شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
طفل الرواق الأزرق: صديقي الصغير الذي قتله السرطان 2

طفل الرواق الأزرق: صديقي الصغير الذي قتله السرطان 2

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 8 أغسطس 201803:36 م

ملاحظة قبل القراءة: أسماء الشخصيات هي أسماء رمزية وليست أسماء الأشخاص الحقيقية. أحتفظ بالأسماء الحقيقية لأن أخلاق العمل الصحفي تمنع نشر معلومات شخصية عن الملفات الطبية.

يشير القانون إلى أن نشر التفاصيل يتم بعد مئة عام من تاريخ ميلاد الشخص. 2 ليس كل الأطفال الذين رأيتهم شعرهم مفقود، البعض منهم فقط، خاصة أولئك الذين أجروا عمليات جراحية مؤخرا بعد أن تعرضوا لجلسات علاجية كيميائية. مشيت قليلا داخل البهو ليعترضني صوت رضع لا ينقطعون عن البكاء.. كان بكاء كثيفا ومسترسلا وعاليا، وقد جذب انتباهي أحد الممرضين أو الأطباء الذين يقفون وسط قاعة للرضع وهو يبحث عن شيء ما داخل هاتفه الجوال. تجاوزت قسم الرضع بأن فتحت النصف الأيسر من باب أزرق سماوي عريض جدا، تجاوزت الباب ودخلت جزءًا آخر من الممر له روح خاصة وأكثر برودة... كان صديقي السيف البتار يقوم بعملية مناورة بسيفه، وهو عبارة عن عصى بلاستيكية خفيفة بيضاء اللون جعلها سيفا له، يرفعه إلى الأعلى بيمناه ويطلق ساقيه للريح وهو يجوب غرف الرواق. لم يكن يرفع صوته ولم يصرخ ومن النادر سماعه يضحك بقهقهة.. لقد كان السيف البتار يعرف جيدا قوانين هذا المكان الكئيب والصامت والبارد. وبينما كنت أتقدم في الممر، قطع السيف البتار عليّ الطريق وهو يجري بسرعة، وعندما أحس أنني غريب عن المكان قام باصطناع صوت فرامل السيارة كالذي نسمعه في الأفلام. قام بالمشي إلى الوراء خطوتين ثم استدار ونظر في عيناي وقال "عسلامة. تفكرس على الطبيبة؟ مشات تحط في الزريقة لـ"توليب".. إيجا نهزك". لم أفكر من قبل في الحديث إلى طبيب في هذا المكان. كنت مركزا على الملاحظة بدقة فقط، لكن لا بأس ما دام مقترح هذا الصغير مفيدا لم لا نلتقي مع الطبيبة. قادني صديقي الصغير الجديد السيف البتار إلى غرفة يقيم فيها أطفال يتراوح سنهم على الأرجح بين 6 سنوات و12 سنة. أدخلني السيف حاملا عصاه البيضاء نافخا صدره كأنه يقود الجيش العرمرم. كنت وراءه غير قادر على كتمان ضحكتي لكن رهبة المكان تفقدني نصف انتشائي بهذا الصغير المتقد بالطاقة والحياة وكلما تقدمنا نحو الطبيبة كلما زاد انتفاخ صدره وعنفوانه وقد كان ذلك ظاهرا في خطواته الملتوية. نظرت إليّ الطبيبة واسمها "مارغيريتا بارودي" مبتسمة بخجل خفيف وقالت له: "صبحت عامل جو إنت.. بش اتعبني معاك"، وقد أنهت لتوها حقن أحد الأطفال.

لم يكن صديقي الصغير الجديد السيف البتار يرفع صوته ولم يصرخ ومن النادر سماعه يضحك بقهقهة.. لقد كان يعرف جيدا قوانين هذا المكان الكئيب والصامت والبارد.
نظرت إليّ بأعين غائرة خلف نظاراتها وقالت "ملازمش يغيب على عيني برشة.. تاعب برشة مسكين"... وكانت تقصد صديقي الصغير السيف البتار.
ألقت السيدة مارغريتا الحقنة البلاستيكية في كيس مخصص للحقن، واستدارت بشكل خفيف نحوي تنظر إليّ كأننا نعرف بعضنا البعض منذ زمن، ابتسمت بهدوء متناسب مع طبيعة الغرفة وقالت "مرحبا، نعاونك؟". كنت مرتبكا لأن لي رأيا مسبقا عن الأطباء وشدة ميلهم إلى التكتم الشديد حول الحالات المرضية التي يعالجونها، وقد كانت لي مغامرات في هذا المضمار كصحفي. أردت أن أستفرد بها لأحدثها عن طبيعة قدومي إلى هذا المكان، وكان لي ذلك. حيث قلت لها بعيني أن المكان ربما لن يسع ما سأرويه لك. قادتني المرأة الثلاثينية الهادئة إلى مكتبها، حيث كانت طبيبة أخرى شابة تجري تربصها الأخير لتصبح طبيبة مقيمة، واسمها "ماريا فيتوريا". جلست مارغريتا بارودي على حافة طاولة مكتبها، بينما جلست أنا على كرسيها. كان أبيضا.. في لون المكتب، وهو ذات لون المنديل الذي كانت تلبسه. عرفت أنها طبيبة من السماعات التي تضعها على عنقها والشارة الحمراء على منديلها التي كتب عليها "طبيب". أعرف هذه القواعد منذ أن كنت أذهب إلى أمي في المستشفى، فقد كانت ممرضة هي أيضا. كانت ملامح مارغريتا هادئة وسلسة وكانت سمراء وتضع أحمر شفاه داكن وبعض الـ"ماسكارا" على عينها تعلوه رسمة بـ"آي لاينر" تحبذها جل النساء. شعرها بني داكن أيضا وعيناها متسعتان كما أغلب الأطباء وفيها لمعة متأتية من طول مطالعة كتب الطب مع نعاس طفيف نتيجة التعب. ومقارنة بالطول المعتاد للنساء كانت مارغريتا ذات قامة طويلة. سألتني عن اسمي فأجبتها، وأضفت مهنتي، وقلت بتردد خفي "أعمل صحفيا.. أنا صحفي"، وانتظرت ردة فعل ممتعضة. لكن عكس المتوقع، ابتسمت مارغريتا وقالت "يا مرحبا.. حاجة باهية يجينا صحفي للبلاصة هذي". بعد أن اطمأن قلبي إلى هذه الإجابة صارحتها بأن علاقتي دوما بالأطباء متعبة، كأنني سأكسب ثقة بنت قررت الزواج بها. ضحكت وقالت "بالعكس، فرحت كي قتلي صحفي.. تي مالأول ظاهر من عينيك، تفركس في حاجة أخرى موش في دوا وإلا بش تسأل على مريض".. كانت ذكية جدا وعاطفية، غير أن الطب صقل قلبها. أردت أن يكون حواري معها عفويا ودون لائحة الأسئلة الجاهزة مسبقا، رغم أن الخطة "ب" التي أحملها كانت تتضمن أسئلة موجهة لطبيب. سألتها عن أحوالها فقالت "لباس.. أما مك تعرف الطبيب في تونس.." سكتت برهة ثم أضافت "السرفيس هذا بالذات يتعب أكثر من غيرو". في تلك اللحظة أيقنتُ أنها بدأت تتجه نحو المطلوب. سألتها "لماذا هو متعب؟"، فقامت من مكانها وفتحت الباب ودعتني إلى أن أقف بجانبها وحينها قالت "شفتو الصغرون اللي جابك هازز عصى بيضا؟". أومأتُ برأسي مؤكدا أنه ضمن مجال بصري، ثم نظرت إليّ بأعين غائرة خلف نظاراتها وقالت "ملازمش يغيب على عيني برشة.. تاعب برشة مسكين"... وكانت تقصد صديقي الصغير السيف البتار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard