة والخوارق المفارقة للطبيعة. من بين هذه الأساطير التي يجهل أغلبنا أصلها وقصّتها: أسطورة رأس السنة. وهي أسطورة مرتبطة بخلق الكون وولادته. يعتبر عالم الأديان الروماني الشهير، ميرتشا إلياده (مرسيا إلياد) Mircea Eliade (1907-1986)، في كتابه "المقدّس والعاديّ" Sacred and profane، أنّ كلّ عيد دينيّ، وكلّ احتفال بزمن شعائريّ ما، هو إحياء لحدث أسطوريّ وقع في الماضي المقدّس. فكلّ مناسبة احتفاليّة دينيّة ترتبط عنده بقصّة أسطوريّة أنشأها الإنسان في الأزمنة الأولى حيث كان الاعتقاد في الطبيعة وظواهرها وخلق الكون مسيّجًا بالخرافة والأسطورة. وأهمّ هذه الأعياد إطلاقًا تلك التي يأخذ الاحتفال بها طقسًا كونيًّا جماعيًّا، كعيد رأس السنة. والحضارة الغربيّة المعاصرة فرضت بحكم الهيمنة والاتّباع منذ أكثر من قرن عيدها المسيحيّ الميلاديّ على مختلف دول وقارات الأرض، حتّى أضحى عيدًا أرضيًّا جامعًا تبدأ طقوس العبور إليه من لحظة انسلاخ آخر ثانية من آخر دقيقة من آخر يومٍ من آخر شهر من السنة الميلاديّة. وهذا الاحتفال تكراريّ كلّ سنة. والثابت في تاريخ الأديان على ما ينقله إلياد أنّ الاحتفال برأس السنة قديم، وكان لكلّ حضارة تقويمها السنويّ، لكن الجامع بين التقوميات هو هذا الاحتفال القدسيّ ببداية السنة، وأعرق أساطير الخلق تعود إلى الشرق، ففي الحضارة البابليّة (18-6 ق.م)   "كان الناس ينشدون قصيدة الخلق "الأنوما أليش" Enuma Elish في الأيّام الأولى من السنة الجديدة" والقصيدة تبدأ في لوحها الأوّل بعبارة "عندما لم يكن هناك في الأعالي سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض"، والاحتفال هو استرجاع لقصّة القتال الأسطوريّ بين الإله "مردوخ" وبين الوحش البحريّ "تيامات" الذي انتهى بانتصار الإله فخلق من جسد خصمه الكون ثمّ خلق الإنسان من دم الشيطان. والاحتفال يتمثّل في تمثيليّة دراميّة تستعيد ذلك الصراع، وقد لاحظ مرسيا أنّ هذا الطقس موجود أيضًا عند الفراعنة. وحتّى العيد الفارسيّ المشهور "النيروز" يتصّل فيه الاحتفال بترديد أناشيد تنضمّ على معاني الخلق وتجديد الزمان. ولذلك نظائر في عشيرة الأرونتا Arunta في أستراليا وسكّان جزيرة تيكوبيا Tikopia البولنزية على ما نقله مرسيا.
حـتّى اللادينيّ يعجز عن "سلخ" القداسة تمامًا عن حياته
وعيد رأس السنة المسيحيّ يستعيد أسطورة الخلق لكن بإيمان توحيديّ يعتقد في أنّ لحظة ميلاد المسيح هي لحظة خلاص البشريّة وتطهير النفوس. ومن هنا يستمدّ الاحتفال ماهيّته الأصليّة المتمثّلة كما يقول مرسيا في شعور الإنسان بأنّه "أنقى وأعظم حريّة لأنّه يتخلّص من وزر أخطائه وخطاياه"، فهو طقس تطهيريّ من تلوثّ سنة كاملة بالدناسة، فكأنّه هدم وبناء، تقويض لعالم وتشييد لبديل جديد. ولهذا أيضا تُقام طقوس الاحتفال قديمًا وسط زحام اجتماعيّ مصطخب ووسط "الإباحيّة الغراميّة، والحفلات الحمراء"، وهذه الطقوس نراها في تجدّد الاحتفال كلّ سنة. واللحظة الأولى في العبور إلى زمن أوّل يوم في السنة هي لحظة غير عاديّة، لحظة يستشعر فيها الإنسان أنّه يَلِجُ زمنًا مقدّسًا ليس كغيره من الأيّام العاديّة التي لا يُقيم لها هذا التقديس. وتصبح اللحظة الفاصلة بين آخر يوم في السنة وأوّل يوم في السنة الجديدة "عتبة مقدّسة" ذات حُرمة. فكما لعتبات المعابد والكنائس والمساجد آداب عبورها، كذلك للزمن عتباته المقدّسة الماثلة في أعياده الدينيّة. إلّا أنّ انغماس الإنسان المعاصر في معترك الحياة المعولمة أفقده الوعي الدينيّ بأصل الاحتفال، ولا أدلّ على ذلك من اندماج مختلف العقائد والأديان في هذه الاحتفاليّة المسيحيّة الأصل، حتّى اللادينيّون والملحدون يشاركون في الاحتفال بها. لكنّ هذا اللاوعي يُضمر حقيقة مهمّة متّصلة ببنية العقل البشريّ وطبيعة تصوّرها للكون؛ فرغم تفسّخ طقوس العبور القديمة إلى السنة الجديدة وزوال المظهر الدينيّ منها، فإنّ الطقوس المعاصرة والاعتقادات المتعلّقة بها تكشف عن أصول واحدة في طبيعة الاعتقاد البشريّ ماثلة في انشدادها إلى الأسطوريّ والميتافيزيقيّ، ذلك أنّ الإنسان المعاصر يُعلّق بالسنة الجديدة آمالًا كبيرة، ويعتبرها بداية حقيقيّة لزمن جديد، وهو في ذلك يريد "الاغتسال" من أخطاء سنة كاملة ونسيان خيباته وهزائمه، وإن كانت السنة المنقضية مليئة بالنجاحات فإنّه يرغم في نجاحات أكبر، يريد المزيد، المهمّ أنّه لا يطلب "الاستمرار"، إنّه يشعر بأنّ لحظة العبور إلى السنة الجديدة هي لحظة "انقطاع" بعبارة مرسيا، فالزمن في الاعتقاد البشريّ ليس خطّا متواصلًا متسلسلًا، إنّما هو زمن يتجدّد كلّ رأس سنة. لذا، ظلّ "الاحتفال" شاهدًا على استمرار هذا التقديس، فالاجتماع القديم حول النار وحفلات الشواء والخمر استحال اليوم إلى ازدحام في الشوارع الرئيسيّة للعواصم وسهرات غناء في النُزُل والعُلَب الليليّة ليست مثل السهرات الدوريّة. إنّما سهرات يشعر فيها المحتفلون بقدسيّة الليلة الفاصلة. هذا إلى حفلات الخمور وما تستثيره من غراميات وحميميّة بين العشّاق وطُلّاب اللذّة.
كلّ مناسبة احتفاليّة دينيّة ترتبط عنده بقصّة أسطوريّة أنشأها الإنسان في الأزمنة الأولى حيث كان الاعتقاد في الطبيعة وظواهرها وخلق الكون مسيّجًا بالخرافة والأسطورة.
اللحظة الأولى في العبور إلى زمن أوّل يوم في السنة هي لحظة غير عاديّة، لحظة يستشعر فيها الإنسان أنّه يَلِجُ زمنًا مقدّسًا ليس كغيره من الأيّام العاديّة التي لا يُقيم لها هذا التقديس. وتصبح اللحظة الفاصلة بين آخر يوم في السنة وأوّل يوم في السنة الجديدة "عتبة مقدّسة" ذات حُرمة.
إلّا أنّ انغماس الإنسان المعاصر في معترك الحياة المعولمة أفقده الوعي الدينيّ بأصل الاحتفال، ولا أدلّ على ذلك من اندماج مختلف العقائد والأديان في هذه الاحتفاليّة المسيحيّة الأصل، حتّى اللادينيّون والملحدون يشاركون في الاحتفال بها.
وفي الحقيقة، طقس بداية السنة هو سليل طقس أصغر من تقديس العتبات والبدايات، فالمرء يتفاءل بالصباحات ولحظات الفجر والشروق، ويتمنّى أن تكون بداية يومه "بداية جديدة"، إنّ هاجس التطهّر من أخطاء الأمس، ونسيان الآلام والذكريات المُحزنة، لا تجد لها منفذًا غير منفذ الزمن، غير الانقطاع عن زمنٍ وولوج آخر طافحٍ بالفأل والأمل. وفي معترك ذلك الاحتفال وغماره الذي لا يستطيع المرء مقاومته أو إخماد انجذاب نفسه واندفاعها المستعير إلى المشاركة في الاحتفال الكونيّ، يكاد يعجز هذا الإنسان المعاصر رغم سلطة البنى العلميّة على الحياة الحديثة عن الاقتناع بأن لا فرق بين 31 كانون الأوّل/ ديسمبر و1 كانون الثاني/ يناير إلّا في وهمه، وأنّ التقويم السنويّ تواضعيّ بشريّ يُمكن تغييره مثلما تَغيَّرَ عبر العصور. وبهذا ننتهي مع إلياد إلى الإقرار بأنّ القداسة متأصّلة في لاوعي الإنسان ماثلة في سلوكه، وحتّى اللادينيّ يعجز عن "سلخ" القداسة تمامًا عن حياته. وأنّ المكوّن الأسطوريّ جزء صميميّ للعقل البشريّ رغم تعاقب الحِقَب والدهور، وإنّما يندسّ في تمظهرات جديدة يُوهم بتجرّد الإنسان من بدائيّة تفكيره. لكنّ هذا التحليل لا يعني الانتقاص من قيمة الاحتفال بدعوى الأساس الأسطوريّ الذي ينهض عليه، بل طالما كانت الأسطورة مُلهمة للحضارة البشريّة، ثمّ إنّها اُستبدلت عبر التاريخ بنماذج بشريّة عليا كالمسيح. ولعلّ أوكد الدلائل على قيمتها الكبرى متمثّلٌ في اقتدارها على جمع كونٍ كامل بمختلف أعراقه وألوانه وعقائده ومذاهبه وأجناسه في احتفال جماعيّ يتّحدُ فيه تصوّرُ العقل البشريّ للكون والزمن والمصير أيضًا. المصدر: المقدّس والعادي، مرسيا إلياد، ترجمة عادل العوا، دار التنوير، بيروت، 2009.  

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard