شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
جمود العقل العربي-الإسلامي وتراكم القيّم البالية

جمود العقل العربي-الإسلامي وتراكم القيّم البالية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 30 أكتوبر 201802:36 م

لا تخلو أيامنا في العالم العربي من أخبار "جرائم الشرف" أو استهداف المثليين أو زواج قاصر أو قاصرة. لا يمكن فهم استمرار مثل هذه ممارسات، رغم الانتقادات وازدياد الانفتاح على العالم، بعيدًا عن "رهاب التغيير" وغياب الفكر الحرّ والنزعة النقدية. ما يبديه العقل العربي-الإسلامي من رفض للتجديد هو نتيجة لجملة من المبادئ والعادات التي تواتر العمل بها حتى أصبحت في دائرة "اللامفكر فيه"، حسب تعبير محمد أركون. تراكمت مع مرور الزمن الكثير من القيم البالية كالفهم القاصر لمفاهيم "الشرف" و"الرجولة"، واقتران الحرية بالانحلال الأخلاقي، والانفتاح بالمفاسد، والعقلانية بالسفسطة والهرطقة، وترسخت ذكورية الفضاء العام حتى باتت من المسلَّمات.

لا تخلو أيامنا في العالم العربي من أخبار "جرائم الشرف" أو استهداف المثليين أو زواج قاصر أو قاصرة.

يجب أن نعترف أن هنالك موروثاً اجتماعياً وثقافياً ودينياً ثقيلاً بحاجة إلى أن يُرفع عن كاهل المجتمع العربي حتى يستطيع التقدّم. على سبيل المثال القاعدة الشرعية-الثقافية القائلة بضرورة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". عمليًا، هذه القاعدة هي دعوة صريحة لتثبيت الواقع، بخيره وشره. فهي تدعو لترسيخ ما تعارف الناس على قوله وفعله، عبر الربط بين المعروف والخير. فيُعاد إنتاج الماضي في الحاضر من خلال تكليف جميع أفراد الجماعة بمهمة تنقية الفكر والسلوك من أي جديد أنكره أو ينكره المجموع. وفق هذا المنطق الكمي، ليس الخير والشر قيمًا مجردة، أو مرتبطة بالمحاكمة العقلانية الموضوعية، وإنما مرهونة بقبول أو إنكار مجموع الناس لها. باختصار، الموضوع عددي: الكثرة خير والقلة شر. ليست هذه القاعدة استثناء. وليس الدين وحده سبب الجمود والخوف من التغيير، بل إن الخلل الحقيقي يكمن في غياب الروح النقدية، وسهولة إدخال القيم والعادات في دائرة "المقدّس"، حتى لو كانت ذات منشأ اجتماعي بحت. فالحيز "اللامفكر فيه" في العقل العربي مليء بعادات وتقاليد متوارثة ترتدي ثوب "المقدس"؛ ترى "البدعة" بعين الريبة وتسعى لوأد المبادرات وتناسخ الأجيال.

ليس الدين وحده سبب الجمود والخوف من التغيير، بل إن الخلل الحقيقي يكمن في غياب الروح النقدية

لكن ما العمل إن كان مجرد الاقتراب من هكذا مبادئ وعادات سيضع الناقد موضع المستهدَف من قبل حراس الدين أولاً، ومن قبل حراس العادات والقيم الموروثة ثانيًا؟ في الحالة المثالية، يجب فتح حوار مجتمعي تحميه الدولة وتنفذ مخرجاته بموجب القانون. لكن ضمن الواقع الراهن، فإن التواصل مع هذه الفئات المجتمعية "المحافظة" دينيًا واجتماعيًا، أمر غاية في الصعوبة، فلا أسس مشتركة حتى ينطلق منها أي حوار بناء. ببساطة يمكن أن تصبح العقلانية تهمة، والنقد مؤامرة، وتصبح الدعوة للتغيير تماهيًا في الغرب ونكرانًا للانتماء. فما المخرج إذاً؟ وما الحل لنصحو من سكرة الحفاظ على الهوية؟

الحل إما بسلطة سياسية تعزز ثقافة الحوار وتجعل من مؤسساتها التعليمية والثقافية مساحات تُطرح فيها مختلف الرؤى، وتتولى هي دور المشرف. لكن جميعنا يعلم أن من يملكون مفاصل القوة في المجتمعات العربية هم نخب سياسية انتهازية، أولويتها هي حماية نفوذها وليس الأخذ بيد المجتمع نحو واقع أكثر انفتاحًا وتقبلاً للنقد والتغيير، لأن ذلك ستتبعه حتمًا رغبة في تحقيق انفتاح سياسي موازٍ، وهو بالطبع ما لا تريده تلك النخب. إذًا هكذا تشرف النخب الحاكمة على التغطية على حراس الدين والتقاليد، بتحالف غير معلن يضمن استمرار وسطوة كليهما، كلٌّ في مجاله.

الخيار المتبقي هو التغيير المتمثل بالجرأة على تغيير السلوكيات الفردية، والحوارات اليومية، والتوعية بضرورة، أو على الأقل شرعية، النقد والمراجعة. المعني بذلك هم النخب المتنورة، غير المرتبطة بالسلطة، والمدفوعة برغبة ذاتية وحقيقية للتغيير. ونجاح هذا الخيار مرهون بشرطين: أولًا، كسر عزلة النخب الفكرية عبر حملات ومبادرات تسعى للوصول لأكبر عدد من أفراد المجتمع. وثانيًا، اعتماد إستراتيجية "النفس الطويل"، فالتغيير بهذه الحالة بطيء وغير ملموس على المدى القصير.

ما يبديه العقل العربي-الإسلامي من رفض للتجديد هو نتيجة لجملة من المبادئ والعادات التي تواتر العمل بها حتى أصبحت في دائرة "اللامفكر فيه"، حسب تعبير محمد أركون.
تراكمت مع مرور الزمن الكثير من القيم البالية كالفهم القاصر لمفاهيم "الشرف" و"الرجولة"، واقتران الحرية بالانحلال الأخلاقي، والانفتاح بالمفاسد، والعقلانية بالسفسطة والهرطقة، وترسخت ذكورية الفضاء العام حتى باتت من المسلَّمات.
يجب أن نعترف أن هنالك موروثاً اجتماعياً وثقافياً ودينياً ثقيلاً بحاجة إلى أن يُرفع عن كاهل المجتمع العربي حتى يستطيع التقدّم.
الخيار المتبقي هو التغيير المتمثل بالجرأة على تغيير السلوكيات الفردية، والحوارات اليومية، والتوعية بضرورة، أو على الأقل شرعية، النقد والمراجعة.

في حالة التغيير الاجتماعي، يكمن الخلل في ممارسات يومية وعادات اجتماعية لها امتدادات تاريخية ونفسية وثقافية منتشرة وصعبة التحديد. وهذا هو السبب في بطء التغيير الاجتماعي مقارنةً بالإصلاح في ميادين السياسة والاقتصاد والقانون. ففي حالة التغيير السياسي، كثيرًا ما يتمثل الخلل في عدد محدد من الأشخاص أو القواعد الدستورية، مما يتيح مجالاً للثورات أو الانقلابات لإحداث تغيير ملموس، مع الإقرار بحجم الخطر المرافق لذلك. أيضًا، حراس النظام السياسي هم في الغالب موظفون رسميون أو مستفيدون من ذلك النظام بصورة من الصور. أما حراس الدين فهم أسرى للعادات المتوارثة، يقترن الخير بالنسبة لهم بالحفاظ على ما ورثوه من ممارسات وما تشربوه من قيم عبر تعليم رسمي وغير رسمي، يقوم على التلقين والتكرار، دون إتاحة مساحات للنقد أو المراجعة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard