شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ألمانيا والعثمانيون... مخطط ثورة

ألمانيا والعثمانيون... مخطط ثورة "الإسلام الألماني" ضد سايكس بيكو

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 7 نوفمبر 201805:51 م

في القرن الثامن عشر، بدأت بريطانيا بالعمل على استراتيجية "تصنيع" إسلام سياسي موالٍ لها، في إطار الصراع الدولي بين الغرب والدولة العثمانية، ووجدت لندن أن اختراق المجتمعات العثمانية تلزمه حركات إسلام سياسي "مصنّعة" من الألف إلى الياء. وفي أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر حدث تغيّر نوعي في أوروبا. اندلعت الحرب الألمانية الفرنسية (1870-1871) حينما تحالفت الولايات الألمانية لردع الامبراطور نابوليون الثالث وانتهت بدخول القوات الألمانية العاصمة الفرنسية باريس في 28 يناير 1871، وإعلان قيام ألمانيا الموحدة. وعلى ضوء تطوّر الصراع الدولي بين ألمانيا وجيرانها الروس والأوروبيين، سعت برلين إلى ضرب نفوذ بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط، فتحالفت مع الدولة العثمانية.

"الحاج غليوم"

التقارب الألماني-العثماني لازمه تقارب ألماني-إسلامي، وهو ما برع فيه الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني، حتى أسماه المسلمون الحاج غليوم الثاني. زار "الحاج غليوم" دمشق ولبنان والقدس في جولة شامية عام 1898 ليصبح أول حاكم أوروبي يدخل المدن الثلاث سلماً بدون حرب، وأصرّ على زيارة ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي ووضع إكليلاً من البرونز عليه ظل في مكانه إلى أن سرقه لورانس العرب بعد ذلك بعقدين من الزمن، كما زار المسجد الأموي في دمشق. ولكن خلف هذا الدفء الإسلامي-العثماني-الألماني كان هنالك مجهود استخباراتي رفيع، لم يحظَ بدعاية سينمائية وثقافية كبيرة مثل تلك التي حصل عليها المجهود البريطاني.

أوبنهايم العرب

 مثلما كان أغلب رجالات الآثار الفرنسيين والبريطانيين ضباط استخبارات، بدون التقليل من أهمية إنجازاتهم الأثرية، قدّمت ألمانيا للبحث العلمي والأثري العالم الجليل البارون ماكس فون أوبنهايم (1860-1946)، المؤرخ والأثري والدبلوماسي، وسليل أسرة أوبنهايم المصرفية. اكتشف أوبنهايم منطقة تل حلف الأثرية وانتشلها من التراب عام 1899، أثناء عملية استخباراتية لتحديد طرق سكة حديد بغداد-البصرة، وظل حتى عام 1929 ينقّب في المنطقة وينقل آثارها إلى متحف تل حلف في برلين، وهو المتحف الذي سوّته غارات قوات التحالف بالأرض، أثناء الحرب العالمية الثانية.

وصل أوبنهايم إلى القاهرة عام 1896 للعمل ملحقاً بالسفارة الألمانية هنالك كتغطية على نشاطه الاستخباراتي. ويشير المستشرق النمساوي ستيفان كرويتسر Stefan Kreutzer في كتابه "الجهاد من أجل القيصر الألماني" إلى أن شائعة تحوّل القيصر الألماني للدين الإسلامي سراً ودعمه للخلافة الإسلامية كانت من أفكار أوبنهايم. وكان العالِم الألماني أيضاً مهندس التقارب الألماني-العثماني وجولة القيصر في سوريا ولبنان، ومهندس الدعاية الألمانية التي نشرت شائعة أن فرنسا تخطط لنبش قبر الرسول ونقل الحجر الأسود إلى متحف اللوفر. ويوضح كرويستر أن أوبنهايم تواصل مع زعماء التنوير والإسلام في مصر والشام، مثل الشيخ عبد الخالق السادات ومحب الدين الخطيب وشكيب أرسلان والشيخ محمد عبده وسعد زغلول وجمال الدين الأفغاني.

وتعود فكرة استخدام الإسلاميين في الإضرار بالبنية التحتية والاقتصادية للدول المستهدَفة إلى أوبنهايم، فقد حرّض، وفقاً لكرويستر، زعماء القبائل والعشائر من أجل تخريب مضخات وأنابيب النفط في إيران. وعشية الحرب العالمية الأولى، حينما كان حاكم مصر الخديوي عباس حلمي الثاني في فيينا تواصل معه في محاولة لنسج تحالف مصري ألماني ولكن البريطانيين استبقوا هذا التواصل، ونظراً لمعرفتهم بميول عباس، قاموا بعزله وتعيين السلطان حسين كامل بدلاً منه. ولكن القاهرة لم تكن محطة أوبنهايم الوحيدة، فقد جاب حلب ودمشق، وامتاز عن لورانس العرب الذي يوضَع معه في مقارنة دائمة بأنه وصل إلى شط العرب والعراق وغطّى مناطق انتشار عشائر الشام وشبه الجزيرة العربية كاملة، إضافة إلى جنوب الأناضول وشرق إيران، واختلط بالعرب والأكراد والتركمان والإيزيديين والجراكسة، ولخص مسيرته هذه ومنجزاتها العلمية والأثرية في موسوعة البدو (أربعة مجلدات) التي تُعَدّ حتى يومنا من أهم المراجع التاريخية لتاريخ ما يُعرف اليوم بسوريا ولبنان والأردن وإيران وتركيا والعراق.

وعقب انتهاء خدمته الدبلوماسية في القاهرة، انتقل أوبنهايم إلى سوريا للعمل الأثري وبقي فيها حتى عام 1913، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) بعام واحد فحسب.

مبتكر فكرة "إسلام جهادي لصالح الغرب"

لم يكن أوبنهايم من أهم مهندسي التحالف العثماني-الألماني والتقارب الألماني-الإسلامي فحسب. يقول المؤرخ وولفغانغ شوانيتسWolfgang G. Schwanitz في كتابه "الجهاد صنع في ألمانيا... النزاع حول الحرب المقدسة 1914 – 1915"، الصادر عام 2003، إن أوبنهايم هو المؤسس الحقيقي لفكرة الجهاد المقدس لصالح أجندات غربية، ولُقّب بأبي الجهاد الإسلامي وأبي الحرب الإسلامية المقدّسة. وإذا كان البريطانيون قد سبقوا الألمان في ابتكار الإسلام السياسي الموالي للغرب أو القومية العربية من أجل فصل الولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية عن باقي الولايات، إلا أن أفكار أوبنهايم طوّرت المخطط البريطاني وجعلته قابلاً للحياة حتى اليوم، بحسب شوانيتس. كتب أوبنهايم مذكرة سرية بعنوان "ثورة الأراضي الإسلامية ضد أعدائنا" تضمنت فكرة تدبير ثورة جهادية ضد الاحتلال البريطاني في مصر والسودان، والاحتلال الفرنسي في الجزائر والمغرب وتونس والاحتلال الإيطالي في ليبيا.
نشط العالم الألماني ماكس فون أوبنهايم على خط بناء إسلام موالٍ لألمانيا، وهو مَن وقف وراء شائعة تحوّل القيصر الألماني للدين الإسلامي سراً ودعمه للخلافة العثمانية وشائعة أن فرنسا تخطط لنبش قبر الرسول ونقل الحجر الأسود إلى متحف اللوفر
العالم الألماني ماكس فون أوبنهايم... من أهم مهندسي التحالف العثماني-الألماني والتقارب الألماني-الإسلامي، والمؤسس الحقيقي لفكرة الجهاد المقدس لصالح أجندات غربية
وعام 1906، اتهمته السلطات البريطانية في مصر بالعمل على تدبير مذابح جهادية ضد الأوروبيين في الولايات العثمانية المحتلة. وعشية الحرب العالمية الأولى، وافقت برلين على خطته وأسست جهاز مخابرات الشرق ومقره العاصمة الألمانية وأوكلت إليه رئاسته، من أجل إشعال ثورة جهادية في الولايات العثمانية المحتلة، وزار عدداً من الدول سراً. وفي عام 1915، وبالتنسيق مع العثمانيين، أُرسل إلى السفارة الألمانية في إسطنبول للأشراف على الخطة الإعلامية لإعلان الجهاد العثماني، وفي نفس العام التقى الأمير فيصل بن الحسين (أول ملوك العراق لاحقاً) من أجل جذبه إلى ألمانيا القيصرية ولكن لم يحدث اتفاق.

رصد البريطانيين لأوبنهايم

يشير الكولونيل البريطاني الشهير السير هنري مكماهون، في كتابه "الحرب... المحاولات الألمانية للتأثير على الشعور الاسلامي"، إلى أن أجهزة الاستخبارات البريطانية رصدت أوبنهايم يخطب في مساجد تركية ويحرّض على إبادة الأرمن المتحالفين مع أعداء الدولة العثمانية. ولكن مجهودات أوبنهايم لم تسفر عن شيء، وفشل في صناعة الثورة الإسلامية ضد الدول الأوروبية التي تحارب ألمانيا، وهُزمت برلين في الحرب العالمية الأولى، ثم قامت ثورة شعبية أسقطت الحكم الملكي وأُعلن النظام الجمهوري. غادر أوبنهايم جبهات القتال العثمانية عام 1917 عائداً إلى ألمانيا. ونظراً لقدرته الاستثنائية في الاكتشافات الأثرية، وافقت سلطات الانتداب الفرنسي على أن يستأنف العمل في الأراضي السورية حتى غادر سوريا للمرة الأخيرة عام 1929، وافتتح متحف تل حلف في برلين عام 1930. عاش أوبنهايم بقية حياته مديوناً وفقيراً، خاصة في ظل حكم النازيين، وقد دمّر القصف البريطاني متحفه ثم بيته، فانتقل للإقامة مع أخته في ولاية بافاريا حيث توفي عام 1946 بينما كانت ألمانيا ركاماً عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.

لورانس الفرس

بينما كان أوبنهايم يعمل في الشام والأناضول، كان دبلوماسي ألماني آخر ينشط في نفس الإطار، هو فيلهلم فاسموس Wilhelm Wassmuss (1880-1931)، القنصل الألماني في بوشهر الفارسية الذي تواصل مع شبكة من زعماء القبائل في فارس وأفغانستان الواقعتين تحت النفوذ البريطاني. أُطلق على فاسموس لقب "لورانس الفرس"، ويذكر الكاتب الإنكليزي كريستوفر سايكس (Christopher Sykes (1907-1986 في كتابه "فاسموس، لورانس الألماني"، أن الأخير تسبّب في متاعب جمة للبريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى، عبر تحريض العشائر على الثورة الإسلامية ونشر تكتيكات حرب العصابات بين الفرس، وأنه ذهب إلى القسطنطينية للقاء مسؤولين من الخارجية الألمانية ولما عاد كان محمّلاً بالذهب من أجل تقديمه إلى زعماء العشائر. نجح فاسموس في صناعة انتفاضة قبائل قشقاي التركمانية في مدينة فارس، وانتفاضة عشائر منطقة تنجستان الواقعة في مدينة بوشهر، وركز جهده في جنوب البلاد، ولكن أنباء الخسائر الألمانية على الجبهات الأوروبية جعلت العشائر الفارسية والأفغانية ترفض التعامل مع الألمان كونها توقعت فوز بريطانيا بالحرب. ومع رصد بريطانيا لنشاطه، وزعوا نشرة بأوصافه ورصدوا مكافأة ضخمة للقبض عليه. وبالفعل، اعتُقل في سجن محلي جنوب فارس مرتين. في المرة الأولى، نجح في الفرار ولكن في الثانية اعتُقل بين عامي 1918 و1920 في وقت كانت الحرب العالمية الأولى قد انتهت فعلياً وسيطر البريطانيون على أفغانستان وفارس (إيران حالياً). ولكن فاسموس لم ينسَ وعوده لبعض زعماء العشائر ولما عاد إلى برلين طالب الخارجية الألمانية بإعطائه الذهب لتسديد "وعود ألمانيا" إلى حلفائها الإسلاميين ولكنه فشل في إقناع النظام الجمهوري الجديد بذلك. عاد فاسموس إلى جنوب فارس مرة أخرى وابتاع مزرعة ضخمة وأقام فيها حتى عام 1931 حينما خسر المزرعة في نزاع قانوني وعاد إلى برلين وتوفي بعد ذلك ببضعة أشهر. لقّبه البريطانيون والألمان معاً بـ"لورانس الفرس" بسبب الاضطرابات التي استطاع إحداثها في إيران وأفغانستان بالتواصل مع المقاومة في كلا البلدين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard