شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
هل يواصل البشر حياتهم في بلادنا بعد سنّ الـ60؟

هل يواصل البشر حياتهم في بلادنا بعد سنّ الـ60؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 23 أكتوبر 201812:53 م

اكتسبت بعض الأرقام في حياتنا مهابة ووضعًا خاصًا مع تعدد الأسباب بين التفاؤل بالأعداد الزوجية والتشاؤم من الرقم 13، والحظ السعيد في الرقم 7، وسن النضج حكوميًا من 18 إلى 21 عامًا، وأشياء أخرى، وكذلك هو الحال بالنسبة للرقم 60، هذا الوحش المُرعب للكثيرين والذي يحمل في طياته رسالة تركها المجتمع لصاحب الرقم تنبهه بأنه قد حان وقت الكف عن الشغف وإفساح المجال لأجيال أخرى من أجل جولات الكر والفر والركض خلف متاعب الحياة وحلاوتها أيضًا، بعبارة أخرى: التقاعد.

ولأن ما يُصيب الإنسان غالبًا ما سوف ينعكس أثره على أحبابه من المحيطين به، فقد اعتادت الأسر العربية دق أجراس الخطر والبدء في اتخاذ إجراءات المواساة وأخذ احتياطات التحولات النفسية ”السيئة“ التي هم على وشك أن يلقوها حينما يكون الأب في عامه الوظيفي الأخير، ليتحول ”الوحش المُرعب“، أي العمر، إلى ضيف دائم في المنزل رافق الشخص الذي أتم الستين عامًا في رحلته الأخيرة من العمل، إلى حيث سوف يقضي ما تبقى له من حياته، أو هكذا تم شرح الأمر له مرارًا إذ قال له الأصدقاء إنه ربما حان الوقت كي يستريح أخيرًا، وصدّق هو بأن رحلات استطلاع السعادة وخوض مغامرات الحياة قد انتهت تمامًا الآن.

عجوز بدرجة موظّف

تعد تلك المنطقة هي الأكثر اشتعالًا إذ إن التقاعد هنا إلزامي لا مجال للنقاش فيه، فمعظم القطاعات الخاصة وكل القطاعات الحكومية حددت سلفًا بأن تكون نهاية الخدمة مع عيد الميلاد الـ 60 لموظفيها. وبعد حفلة صغيرةـ يتم فيها تجميع بعض الهدايا، وربما مبلغ من المال، يعود ذلك الموظف إلى منزله وهو يجر أذيال الهزيمة التي تلقاها من الزمن، وبينما هو في طريقه هذا، يستعيد فجأة قوة حواسه جميعًا، فيمكنه أن يحفظ في ذاكرته المُبعثرة كل تفاصيل الشوارع والحارات التي يقطع فيها مسيرته الأخيرة، وتستطيع عينه أن تلاحظ كل الجمال الذي لم يلاحظه من قبل في جدران البيوت المتلاحقة في الطريق، ويشتم روائح لم يكن يعرف أنها تملأ الأرجاء من قبل. 

ولعلّ معظم الحلول في هذا القطاع تمثّلت في نقطتين أساسيتين؛ العمل الجديد والأصدقاء، فيبدأ الشخص أو الأهل في البحث عن عمل مناسب يُمكن للأب أن يشعر فيه بنفس الروتين الذي اعتاده طوال سنوات ما قبل التقاعد، وتوفير سهرة يومية في مقهى غالبًا تجمع الأب بأصدقائه، وزملائه في العمل القديم لكي لا يشعر بأنهم قد تناسوه بعد انقضاء فترة عمله.

النساء مختلفات عن الرجال؟

وكي لا يُصبح الحديث عن الأب فقط دون الانتباه إلى أن الأم أيضًا سوف تمر بتلك التجربة، وجب التنبيه على أن الواقع يُخبرنا بأن الأم العاملة في مجتمعاتنا العربية عادة ما تنشغل مباشرة باستئناف أمور منزلها وأعمال أبنائها وأحيانًا تشرع في توظيف خبراتها في إعطاء نصائح ثمينة لزوجات الأبناء وبناتها في ترتيبات المنزل والتوفيق بينه وبين العمل كذلك، ومن ثم تبدأ في لعب دور جديد تعليمي يخص أحفادها مثلًا وهي تفعل ذلك باستمتاع بالغ في معظم الأوقات.

وجب التنبيه على أن الواقع يُخبرنا بأن الأم العاملة في مجتمعاتنا العربية عادة ما تنشغل مباشرة باستئناف أمور منزلها وأعمال أبنائها

وفي هذا السياق، تحدثنا إلى أستاذة علم النفس والاجتماع ليلى عبد الرحمن التي تستعد بدورها إلى استقبال عامها الستين والتقاعد بعد شهور قليلة، إذ أشارت إلى أن تأثير بلوغ سن الستين والتقاعد على الرجال في مجتمعاتنا أكبر بكثير من تأثيره على النساء، فعلى حد وصفها ”فإن المرأة العربية في معظم الأحوال اعتادت القيام بدورين أساسيين بين العمل والمنزل، وأن التقاعد بالنسبة لها يشبه التخلص من أحد الأعمال والتركيز على الآخر فقط، خاصة أنها في تلك المرحلة سوف تواجه تطورات عائلية معينة مثل وجود أحفاد سوف توجه إليهم مجهوداتها، وهو الأمر الذي سوف يكون بطبيعة الحال ممتعًا وجديدًا أيضًا، على عكس الرجل العربي الذي لطالما أختصرت مهامه في تلبية طلبات المنزل ماديًا، وفقًا لروتين الذهاب إلى العمل والعودة في موعد محدد يوميًا مباشرة إلى الاستلقاء دون أي مهام أخرى طلبًا للراحة وهو الروتين الذي سوف يتم كسره تمامًا بعد التقاعد“.

أصحاب الأعمال الحرة ما بعد الستين

على عكس موظفي المقاطعة الأولى، فأصحاب الأعمال الحرة لا يشغلهم الرقم 60 إطلاقًا، فالعمل الذي اعتادوا القيام به مستمر بأمر مباشر منهم وحتى لو لم تسعفهم قدراتهم الجسدية، فتقليل جرعات الأعمال المطلوبة منهم هو قرار شخصي غير مرتبط بعمر ما أو بقانون حكومي صارم.

وفي تلك النقطة تحديدًا كشفت الأستاذة ليلى عن خطة يسعى كثير من الموظفين إلى إتمامها، إذ يتجه هؤلاء إلى إيجاد عمل حر خارج جدران مكاتبهم الحكومية لعدة أسباب، أبرزها إيجاد مصدر آخر للدخل والأهم توفير فرصة مناسبة داخل المقاطعة الثانية حينما يداهمهم أمر التقاعد هذا، فتجد أن الموظف قد يؤسس مشروعًا خاصًا ويبدأ في قضاء بضع ساعات في إدارته ليلًا طوال فترة عمله في الحكومة، وبعد التقاعد يُصبح لديه عمل آخر يوجه إليه تركيزه، وفي معظم الأوقات سوف يبحث فيه عن شغف خاص إذ كان صاحب القدرة على اختيار نوعية العمل الحر بطبيعة الحال، بل أن البعض يقدم طلب بالخروج المُبكر على المعاش (تقاعد قبل الـ60) إذا ما تحقق له الاستقرار في مشروعه الحر، وبذلك يكون قد نال أكبر استفادة في قضاء حياته بوظيفة مستقرة، وأيضًا بناء بديل قوي يُساعده في المُضي قدمًا.

الرقم 60، هذا الوحش المُرعب للكثيرين والذي يحمل في طياته رسالة تركها المجتمع لصاحب الرقم تنبهه بأنه قد حان وقت الكف عن الشغف وإفساح المجال لأجيال أخرى
ولأن ما يُصيب الإنسان غالبًا ما سوف ينعكس أثره على أحبابه من المحيطين به، فقد اعتادت الأسر العربية دق أجراس الخطر والبدء في اتخاذ إجراءات المواساة وأخذ احتياطات التحولات النفسية ”السيئة“ التي هم على وشك أن يلقوها حينما يكون الأب في عامه الوظيفي الأخير.
تعد تلك المنطقة هي الأكثر اشتعالًا إذ إن التقاعد هنا إلزامي لا مجال للنقاش فيه، فمعظم القطاعات الخاصة وكل القطاعات الحكومية حددت سلفًا بأن تكون نهاية الخدمة مع عيد الميلاد الـ 60 لموظفيها.
فبينما يسعى المواطن العربي إلى حلّ مشكلة العمل ما بعد الـ 60 عامًا، تجد نظيره في البلاد الغربية يشرع في الاستمتاع بحياته بعد أن أصبح خارج منظومة العمل الطاحنة

هل الحب ممكن بعد الستين؟

ومن أجل الحديث عن تلك النقاط، كان لا بد أن نستحضر النموذج الغربي لكبار السن ونبدأ في عقد مقارنة بينهم وبين تلك الفئة في المجتمعات العربية، فبينما يسعى المواطن العربي إلى حلّ مشكلة العمل ما بعد الـ 60 عامًا، تجد نظيره في البلاد الغربية يشرع في الاستمتاع بحياته بعد أن أصبح خارج منظومة العمل الطاحنة، فيقوم بتوجيه أنظاره نحو رحلات طويلة أو قصيرة إلى منتجعات ساحلية أو ربما زيارة بلد آخر لقارة أخرى من أجل تدارك ما قد قام بتأجيل استكشافه لسنوات عديدة. فلماذا كل هذه الفوارق بين طريقة تفكير العرب والغرب؟

"بالطبع لدى المواطن العربي بعض الاهتمامات المختلفة عن الغربي دون التركيز على فئة معينة، فحتى الشباب سوف تجد اختلافات رهيبة بين أسلوب عيشهم هنا في الدول العربية وخارج المنطقة“، هكذا بدأت أستاذة علم النفس ليلى في شرح الأمر، وأضافت: "لكن اختلاف المسؤوليات بين العجوز العربي والغربي يضع على عاتق الأول مهمات لا تنتهي تقريبًا، ففي اللحظة التي ربما يسعى فيها أحد كبار السن في أوروبا إلى البحث عن قصة حبّ أو مغامرة سفر، تجد الأب هنا في بلادنا عالقًا في مساعدة نجله على إتمام الزواج من الناحية المادية، لذا من الطبيعي أن ينشغل من يصل إلى سن التقاعد بتوفير بديل مادي مناسب خاصة أن ما يتقاضاه على سبيل المعاش من الحكومة لا يتخطى نسبة ال 25% من راتبه الأساسي، وهو الأمر الذي لا يتيح له مجالًا كبيرًا في صرف انتباهه على نفسه بممارسة الرياضة والسفر وكل تلك الأمور التي أصبح لديه الوقت من أجل الخوض فيها ولكن منعته الظروف الاقتصادية“.

 وتابعت: "من الممكن أن يكون أحد العوامل الهامة في الحالة النفسية والمزاجية السيئة التي تُصيب الرجال عند التقاعد، إذ تتراكم عليهم مشاكل مادية جديدة مع عدم القدرة على تلبية احتياجاتهم الخاصة التي تم تأجيلها مرارًا بسبب العمل بجانب كسر الروتين المعتاد. كل ذلك من الممكن أن يخلق شخصًا عصبيًا وحادًا ذا مزاج متقلب داخل المنزل بكل تأكيد".

وأنهت ليلى حديثها بأنه لا بد أن يصل إلى الشخص المتقاعد قاعدة أن العمر مجرد رقم بالفعل، وخلق أنشطة جديدة يحبها، مع ترك بعض الأعمال تحت مسؤوليته من المحتمل أن يُسهل على الجميع إرساء تلك القاعدة، وحذرت من أن يتم التعامل معه على أنه طفل مثلما يحدث أحيانًا إذ قالت: "مع التقدم في العمر قد يبدأ الإنسان في استعادة قدراته الطفولية، هذا حقيقي، ولكن ذلك غير مرتبط بالتقاعد مطلقًا ولكنه صحيح مع الأعمار الأكبر من ذلك، ويكمن الحل وفقًا للمعطيات السابقة وظروف المواطن العربي في تلك الكلمات، في الرياضة والعمل والسفر واختراع قصة جديدة يعيشها الأنسان حتى لا يشعر بأنه في نهاية الرحلة مثلًا ولكنه قد وصل إلى محطة جديدة فقط".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard