شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الأصل في الإنسان الاستسلام للمشاعر.. ولكنه اكتسب التفكير العقلاني المنطقي

الأصل في الإنسان الاستسلام للمشاعر.. ولكنه اكتسب التفكير العقلاني المنطقي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 16 أكتوبر 201805:08 م
قديماً تحدث جوبتير ملك الآلهة الرومانية عن صراع العاطفة والمنطق، ورصد الصراع بينهما، وفقاً للتقسيم التقليدي الشائع (القلب والعقل)، على أساس أن القلب مصدر المشاعر والعواطف -اعتقاد أثبت العلم الحديث خطأه- وأن المخ هو مصدر الحكمة. وقال جوبتير إن العاطفة أقوى من العقل بنسبة "1 إلى 24"، باعتبار أن العقل يجلس وحيدا في الدماغ بعيداً عن الجسم، بينما يسيطر القلب على كامل الجسم، لأنه أقرب إلى هذا الجسم، ويقع في صدره. وبسبب هذا البعد يمارس العقل النصح من منطلق منطقي، ويصرخ في الإنسان الذي تسيطر عليه قوى الاستبدادوالعنف والغضب والشهوة، وفي الأغلب ينهزم العقل في النهاية أمام القلب، بحسب ما ذكر الفيلسوف الهولندي "دسيدريوس إراسموس -Desiderius Erasmus". وحديثاً توصل العلماء إلى أن للإنسان عقلين، أحدهما منطقي والآخر عاطفي، عقل يفكر وآخر يشعر، ويتفاعلان لبناء نظامنا العقلي المعرفي. via GIPHY كيف يتفاعل العقلان؟ وكيف ينسجمان وتنجح العاطفة في بناء معارف منطقية، وعلى العكس ينجح المنطق في بناء مشاعر عاطفية؟ وكيف يتنافران وينتجان إنساناً مأزوماً أو ينتصر أحدهما على الآخر؟ ومن الذي ينتصر في الأغلب؟

الفكر يتغذى على المشاعر ثم يعيد إنتاجها

أقر العلم الحديث هذا الصراع، لكنه استعاض عن القلب (وفقاً لمنطق جوبتير الذي اعتنقه دسيدريوس إراسموس) بالجهاز العصبي، واعتبر أن المخ ينقسم إلى جزئين، أحدهما يمثل المنطق، والآخر يمثل العاطفة، وأصبحا بمثابة عقلين يتفاعلان فيما بينهما لبناء حياتنا، بحسب ما ذكر أستاذ علم النفس الأمريكي دانييل جولمان، في كتابه "الذكاء العاطفي". فعن طريق العقل المنطقي، نستوعب الأشياء الواضحة في وعينا، وما نحتاج إلى التفكير فيها بعمق وتأمل... وإلى جانب هذا، لدينا نظام معرفي آخر، قوي ومندفع وأحياناً غير منطقي، وهو الذي يتحكم به العقل العاطفي. وكلما كانت المشاعر أكثر حدة زادت أهمية العقل العاطفي، وأصبح العقل المنطقي أقل فاعلية، والعكس.
جانب عاطفي وآخر منطقي في عقولنا، يتصارعان باستمرار في جميع الأوقات، ولكن تفضيلات 80% من الناس تذهب إلى عواطفهم لا إلى ما يحتمه المنطق.
قال جوبتير إن العاطفة أقوى من العقل باعتبار أن العقل يجلس وحيدا في الدماغ بعيداً عن الجسم، بينما يسيطر القلب على كامل الجسم، لأنه أقرب إلى هذا الجسم، ويقع في صدره.
هذان العقلان يعملان في انسجام، بتضافر نظاميهما اﻟﻤﺨتلفين؛ فالعاطفة تغذي عمليات العقل المنطقي بالمعلومات، ومن ثم يعمل العقل المنطقي على تحليلها، ويعيد تصديرها إلى العقل العاطفي بشكل جديد. وفي أوقات ينسجم العقل المنطقي مع تلك العاطفة، وأوقات يعترض عليها. وفي كل الأحوال فإن المشاعر ضرورية للتفكير، والتفكير مهم للمشاعر، يقول جولمان. فهذه فتاة قابلت شاباً جميلاً، عيناه ساحرتان، ملامحه دقيقة، قوامه ممشوق، وخفيف الظل.. فقالت لنفسها: "ما المانع أن يكون هو الرجل الذي يحافظ عليّ ويضمن لي حياة سعيدة؟ فترحب بإنشاء علاقة به". هذا مثال على استجابة عاطفية أدت إلى رغبة منطقية عقلانية. via GIPHY وقابلت فتاة أخرى شاباً ليس بجميل، يمازحها وشعرت أنه يريد الارتباط بها، فشعرت بشيء من النفور تجاهه. ولكن في مرة أخرى عرض عليها الارتباط بشكل جاد، وشرح لها ما يملكه من المقومات وما حققه من إنجازات، وأشياء تبشر بعيش سعيد معه. هنا انتبهت إلى أن شكله ليس سيئاً على الإطلاق، بل التفتت إلى أن عينيه عسليتان، وإلى أن جسده يوحي برجولة، وإلى أنه خفيف الظل... فيا لها من أشياء لم تكن تلحظها من قبل. وهذا مثال على حكم منطقي عقلاني فتح الباب للعواطف.

من العواطف نشأ التفكير

ينتصر جولمان للعواطف، ويؤكد أنها مسألة راسخة سابقة على التفكير؛ فالأصل في الإنسان الاستسلام للمشاعر، ولكنه مع الوقت والتطور اكتسب التفكير العقلاني المنطقي.
للإنسان عقلين، أحدهما منطقي والآخر عاطفي، عقل يفكر وآخر يشعر، ويتفاعلان لبناء نظامنا العقلي المعرفي
واستعان جولمان بما توصلت إليه دراسات التطور الإنساني، التي كشفت أن العقل المنطقي نشأ من العقل العاطفي وانبثق عنه؛ فحجم مخ الإنسان الحالي يعادل 3 أضعاف حجم مخ أقرب النسخ البشرية القريبة من جنسنا (Homo sapiens) الحالي. وبينت أن أقدم أجزاء المخ في النشأة، هو "جذع الدماغ" المحيط بقمة الحبل الشوكي -الممتد من الظهر إلى الرقبة إلى الدماغ-، وهذا الجزء مشترك بين جميع أنواع جنسنا البشري منذ بداية وجودنا إلى الآن. هذا الجزء القاعدي (جذع الدماغ) ينظم وظائف الحياة الأساسية، مثل التنفس والتمثيل الغذائي، والأهم أنه يتحكم في ردود الفعل والحركات النمطية، وهي الأشياء التي تُبقي على الإنسان حياً، وهي تلك الأشياء التي كان يحتاج إليها الإنسان البدائي بشكل يفوقنا الآن بكثير. بعد ذلك بأزمنة، نشأت من هذا الجذع مراكز المشاعر، وتلاها بأزمنة نشوء العقل المفكر، أو القشرة الدماغية الجديدة "NEOCORTEX". هذه القشرة الجديدة هي الشكل الموجود في مخيلتنا جميعاً عن المخ، وهو الانتفاخ البصلي المكون من لفائف نسيجية تشكل الطبقات العليا من المخ. [caption id="attachment_167269" align="alignnone" width="700"]Gray754 NEOCORTEX[/caption] القشرة الجديدة تمثل مركز التفكير؛ فهي ترتب وتنظم ما يأتيها من الحواس (العين والأذن... إلخ)، ثم تضيف إلى هذا الشعور أفكاراً مُحلّلة مُمنطقة، وتعيد تصديره إلى المخ العاطفي، فتصبح المشاعر والأفكار كياناً واحداً، ويصير حكمنا العاطفي مدعوماً بأدلة منطقية، وبالعكس يصبح اتجاهنا المنطقي مقروناً بمشاعر عاطفية، بحسب جولمان.

كيف يعمل العقلان معا؟

كان أحمد وزملاؤه يستقبلون ياسمين زميلتهم الجديدة في العمل. هي جميلة الشكل، رقيقة وخفيفة الظل. خطفته وجعلته يفكر فيها كأنثى يتمنى لو أنشأ علاقة عاطفية معها. via GIPHY ولكنها في نفس الوقت مثقفة لبقة... وقف يتابع حديثاً بينها وبين زملاء حول أمر جاد فانبهر أيضاً بنضوج عقلها، وقوة شخصيتها. هنا حار أحمد بين عقله العاطفي وعقله المنطقي. هل يحدثها كأنثى جميلة أم كإنسانة قوية مثقفة. لم يستطع كبح جماح نفسه كرجل، وفي أول حديث جانبي معها قال لها في مغازلة "عينيكي حلوة"، فنَظَرت إليه بحِدة، فتراجع عن جرأته، ورد بسرعة ودون تردد أو تفكير:"لكن خبرتك كبيرة في...". خلال هذا الموقف، عمل العقلان عند أحمد في آن واحد، فكيف حدث ذلك؟ أسفل القشرة المخية، هناك تجويف بداخله ما يعرف بالنتوء اللوزي أو "أميجدالا – Amygdala"، الذي يعمل كمركز لتخزين العواطف، أو كذاكرة للعواطف، إذا فقدها المخ فقد الإنسان القدرة على التواصل مع الآخرين، رغم قدرته على إجراء حوارات متزنة معهم، إلا أنه يقف لامبالياً أمام الكوارث والأفراح، يفقد كذلك حبه وكرهه لمن حوله، أي يصبح بلا مشاعر. [caption id="attachment_167271" align="alignnone" width="700"]MRI_Location_Amygdala_up Amygdala[/caption] واكتشف عالم الأعصاب الأمريكي "جوزيف لو دو-Joseph Le Doux"، أن لهذا الجزء من المخ دوراً متداخلاً مع القشرة المخية (العقل المفكر)، بحسب ما توصل إليه في كتابه " العقل العاطفي: الأسس الغامضة للحياة العاطفية-The Emotional Brain: The Mysterious Underpinnings of Emotional Life". [caption id="attachment_167267" align="alignnone" width="700"]Brain_chrischan_thalamus Thalamus[/caption] فالمسألة تبدأ بإشارة من مراكز الإحساس، كالعين أو الأذن، وتسير أولاً في المخ متجهة إلى "المهاد- "Thalamus، الذي يعمل كمحطة وسيطة في الدماغ، ومنه تسير إشارة إلى أميجدالا (مركز العواطف)، وإشارة أخرى إلى القشرة المخية (العقل المنطقي)، وقد يستجيب أميجدالا للإشارة أولاً فيتحكم في العملية المعرفية، ويعيد إرسالها إلى القشرة المخية كعاطفة أو رغبة، أو قد تستجيب القشرة المخية أولاً فيتحكم العقل المنطقي، وترسل الإشارة لأميجدالا كفكرة منطقية.

العاطفة أم المنطق... من يسبق الآخر؟

غالبا يبدأ أميجدالا في الاستجابة، لأن العواطف عند أغلب الناس مقدمة على المنطق أو تغلبه، ولكن عند البعض تستجيب القشرة المخية وتعلو، بحسب طبيعة الشخص وطبيعة الإشارة التي تلتقطها الحواس؛ فالتقاط العين إشارة حول سيدة جميلة، تختلف عن إشارة تقول إن هذه السيدة مثقفة.
إن الفكرة يجب أن لا تنقصها حرارة الرغبة، كما أن الرغبة يجب أن لا ينقصها ضوء الفكرة
ولكن في كل الأحوال تستغرق القشرة المخية وقتاً في استيعاب الإشارة لطبيعتها المفكرة، أكثر من أميجدالا الذي يتفاعل بشكل أسرع لطبيعته التلقائية، بحسب جوزيف لو دو. ويدعم هذا الاتجاه كثيرون، منهم خبير التنمية البشرية "مايكل ليفين- Michael Levine"، الذي يملك واحدة من أشهر شركات العلاقات العامة في الولايات المتحدة (Levine Communications Office)، إذ كتب مقالا علميا بدورية psychology today، أكد فيه وجود جانب عاطفي وآخر منطقي في عقولنا، يتصارعان باستمرار في جميع الأوقات، ولكن تفضيلات 80% من الناس تذهب إلى عواطفهم لا إلى ما يحتمه المنطق.

أفضل العواطف وأفضل الأفكار

أفضل العواطف هي التي يدعمها المنطق، وأجمل المنطق هو المصحوب بشغف العاطفة، وهذا التكامل يؤدي إلى المثالية، كما يرى الفيلسوف الهولندي باروخ سيبنوزا، الذي يقول: إن الفكرة يجب أن لا تنقصها حرارة الرغبة، كما أن الرغبة يجب أن لا ينقصها ضوء الفكرة؛ لأن العاطفة لا تظل عاطفة إذا ما تكونت عنها فكرة واضحة جلية. أي كلما استطاع العقل أن يحول ما فيه من عواطف إلى أفكار، صار أقوى وأبعد من أن تؤثر عليه العواطف الجامحة، وكلما أحب العقل فكرته زاد يقينه بها وشغفه لتحقيقها، بحسب ما جاء عن سبينوزا في كتاب " باروخ سبينوزا - فيلسوف المنطق الجديد" لكامل محمد محمد عويضة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard