شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن حقّ طفل لا يمكنه الدفاع عن حقّه في أن لا يُولَد

عن حقّ طفل لا يمكنه الدفاع عن حقّه في أن لا يُولَد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 17 أكتوبر 201812:59 م

من أكثر الجُمل التي أتذكرها في الحديث عن مجال السياسة والقضايا الدوليّة والمعتركات الدبلوماسيّة هي ما تم وصف وعد بلفور به "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"، وفي الحقيقة فإن وعود بلفور لم تتوقف عند حد التقسيم، فلكل منا وعد بلفور خاص به، حيث يُقسّم ويحكم بما لا يملك ويُعطي ما يريد لمن لا يستحق، حتى هؤلاء الذين يقاتلون من أجل الخروج من عباءة المجتمع الضيقة، فهم غالبًا ما يفعلون هذا في نفس الوقت الذي يقومون فيه بحياكة عباءة جديدة يرتديها أحدهم دون أن يطلب، فتُصبح سجناً جديداً ولو كانت العباءة فضفاضة.

العباءة في هذا السياق هي الولادة، الحياة، المعاناة المستمرة التي تُفرض على إنسان دون أن يوافق أو يرفض أو يناقشنا في شروطها، فقط يستطيع التعايش مع قرارنا لأن لا حول له ولا قوة في مراحل اتخاذ القرار وتنفيذه بتاتًا، ووعد بلفور الجديد هو إعطاء الحق للمجتمع الذي لا يملك ذلك الحق في الموافقة على السماح لمن لا يستحق؛ وهم الأباء والأمهات بإنجاب طفل لم يكن له رأي على الرغم من أنه من المفترض أن يكون هو الطرف الأصلي الوحيد في هذا القرار، وقبل أن يمل القارئ هذا الظلام الذي وجد نفسه فيه حينما قرر الولوج إلى هذا المقال، فأنا أدعو الجميع إلى استكمال الطريق للنهاية وقد يجد أحدهم نفس الضوء الذي وجدته أنا من قبل.

وكالعادة استثنى من الحوار الطرف الأهم الأول والأخير من وجهة نظري وهو الطفل ذاته الذي يقف الجميع يتحدثون عن طُرق استقباله في الحياة بغض النظر عنه، وعن معاناته المستقبليّة المُحتملة في العالم، والأكيدة في عالمنا العربيّ.

ضد الإنجاب

ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو مقال الزميلة رشا حلوة، وعنوانهعن حق المرأة في الإنجاب بلا زواج، الذي يتمحور حول حرية المرأة في الإنجاب وحيدة بالطرق المُتاحة لها وأن تُصبح أماً دونما الحاجة إلى طرف ثالث (الرجل)، إذ قد تتحول الحياة معه إلى رميّة نرد تُصيب أو تخطئ، يُمكنك ببساطة أن تنطق بالحكم لمصلحتها ككاتبة اختارت بحرفيّة كلماتها وكمرأة دافعت بذكاء عن حقها من وجهة نظرها، ولكن المقال الذي أعجبني كثيرًا وكدت للحظات أن أنسى فيما أقرأه بأنني على كل حال ضد الإنجاب شخصيًا، تطرق إلى ثلاثة أطراف للنزاع المحموم سلفًا حول الإنجاب، وهم المرأة والرجل والمجتمع، وكالعادة استثنى من الحوار الطرف الأهم الأول والأخير من وجهة نظري وهو الطفل ذاته الذي يقف الجميع يتحدثون عن طُرق استقباله في الحياة بغض النظر عنه، وعن معاناته المستقبليّة المُحتملة في العالم، والأكيدة في عالمنا العربيّ.

الأمر غير مُعقد بالمطلق، فلو افترضنا أنه عقد، أي اتفاق، يجب على الجميع قبوله أولًا، وفي حالتنا هذه، فالطفل لا يستطيع الإدلاء برأيه بالطبع، لذا فهناك ثلاثة حلول لتجاوز هذا المأزق، الأوّل هو الإنجاب دون النظر إلى ما سوف يتحمله هذا الصغير القادم، وهو الاختيار الأكثر توافقًا بين ثنايا المجتمع، والغريب هنا أن معظمنا لا يحتاج إلى كثير من قوة الذاكرة كي يسترجع كل تلك اللحظات التي تمنى فيها لوّ لم يولد، والدلائل كثيرة بحق إذ يكفي الإشارة إلى تنامي معدلات الانتحار حتى في أعتى الدول التي يعيش قاطنوها حياة من الرفاهيّة. ولكن رغم كل ذلك، فسوف تهرع الأغلبيّة إلى تلبية حاجتها من مشاعر الأبوة والأمومة أو الدفاع عن إرادة المرأة في جعل الانجاب أسهل دون قيود.

الحل الثاني هو اعتبار عدم قدرة أحدهم على الموافقة هو الرفض، وبطبيعة الحال اعتدت أنا عند الاختيار بين (نعم ولا)، إذ لم أكن متأكدًا مئة بالمئة من الموافقة، فحينها أتخذ قراري بأن أرفض. أمّا الحل الثالث فهو توفير شرط جزائيّ آمن للطفل بإلغاء هذا الاتفاق، إذا ما أراد ذلك بعد ولادته، وأتحدث هنا عن الانتحار طوعًا بطرق سهلة، أعلم أننا ما زلنا في الظلام ولا دليل على أن الضوء الذي تحدثت عنه موجود أو يقترب على الأقل، ولكننا قد قطعنا شوطًا كبيرًا في الظلام هذا، وإذا كنت ترى بأن إجبار إنسان على القدوم في رحلة الحياة دون موافقته أمرًا مشروعًا لدرجة أن تُطالب إحداهن بجعله أقل تعقيدًا في الإجراءات، فعلى الأقل واصل رحلتك معي بالقراءة حتى النهايّة.

حينما تحدثت رشا عن الكذب على المجتمع قائلةً: "هذا خيار وارد، وتختاره نساء كثيرات للضحك على المجتمع، مثلما يخترن القيام بعمليّات تقطيب غشاء البكارة قبل زواجهن، وهو خيار شرعيّ قائم على الإدراك بأن مواجهة المجتمع/ات صعبة، وغالبًا شبه مستحيلة"، فهي شرحت ببساطة ما هي على وشك إقحام إنسان جديد فيه، مواجهات صعبة شبه مستحيلة وأزيدها من الشعر بيتًا، بأن تلك المواجهات لا تقتصر فقط على المرأة بل تطال وبقوة الرجل ما لم يكن شبهاً لمجتمعه في خيارات فرديّة كالعمل والاعتقاد وخيارات أخرى تؤثر على المرأة مباشرة كإجباره على فرض قرارات رجوليّة على آل بيته من النساء كتبها المجتمع وسيُصبح هو في مرمى الجميع، ولوّ شاء تخطيها كأن يتم وصفه بالدياثة كما نرى يوميًا، لذا يبقى الخيار الآخر، لو لم يرغب بالكذب على المجتمع، فسوف يقرر وضع زوجته وشقيقاته مثلًا في مرمى النيران بدلًا منه، ليتحملن هن مرارة العيش وفق معايير لم يقتنع هو شخصيًا بها، هل أساءت تلك الجملة الأخيرة إلى إنسانيته؟ الإجابة أنها بالتأكيد فعلت ذلك، وهنا يجب أن نستحضر الطرف الثالث "الطفل" الأهم كما سبق أن أشرت كي يدلو بدلوه، هل هو قادر على خوض تلك المواجهات وهل يريد ذلك؟ هل استبدالنا نحن به كي يواجه النيران يُسيء إلى إنسانياتنا؟ وهل يجب أن ندعم تسهيل تلك الإساءة أيضًا؟

البحث عن حلّ آخر؟

أدركت الإجابة على سؤالي الساذج آنذاك: ”ليش بتجبونا على هاد العالم؟، وهي: ”كي لا نموت وحدنا“. هكذا اختصرت رشا مُشكلتها، أو من المنصف أن نقول بأنها مُشكلة العالم أجمع، لا أحد يُريد أن يموت وحيدًا، حتى الذين يحبّون تربيّة القطط يُفزعهم ذلك المشهد التليفزيونيّ المُكرر لشخص يموت مُحاطًا بحيواناته الأليفة ولا تُكتشتف جثته إلا بعد حين لأنه عاش "وحيدًا"، وأنا لن أدعي بأن الحل الذي أنا على وشك طرحه أو نقله باعتباره قد طُرح كثيرًا من قبل هو حلّ جذريّ شامل مناسب على الدوام، ولكنه على الأقل مناسب تمامًا لهذا العصر وهذه اللحظة ونحن.

الحل هو ذاته الضوء الذي حدثتكم عنه والذي طرق بابي لأوّل مرة حينما كنت أشاهد فيلم Lion، فالقصة تدور حول طفل هنديّ لأسرة فقيرق ضلّ طريقه يومًا ما حتى أصبح من ملايين الأطفال المُشردين حول العالم، لا أهل ولا مأوى فقط خطر وخطر أكبر ورحلة يوميّة للبقاء على قيد الحياة بلا هدف أو نهاية، ولكن مستقبل هذا الطفل يتغيّر للأفضل بعدما قررت أسرة استراليّة أن تتبناه من دار الأيتام الذي احتضنه بعد انتشاله من الشارع وبعد الفشل في العثور على أهله، وكنتيجة حتميّة بعد ذلك طارد الطفل الذي صار شابًا في العشرين ماضيه بحثًا عن والدته وأخيه، وفي سياق الأحداث، وجّه الشاب حديثه إلى والدته بالتبني، والتي كانت تقوم بدورها الممثلة "نيكول كيدمان" قائلًا بأنها فعلت ذلك فقط لأنها لم تمتلك نعمة القدرة على الإنجاب، وأتى الرد مفاجئًا لي وله أيضًا إذ قالت: "من قال إنني لا أستطيع الإنجاب؟ بل أستطيع ذلك ولكني ووالدك قررنا منذ فترة بأن العالم ليس بحاجة لأطفال آخرين فيما هنالك الكثيرون من الأطفال يقتسمون المبيت في الشوارع، وينتظرون أن تقدّم لهم فرصة عادلة في الحياة". هل رأيت الحلّ الأسهل كما رأيته، وهل استطعتم تلبيّة أكثر من حاجة برميّة حجر واحدة؟ فبين التبني كحلّ لملايين الأطفال الباحثين عن حياة آمنة طبيعيّة، ولوّ قليلًا، وبين رغبة رشا وغيرها في عدم التقدم بالعمر وحيدات ووحيدين، أليس هذا الحلّ هو الأمثل مع بعض التنازل عن رغبة الحمل وقربى الدم في سبيل عدم جلب طفل جديد دون موافقته ليعاني، بل ورفع المعاناة عن طفل آخر. هل مرّ بكم شعاع الضوء الآن؟

ووعد بلفور الجديد هو إعطاء الحق للمجتمع الذي لا يملك ذلك الحق في الموافقة على السماح لمن لا يستحق؛ وهم الأباء والأمهات بإنجاب طفل لم يكن له رأي على الرغم من أنه من المفترض أن يكون هو الطرف الأصلي الوحيد في هذا القرار.
الأمر غير مُعقد بالمطلق، فلو افترضنا أنه عقد، أي اتفاق، يجب على الجميع قبوله أولًا، وفي حالتنا هذه، فالطفل لا يستطيع الإدلاء برأيه بالطبع، لذا فهناك ثلاثة حلول لتجاوز هذا المأزق، الأوّل هو الإنجاب دون النظر إلى ما سوف يتحمله هذا الصغير القادم
فالعالم يزداد وحشة وقسوة ولا يوجد إلا تفسير واحد فقط للرغبة في الإنجاب قمتِ بكتابته ولكن بكلمات أخرى قد أختصرها في "أنانيّة البشر"

أنانيّة البشر

هل ابتعدت عن سياق ما تحدثت عنه رشا حلوة؟ نعم ربما قليلًا من وجهة نظر كل من سيقرأ هذا المقال ويقارن محتواه بما كتبته، وأقول (كلّ) لأنه ليس هناك احتمال أن يكون القارئ جنيناً في رحم أمه لا يدري ما هو على وشك أن يخوضه، لربما رفع يديه تأييدًا لي وتوسل ألا تتم ولادته وهو لا يهتم بالأساس ما إذا كان اتفاق إجباره على القدوم إلى حياتنا قد تم توقيعه بإمضاء من طرف واحد أو اثنين، ولعله يأمل بأن يكون هذا القرار أصعب في اتخاذه من تلك الخطوات البسيطة التي أرادتها رشا، وأقتبس منها ما يؤكد أنها هي شخصيًا تعرف ذلك جيدًا فكتبت "ولا أعلم فعلًا إن كنت أريد أطفالًا في هذا العالم الذي يزداد وحشة وقسوة كل يوم، خاصّة تجاه الأطفال والنساء... لكن لربما هو الخوف الذي يحرّك السؤال، الخوف من أن أصل إلى جيل ما، تكون رغبتي لأن أصبح أمًّا، قد جاءت متأخرة“.

 نعم عزيزتي رشا صدقتِ في تلك الفقرة تمامًا، فالعالم يزداد وحشة وقسوة ولا يوجد إلا تفسير واحد فقط للرغبة في الإنجاب قمتِ بكتابته ولكن بكلمات أخرى قد أختصرها في "أنانيّة البشر"، أو الأفضل أن أقتبس قول الفيلسوف المُعاصر ديفيد بيناتار، وهو "إحضار أشخاص لهذا الوجود والفشل في إحضار أشخاص لهذا الوجود كلاهما يمكن الندم عليه. لكن فقط إحضار أشخاص إلى هذا الوجود يمكن الندم عليه لمصلحة الشخص نفسه الذي يعتمد وجوده المحتمل على قرارنا الشخصي".

في النهاية يظهر جليًا أن اعتراضي على ما أدعته زميلتي العزيزة في حقها كامرأة في الإنجاب وحدها دون الحاجة إلى الرجل لا يمت بصلة إلى تلك الأسباب المُجتمعيّة المُعتادة، ولكن هو اعتراض على تسهيل ما أراه من وجهة نظري "جريمة" في حق شخص لا يُمكنه الدافع عن حقوقه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard