شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
العدالة الانتقالية في دول الربيع

العدالة الانتقالية في دول الربيع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 24 مايو 201601:11 ص

بين فينة وأخرى، يُطرح مفهوم العدالة الانتقالية في الدول العربية التي شهدت انتفاضات أدت إلى تغيير في أنظمة الحكم. المشترك في الطروحات الرسمية جميعها هو تفريغ المفهوم من مضامينه، لا بل تحويره إلى درجة تثير السخرية.

مفهوم االعدالة الانتقالية هو ابن القرن العشرين، ويرتبط بتطور فهم ميكانيزمات الدمقرطة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي. وإن كانت تطبيقات هذا المفهوم تعود إلى سبعينات القرن الماضي، إلا أن التوسّع الكبير في انتشاره يعود إلى ما بعد التسعينات منه نظراً إلى التغيرات الجيوبوليتيكية التي حصلت وانعكاساتها على الأنظمة القديمة.

في تقرير صادر عن الأمين العام للأمم المتحدة، عام 2004، حول سيادة القانون والعدالة الانتقالية في المجتمعات التي تعيش نزاعاً وفي المجتمعات الخارجة من نزاع، يتم تعريف العدالة الانتقالية على أنها مفهوم يشمل "كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهّم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة". تبقى الغاية من الخطوات التي يقترح هذا المفهوم تطبيقها هي تحقيق العدالة في المجتمعات التي تمرّ بمراحل انتقالية.

في المرحلة الأولى من التغييرات التي طرأت على المشهد السياسي العربي، خرج هذا المفهوم إلى حيّز التداول العام. في تونس، زهرة الربيع الأولى، تأسست، في 24 ديسمبر 2011، "وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية". كان الأمل المعلّق على تحقيق قطيعة مع الأنظمة السياسية الديكتاتورية القديمة كبيراً. ولكن، بعد ثلاثة أعوام على بداية الحراك العربي، هبطت مؤشرات الأمل بسبب كيفية إدارة المراحل الانتقالية.

يمكن تفريع مفهوم العدالة الانتقالية إلى خمسة تدابير رئيسية: أولاً، إنشاء لجان لتقصي الحقائق تقوم بمهمّة البحث والتقصي عن طبيعة انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم التي كانت تُمارس في ظل النظام السابق وتحديد المسؤولين عنها. ثانياً، تنظيم محاكمات مدنية وجنائية ومحاسبة منتهكي حقوق الإنسان. ثالثاً، جبر الضرر، أي التعويض على الأشخاص الذين عانوا من جرّاء هذه الممارسات مادياً أو رمزياً. رابعاً، إصلاح المؤسسات الرسمية بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات. وخامساً، تخليد التغيير في الذاكرة الجماعية، من خلال خطوات رمزية الغاية منها قلب نظام القيم، قد تكون عبارة عن تشييد نصب تذكارية أو إقامة متاحف للضحايا أو إعادة تسمية الشوارع.

ليس الهدف من هذه التدابير التشفّي من كل من يمتّ بصلة إلى النظام القديم. بالعكس، الهدف هو إنجاز خطوات كفيلة بـ"علاج" المجتمع ووضعه على طريق التوحّد من جديد، لا خلق انقسامات أفقية جديدة قد تنتج عن تبادل الأدوار بين الجلاد والضحية. من هنا، مثلاً، ضرورة طمأنة الموالين للنظام السابق ممّن لم يرتكبوا الجرائم على أنهم سينالون الفرصة لإعادة الاندماج في المجتمع.

التفريع في التدابير التي تشكّل مجتمعةً مفهوم العدالة الانتقالية هو تفريع منهجي الغاية منه تبيان كيفية تطبيقه، وليست البتّة سلّة اقتراحات يمكن للنظام الجديد أن يختار منها ما يلائم مصالحه الضيّقة. وهذه التدابير لا تعمل إلا في إطار رؤية متكاملة للغايات المراد تحقيقها خلال المرحلة الانتقالية. فالهدف النهائي هو خلق مجتمع متماسك وعلاج التصدّعات الناجمة عن النزاعات القديمة. لذلك يصعب تخيّل خطة فعالة لا تكون خلاصة لمشاورات وطنية واسعة تشارك فيها كل الأطر السياسية والاجتماعية والمدنية.

رغم شيوع استخدام مصطلح العدالة الانتقالية في بداية انتفاضات "الربيع العربي" إلا أن الخطوات التنفيذية المتخذة بهذا الصدد تكاد تكون معدومة أو بلا تأثير. في تونس، أفضل دول الربيع في هذا المجال، حصل نوع من الالتفاف على التبنّي الرسمي لهذا المفهوم. يظهر ذلك من خلال مؤشرات عدّة بعضها قديم والآخر جديد. رئيس الحكومة علي العريض، قال، حين كان وزيراً للداخلية في الحكومة الأولى بعد الثورة، إن الحكومة لا تنوي فتح أرشيف الأمن السياسي. خَلَفه على رأس وزارة الداخلية، لطفي بن جدّو، اعتبر أن الخوض في الملفات القديمة سيؤدي إلى إثارة الفوضى في البلاد. حالياً، ينعكس هذا التردد في العجز عن إقرار "قانون تحصين الثورة".

في مصر، المسار أسوأ بسبب الصراع الذي نشب بين القوى التي أنجزت ثورة 25 يناير. في بلاد النيل، المؤسسة العسكرية خط أحمر. ويبدو أن خطاً مماثلاً رُسم حول جهاز الشرطة وجهاز إدارة السجون والقضاء. كل الوقائع التي تستدعي المحاسبة يتم تسويقها حالياً كوجهة نظر ويتم تبرير الانتهاكات التي حصلت في الأيام الأولى للثورة وخلال المرحلة الانتقالية الأولى (أحداث محمد محمود مثالاً) وحالياً خلال المرحلة الانتقالية الثانية. درجة إنكار الانتهاكات التي كانت تقع في عهد الرئيس السابق حسني مبارك (تخال للحظة أنه كان يمارس القمع بقلبه أو بلسانه!) تدفع المراقب إلى التساؤل: إذا كان الحال بهذا الحُسن لماذا وقعت الثورة؟!

في اليمن تشوّه هذا المفهوم وتم تحويله إلى ولّاد للصناديق. تم إنشاء صندوق للتعويض على أسر شهداء الثورة والحراك السلمي في الجنوب وسيتم إنشاء صندوق لجبر الضرر عن المظالم منذ 1994 وآخر للمبعدين عن الوظائف. بمعنى آخر، سيتم التعويض على الجاني والمجني عليه! تظنّ نفسك أمام خطة حكومية للخروج من حالة كساد!

في ليبيا، تمتزج العدالة بالانتقام. قصور النظام الجديد عن وضع خطة للتعامل مع إرث الرئيس الليبي السابق معمّر القذافي أدّى إلى حالة فوضى. تقوم الميليشيات التي أسقطت النظام باعتقالات ومحاكمات دون الاستناد إلى أي شيء غير مزاج الثوار المسلّحين. تغيب الحدود الفاصلة بين العدالة والانتقام.

هكذا يضيع مفهوم العدالة الانتقالية في زحمة تطورات "الربيع العربي" ، وهنا يجب أن ننتبه إلى الأسباب. انتفاضات الربيع لم تتطوّر لتصير ثورات بكل ما للكلمة من معاني، بل أدت إلى تغييرات في مواقع قوى الأنظمة العميقة وفي شكل ممارستها لأدوارها. بمعنى آخر، لم تنجح الانتفاضات في أكثر من إعادة هيكلة قوى السلطة أو في تغيير الوجوه الحاكمة، دون تغيير في نمط ممارسة السلطة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard