مبدعو الأمس على مواقع التواصل الاجتماعي
الخميس 30 أغسطس 201801:43 ص
لماذا نفكر فجأةً في غلق "فيسبوك" أو حذف "تويتر" لفترةٍ ما؟ هل هو توفير الوقت ومحاولة التركيز في عملنا، أم الشعور بعدم الجدوى وصعوبة الانتماء لتلك المواقع؟ وهل فعلاً يُشعرُنا تجاهلها بالراحة والسيطرة على مجريات الأمور؟
في كتابها "أساتذة اليأس.. النزعة العدمية في الأدب الأوروبي" تقول نانسي هانسن إنه مع تطور الفكر الأوروبي، كان الطوباويون يرون أنه إذا قيّض للمرء أن يكون مثقفاً فعليه أن يسخّر ذلك في خدمة الثورة، في حين رأى العدميون أنه إذا كانت كل أفعال الإنسان عبثيةً ومحكومةً بالفشل فإنه من الأفضل له الانتحار على الفور، وإلّا فالحلُّ هو اللجوء "للكتابة"، إذ كانت الكتابة وحدها بديلاً للموت.
لكن هذا الانتماء الذي نستشعره عندما نكتب، بحسب العدميين، مع سيولته الكبيرة تحوّل إلى شيءٍ آخر، ففي روسيا خلال القرن الـ19 لم تكن العدمية تشير إلى هؤلاء الذين ما عادوا يكترثون لشيء، بل إلى الراديكاليين الذين كانت عقيدتهم تتمثل في سؤال "ما العمل؟"
كان رأيهم أن تلك السيولة لا جدوى منها أيضاً، ما يتشابه مع ما تفعله مواقع التواصل الاجتماعي الآن، بما تحويه من سيولة كتابية ربما هي سببُ انهيار المعنى حسب كتّابٍ وشعراءَ استطلعنا آراءهم.
أو بتعبير لوغستروب فإنه خلال مواقع التواصل "ينحصر الاتصال في محاولة الإرضاء والثناء المتبادل". إذًا، نحن ننتمي إلى التحدث في ذاته، لا إلى ما يجري الحديث عنه.
لو كانت مشاعية الكتابة وعدم جدواها على مواقع التواصل سبباً يدعو الكتّاب والشعراء الحاليين إلى غلقها أو استخدامها بشراهة، فذلك يدعونا للتفكير فيما كان سيفعله كتّابٌ وشعراء سابقون، عاشوا قبل اختراع تلك الوسائل.
في هذا التقرير نطرح هذا السؤال على كتّابٍ وشعراءَ عاصروا تلك المواقع، كما نحاول تخمين قصةٍ متخَيلَة عن بعض الراحلين منهم، عبر البحث في طبيعة حياتهم وكتاباتهم، كيف كانوا سيتعاملون مع هذه المواقع؟
استخدم حقي كتاباته باعتبارها أسئلةً غير منتهيةٍ حول مشكلاته الشخصية مع العالم وكيفية سريانه، وهو ما كان سيتناسب مع طبيعة التعامل مع فيسبوك أو تويتر، أي طرحُ خواطرنا وكتابتها سريعاً، خصوصاً في حالة حقي الذي امتُدحت بساطة كتاباته كثيراً.
يحيى حقي ذو الأصول التركية، ولد عام 1905 في قلب القاهرة الشعبية، وسط أسرةٍ تعرف الكتابة والقراءة، الأمر الذي كان نادراً وقتها.
نشأته في محيطٍ على قدر كبير من العلم أكسبته حكاياتٍ وأسئلةً شخصية حاولَ الإجابة عنها خلال قصصه ورواياته، إلى جانب تنقُله بين العديد من الوظائف والأماكن في مصر والذي ربما كثّف أسئلته وجعله أكثر تعجّلاً في الحصول على أجوبة. أي طرحها بأبسط صورة.
أيضاً كتب حقي كثيراً حول فترة إقامته في بلاد أجداده تركيا، ولم يترك موقفاً عايشه خلال تنقله لم يتخلل كتاباته، سواء بشكل مباشرة أو بترميز أدبي ما.
كلُّ ذلك ملأَ مشوارَه بحيواتٍ كثيرة، تخللتْ كتاباته. ربما لو تواجد حقي بيننا على مواقع التواصل لم يكن ليتركها قبل أن يحكيَ عن مغامراته وتفاصيلها، يخوض نقاشاتٍ عديدةً مع الجميع حول أفكاره وأزماته، متجنباً الدخول في صراعاتٍ مع الآخرين بسبب تلك الآراء.
لو امتلك نجيب سرور حساباً على مواقع التواصل الاجتماعي لكان ثورياً عنيفاً من خلاله، كثير الحديث والجدال، يحاول تأكيد ما يؤمن به بشتّى الطرق
لكن هذا الانتماء الذي نستشعره عندما نكتب، بحسب العدميين، مع سيولته الكبيرة تحوّل إلى شيءٍ آخر، ففي روسيا خلال القرن الـ19 لم تكن العدمية تشير إلى هؤلاء الذين ما عادوا يكترثون لشيء، بل إلى الراديكاليين الذين كانت عقيدتهم تتمثل في سؤال "ما العمل؟"
كان رأيهم أن تلك السيولة لا جدوى منها أيضاً، ما يتشابه مع ما تفعله مواقع التواصل الاجتماعي الآن، بما تحويه من سيولة كتابية ربما هي سببُ انهيار المعنى حسب كتّابٍ وشعراءَ استطلعنا آراءهم.
أو بتعبير لوغستروب فإنه خلال مواقع التواصل "ينحصر الاتصال في محاولة الإرضاء والثناء المتبادل". إذًا، نحن ننتمي إلى التحدث في ذاته، لا إلى ما يجري الحديث عنه.
لو كانت مشاعية الكتابة وعدم جدواها على مواقع التواصل سبباً يدعو الكتّاب والشعراء الحاليين إلى غلقها أو استخدامها بشراهة، فذلك يدعونا للتفكير فيما كان سيفعله كتّابٌ وشعراء سابقون، عاشوا قبل اختراع تلك الوسائل.
في هذا التقرير نطرح هذا السؤال على كتّابٍ وشعراءَ عاصروا تلك المواقع، كما نحاول تخمين قصةٍ متخَيلَة عن بعض الراحلين منهم، عبر البحث في طبيعة حياتهم وكتاباتهم، كيف كانوا سيتعاملون مع هذه المواقع؟
أدباء معاصرون.. لو كانت ذاكرة فيسبوك أطول
تقول الشاعرة ديمة محمود لرصيف 22 إن فكرة التجمعات لا تروقها كذلك الكيانات الكبيرة التي وإن بدأت في نورٍ ستدلف إلى عتمة المكان والزمان والحواس والذاكرة وحتى الصيرورة، مشيرةً إلى خوفها من فكرة الاستدعاء والتداعي والتكتلات والألوان الواحدة وإغراءاتُ الشهرة وغوايات المصالح وكل ما يرتبط ويتناسل ويتقاطع مع هذه القيم. إلَّا أنَّ استخدامها الحالي لوسائل التواصل الاجتماعي يقتصر على فيسبوك "ليس تفضيلاً له، لكن كنوعٍ من التحديد والحصر والاكتفاء". مع ذلك تجرّب عمداً الانقطاع عنه لفتراتٍ تترواحُ من شهر إلى ثلاثة، ما يشعرها بفرقٍ كبير في صفائها الذهني ويؤمّن هدنةً ووقتاً أوفر للقراءة والكتابة، بحسب قولها. وتوضّح محمود أننا "نحتاجُ جميعاً إلى العزلة وسماعِ صوت الذات والنأي عن آلة المؤثرات الجمعية الملحّة التي تحفر بلا هوادةٍ ودون اختيار".ماذا كان سيفعل أدباءُ سابقون، عاشوا قبل اختراع تلك الوسائل، لو امتلكوا حساباتٍ على توتير أو فيسبوك؟
"أتمنى لو كانت ذاكرة فيسبوك أطول قليلاً، لو حُفظ كلُّ ما نكتبه في مكان ما وأمكن للباحثين والأدباء الرجوع إليه بعد 500 عام مثلاً"فيما يتعلق بالنص الشعري، فإنها تعتقد أن لوسائل التواصل جانبين متناقضين متلازمين، واحدٌ إيجابي يرتبط بإتاحة فرصة الكتابة والنشر للجميع، ما أظهر مواهب كثيرةً، وعرّف بقدراتٍ مخبوءة، وأصوات من دول أخرى لم يكن لها الظهور لولا وسائل التواصل. الجانب السلبي بحسب الشاعرة المصرية هو إفراز ظاهرة الكتابة العشوائية والتافهة والسطحية وإدراجها تحت مسميات الشعر رغم أنها لا تعدو كونها خواطر. كما تعرفنا صفحات التواصل بأصوات مبدعة وقديرة، علينا ألّا ننفي أنها أيضا تصنع نجوماً من هلام وتساهم فئةٌ من النقاد والشعراء والصحفيين في الترويج لهم عبر المواقع والصحف والمدونات. تقول "أرى أن من حق الجميع التعبير بفعل الكتابة ولن تخلد إلا الكتابة الحقيقية والنصوص الشعرية الجيدة، وسينظف الشعر نفسه بنفسه مع الوقت، فذلك من مصلحة الشعر". الروائي والكاتب نائل الطوخي يرى أن البعضَ يقارن بين الفنون على أساس قصر أو طول ذاكرتها، فيقال إن السينما ذاكرتها أطول من التليفزيون مثلًا، لذلك يعتقد أن أقصر الفنون الكتابية ذاكرةً هي كتابة "منشور فيسبوك"، حتى مقارنةً بالمقال الصحفي، ولو كانت أهمَّ المنشورات وأجملها. ويوضّح أن الكاتب يتعلم شيئاً عن العالم من خلال تلك المواقع خصوصاً لو عرفَ أكثر من لغة ولديه أصدقاء يتكلمون بلغاتٍ أخرى "هنا فعلًا ينفتح العالم، إذ تقدّم وسائل التواصل الاجتماعي ما يزيد عمَّا تأتي به مواقع الانترنت الإخبارية والأدبية، تقدم شيئاً عن تفاهة البشر، عن أسئلتهم الحائرة المؤقتة التي لا تدوم طويلاً، عن الخواطر العابرة التي تُنسى سريعاً، بكلمات أوضح: عن البشر العاديين الذين لم يهتمَّ أحدٌ بتسجيل وقائعهم وهواجسهم" وهو ما استفاد منه الطوخي خلال رواياته. يختم حديثه لرصيف 22 قائلاً "لو كانت وسائل التواصل الاجتماعي في العصور القديمة، كنا لنجد مدخلاً إلى أشكال الحياة هناك. فقط أتمنى لو كانت ذاكرة فيسبوك أطول قليلاً، لو حُفظ كلُّ ما نكتبه في مكان ما وأمكن للباحثين والأدباء الرجوع إليه بعد 500 عام مثلاً". ثمة حدٌّ فاصلٌ نريد تخطّيه بمحاولةِ تخمين كيف كان سيتعامل كتّابٌ وشعراءُ قدامى مع مواقع التوصل.
يحيى حقي.. أون لاين دائماً
في كتاب ميريام كوك "يحيى حقي.. تشريح مفكر مصري" ترجمه الناقد خيري دومة، تقول الباحثة إن رواية الكاتب "قنديل أم هاشم" قد تُستخدم كسيرةٍ ذاتية له، إلى جانب كتاب "خليها على الله" الذي أعلن حقي بوضوح أنه سيرةٌ ذاتية. أنكر رشاد رشدي عليها أن تصنِّف كتاباتِ حقي كقصة. ربما كان حقي يريد الحديث عن هواجسه ومشكلاته الشخصية أكثر من اعتباره قاص.