شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أحداث المنيا: الجروح الطائفية ليست طفيفة أو سطحية إنما مزروعة عميقًا

أحداث المنيا: الجروح الطائفية ليست طفيفة أو سطحية إنما مزروعة عميقًا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 6 نوفمبر 201810:38 ص

وابل من الرصاص وعدد من الأسلحة برفقة جهة متطرفة ما وبعض المسيحيين في محافظة المنيا كي يكتمل المشهد المُعتاد كثيرًا في كل الآونة وليست الأخيرة فقط على ما يبدو، ومن ثم عبارات التعازي والتشديد على أهمية الأخذ بالثأر قريبًا وربما القيام بذلك بالفعل، وهكذا يُسدل الستار على جريمة متكررة في انتظار أن يحدث نفس ذلك المشهد مجددًا، وعلى الأقل حينها سوف نشرع في تنفيذ الخطوات السابقة من استقبال الخبر إلى كيل عبارات التعازي والتهديد بسرعة أكبر، فقد أصبحنا أكثر خبرة الآن في مثل هذه الظروف.

لا يزال الخلاف قائمًا بين أطياف الشعب المصري حول جواز تسميتهم شهداء أم لا

كانت تلك أهم ملامح نشرات الأخبار الغاضبة طيلة أيام في تغطية الحادث الإرهابي، إذ قام مسلحو داعش بالهجوم على حافلتين قرب دير الأنبا صموئيل في المنيا، وخلفوا وراءهم 7 ضحايا، لا يزال الخلاف قائمًا بين أطياف الشعب المصري حول جواز تسميتهم شهداء أم لا، وإذا ما قمنا باستبدال الرصاص والأسلحة بالحجارة والعصيان مع الإبقاء على جل العناصر الأخرى من جهة متطرفة ما ومسيحيين وكارثة طائفية في المنيا، فسوف نكون قد عدنا بالزمن إلى قرابة الشهرين، حين اعترض المواطنون أولًا في إحدى قرى المحافظة على استكمال بناء كنيسة وازدادت نيران الغضب حتى طالت منزل أحد المسيحيين كان يستخدمه في إقامة صلوات الأحد، ولم يحتَج الأمر للكثير من التفكير حتى بدأ الهجوم على المنزل الذي أصابه الخراب العظيم، ثم انطلقت هجمات متفرقة على منازل المسيحيين المجاورة والبعيدة وأي مبنى يحمل صليبًا على أبوابه كان عرضة للتكسير والاعتداء على أصحابه، حينها كانت الضحية مسيحية أيضًا، وأمّا عن المتطرفين فقد كانوا سيادة المواطنين أنفسهم، ولكن حينها لم نتبادل عبارات التعازي مثلما حدث هذه الأيام، وحتى نشرات الأخبار لم تحمل الغضب اللازم فيما لم يُحدثنا أحد عن ثأر قريب.

شاهد على الغزو

لم أكن أحتاج إلى السفر لمحافظة المنيا كي أتابع ما يحدث عن كثب، فقط عدت بالذاكرة إلى العام 2010 قبل ثورة 25 يناير في بلدتي "نجع حمادي" بمحافظة قنا، حينما قام شخص يُدعى ”حمام الكموني“ بإطلاق النيران صوب 6 شبان مسيحيين كانوا يتجهون إلى قداس عيد الميلاد وأمين شرطة مسلم سقطوا قتلى مباشرة، والأمر هنا لا يمت بصلة إلى الإرهاب بكياناته المعتادة، فالمهاجم لم يكن يومًا ضمن جماعة إسلامية مثلًا، وبدون الخوض في تفاصيل الحادث ذاته التي طغت عليه السرية فيما انتشرت أنباء تفيد بعداء بين منفذ الهجوم والأنبا كيرلس، أسقف نجع حمادي، كان الأهم هو كيف تعاملت البلدة الصغيرة مع ما حدث بعد الهجوم.

في ليلة الهجوم، وحتى مساء اليوم التالي، كانت الأمور تسير بصعوبة والأقباط يعانون في الحصول على جثث الضحايا وفي نفس الوقت البحث عن ”الكموني“ هذا الذي خشي الجميع إفلاته من العقوبة نظرًا لعلاقاته القوية بنواب مجلس الشعب في العمل كحارس شخصي أحيانًا للعديد منهم، بعض الأعمال التخريبية البسيطة بسبب الغضب من الأحداث التي حدثت أثناء جنازة الـ 6 شبان لا أعتقد بأن هناك عاقلًا يمكنه النيل من المسيحيين بسببها، وبعد ذلك سرت شائعة بأن المسيحيين قد أشعلوا النيران في أحد مساجد المدينة، وهو ما لم يحدث قط، ولكن الشائعة كانت تكفي لينطلق آلاف الشبان في عمليات هجومية على متاجر مملوكة للأقباط تم تكسيرها ونهبها، وإلقاء الحجارة على المنازل التي تحمل على بابها نقش الصلبان والسيارات أيضًا، حتى أنني أتذكر جيدًا تلك اللحظة التي اقتحم فيها المهاجمون منزل أحد الجيران والبدء في الصعود إلى الشقة الأولى لولا وصول الأمن الذي ردع المهاجمين، وتم إخلاء المبنى من ساكنيه الذين ذهبوا ليبيتوا ليلتهم لدى أحد الجيران المسلمين، وبعد ذلك علمت أن زوجة جاري هذا قد فقدت جنينها بسبب الذعر والركض.

بعد ذلك سرت شائعة بأن المسيحيين قد أشعلوا النيران في أحد مساجد المدينة، وهو ما لم يحدث قط،
المشكلة الأساسية لم تكن في "حمام الكموني" ولكن تلك الآلاف التي حملت مشاعر الكره والفوقية ضد المسيحيين ولكنهم على ما يبدو كانوا ينتظرون فقط اللحظة المناسبة لإفراغ ما في جُعبتهم، من بلطجة وسرقات واعتداء متكرر وتهديدات فرضت على الأمن فرض حظر تجول لمدة ثلاثة ايام متتالية حتى تهدأ الأمور، بعد تدخل من يطلق عليهم "كبار البلد"، فلا حديث عن الوحدة الوطنية أو القوة الأمنية قد يردع كل تلك المشاعر الملوثة ولكن بطبيعة بلدتي القبلية قد يفعل ذلك أمر مباشر من كبار العائلات هنا.

إذاً 6 قتلى مسيحيين والسبب مسلم، وعيد ينقلب إلى مأتم كالمعتاد، فلماذا ينتهي ذلك بهجوم على الضحايا مجددًا؟ ربما منعهم من الانتهاء من العزاء بالشكل الصحيح.

ولم يتوقف الأمر هنا بل تم تتويجه بمشهد مهيب في وداع القاتل الذي أُعدم في 11 تشرين الأوّل/ أكتوبر عام 2011، وهتاف الآلاف ”بالروح بالدم نفديك يا إسلام“ في لحظة تحول مجرم إلى رمز ديني فقط لأن ضحاياه مسيحيون.

التربية في المنزل

إذاً كيف أمكن لكل هذا التطرف من الولوج والسيطرة على قلوب البعض؟ كيف يمكن لشخص أن تتغير معاملته 180 درجة مع شخص آخر حينما يتيقن أنه مسيحي مثلًا؟

لا أجد حرجًا في تكرار اعترافات الطفولة التي ربما نشرها البعض من قبل وربما لا، فأنا وكثيرون من أصدقائي تم توجيهنا من فئات متفرقة للمجتمع حتى ولو لم تكن فئة مباشرة مثل عائلتي، إلى نبذ الأقباط بكل الطرق البسيطة والصعبة، بداية من توجيه أموالنا إلى حانوت يملكه مسلم بدلًا من مسيحي حتى لو تكلف ذلك عناء الذهاب بعيدًا ووصولًا إلى توجيه حاسة الشم لدينا لتستخلص رائحة سيئة للمسيحيين على الرغم من عدم حقيقة ذلك، والدليل أنك لا تستطيع التعرف على ديانة أحدهم من رائحته بكل تأكيد، ولكن عقلك الباطني يستدعي ذلك الحكم الملوث حينما تعلم أن الشخص الذي تقف معه مسيحي.

وإذا كنا نحتفي بأطباق الحلوى التي نتبادلها مع الأقباط في شهر رمضان،  واستبدال الحلوى باللحم، لن يُصبح ذلك الاستبدال عملية سهلة، فاللحم الذي يُعده مسيحي كان محرمًا علينا أيضًا، وبالطبع الرحمة تجوز على الحي والميت ولكن لا يمكنك أن تدعو بها لمسيحي أبدًا.

وللأمانة أقول بأن المتهم هنا لا يمكن أن يكون كتب التراث الإسلامي المتطرفة، فالغالبية العظمى من الشعب لم يطلع عليها ولا يعرف حرفًا منها من الأساس، نعم هناك خطاب من الكراهية يعتلي المنابر أحيانًا وشيوخ زوايا يذكروننا أن المواطن المسيحي هو مواطن درجة ثانية كلما نسينا، ولكننا توارثنا ما هو أخطر من محتوى تلك الكتب، توارثنا أن المسيحيين فئة مفروضة علينا داخل المجتمع، وحتى عندما يُنصفهم القانون الوضعي هنالك طرق أخرى نستطيع ردعهم بها.

ثم انطلقت هجمات متفرقة على منازل المسيحيين المجاورة والبعيدة وأي مبنى يحمل صليبًا على أبوابه كان عرضة للتكسير والاعتداء على أصحابه
في ليلة الهجوم، وحتى مساء اليوم التالي، كانت الأمور تسير بصعوبة والأقباط يعانون في الحصول على جثث الضحايا وفي نفس الوقت البحث عن ”الكموني“ هذا الذي خشي الجميع إفلاته من العقوبة
كيف يمكن لشخص أن تتغير معاملته 180 درجة مع شخص آخر حينما يتيقن أنه مسيحي مثلًا؟
لا أجد حرجًا في تكرار اعترافات الطفولة التي ربما نشرها البعض من قبل وربما لا، فأنا وكثيرون من أصدقائي تم توجيهنا من فئات متفرقة للمجتمع حتى ولو لم تكن فئة مباشرة مثل عائلتي، إلى نبذ الأقباط بكل الطرق البسيطة والصعبة
الجروح الطائفية ليست طفيفة ولا سطحية ولكنها مزروعة داخل أعماق الغالبية العظمى هنا، فقط تنتظر سببًا أو مناسبة للخروج إلى العلن
لا أستطيع أن أتذكر إلا أننا حينها ظللنا نناقش لفترة طويلة إمكانية الترحم على الضحايا المسيحيين فيما أطلقت تلك السيدة ببراءة مُدهشة دعاءها للقاتل، لأنها بالتأكيد قيل لها مرارًا "الله محبة".

مصر تنتخب من لا ينتخبه المسيحيون

الطريقة التي يتبعها البعض للرد على قوانين مساواة الصوت المسيحي بنظيره المسلم كانت ببساطة هي الحشد المضاد، وآلية العمل سلسة جدًا، فقط لنختر الجانب الآخر الذي لم يقع اختيار المسيحيين عليه، وحتى بعد ثورة عارمة رفض فيها المسيحيون اتباع تعليمات الكنيسة وعظات الآحاد بعدم الانسياق خلف جموع المتظاهرين ضد نظام محمد حسني مبارك، لم تشفع تلك الصور المتمثلة في إمام يحتضن قسًا وهلالًا برفقة صليب في إصلاح التصدعات التي شكلتها تعليمات الطفولة، ومع أول اختبار ظهر ذلك جليًا حينما تحول الاستفتاء على دستور من الاختيار بين نعم ولا إلى نصرة الإسلام ضد المسيحية، ليس لشيء ولكن فقط لأن معظم المسيحيين انضموا إلى رغبات التيار الليبرالي في رفض الدستور بسبب اتجاه النظام وقتها إلى حث المصوتين على اختيار نعم بكل الطرق دون أن يحمل الدستور -وفقًا لآراء المعارضين- أي ملامح من مطالبات الثورة ذاتها، ولكن وضعت المادة الثانية التي تتمثل في أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع كورقة رابحة جعلت كل من في المعسكر الرافض للدستور إما مسيحيًا أو عدوًا للإسلام، وبالفعل تمت الموافقة على الدستور الذي تم تعطيل العمل به فيما بعد بسبب عدم صلاحيته.

وكذلك جولة الإعادة بين أحمد شفيق وممثل الإخوان محمد مرسي، إذ لا يخفى على أحد أن تخوف الاقباط المبرر من تصاعد التيار الإسلامي المتشدد الذي وقف بجانب حملة رئاسة الإخوان إلى سدة الحكم سوف يضعهم في موقف غاية من الصعوبة، وبدلًا من مواجهة الاضطهاد المجتمعي قد يُصبح الآن الاضطهاد مقننًا على هيئة مؤسسات الدولة ذاتها وبقوة، ومرة ثانية اللعب على وتر أعداء الأقباط يجعل منك رابحًا ويعطي مفاتيح القصر الرئاسي إلى جماعة الإخوان المسلمين، ناهيك بالمكاسب العظيمة التي حصدها التيار الإسلامي في انتخابات مجلسي الشعب والشورى فقط لأنهم وضعوا جملة الإسلام هو الحل وترجمها معظم الشارع المصري -بنتائج التصويت- إلى مواجهة مرشح الاقباط ولو كان مسلمًا أيضًا.

وقبل أن تتهمني بتهويل الأمر لنقم بتجربة بسيطة، اسألْ جمعًا من الناس الذين يرفضون اضطهاد المسيحيين في مصر عن رأيهم إذا ما أصبحت بلدتهم تمتلك محافظًا مسيحيًا، إذ ذاك سوف يتقلص عددهم قليلًا، وإذا حدثتهم عن رئيس مسيحي فسوف يتقلص العدد أكثر، وحينما يعلمون أن الرئيس المسيحي سيمتلك سلطة المراقبة وتوجيه مؤسسة الأزهر فربما لن يبقى أحد ليُجيب عن أسئلة أخرى من الأساس.

في هذا المقال لا أبحث عن حل ولكنها مكاشفة ومصارحة وكلمات قد يجد مسيحيو مصر الحرج في إطلاقها وهم يعلمون عنها كل شيء، شهادة ربما توضح بأن الجروح الطائفية ليست طفيفة ولا سطحية ولكنها مزروعة داخل أعماق الغالبية العظمى هنا، فقط تنتظر سببًا أو مناسبة للخروج إلى العلن، وفي النهاية أدعوكم جميعًا للاستماع مجددًا إلى مقطع الفيديو الخاص بجنازة قاتل ضحايا نجع حمادي، وستلاحظون جملة تلاعبت بذاكرتي مرة أخرى، في منتصف المقطع تساءلت السيدة المسيحية عن مصدر كل تلك الناس المحتشدة ليوضح لها مصور الفيديو أنهم من أقارب "الكموني"، وردت هي: "الله يرحمه ويصبر قلوبهم"، لا أستطيع أن أتذكر إلا أننا حينها ظللنا نناقش لفترة طويلة إمكانية الترحم على الضحايا المسيحيين فيما أطلقت تلك السيدة ببراءة مُدهشة دعاءها للقاتل، لأنها بالتأكيد قيل لها مرارًا "الله محبة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard