شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"شكسبير العرب"... قصة البريطاني الذي قاد جيش آل سعود حتى الموت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 3 أغسطس 201806:54 م

مع انتصاف القرن التاسع عشر، بدأت أوروبا سراً تناقش التفاصيل النهائية لتقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية، أو رجل الشرق العجوز كما أطلقوا عليها وقتذاك. وكانت فكرة صناعة إسلام سياسي موالٍ للغرب من أهم الأفكار التي نوقشت في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. ودعمت كل دولة من الدول الغربية نسخة خاصة بها من الإسلام السياسي، وإنْ كانت بريطانيا أكثر مهارة من غيرها حينما رأت أن الإسلام السياسي والقومية العربية يمكن أن يُستخدما معاً في اللعبة ذاتها، فدعمت الحركات الإسلامية والعربية في الولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية. ورغم العلاقات البريطانية القوية مع الأسرة السعودية، منذ أيام الإمارة السعودية الأولى في القرن الثامن عشر، وقع خلاف بين السياسيين البريطانيين عشية الحرب العالمية الأولى حول القيادة التي سيتم دعمها لصناعة ما سمّته كتب التاريخ "الثورة العربية الكبرى"، وهي ثورة صنعتها ودعمتها بريطانيا بالرجال والسلاح والجواسيس والمستشارين العسكريين واندلعت في 10 يونيو 1916 في الحجاز ثم امتدت إلى سائر أرجاء الجزيرة العربية وبلاد الشام. ويعود سبب الانقسام البريطاني إلى اتساع الإمبراطورية البريطانية ووجود ثلاثة مكاتب استخباراتية كبرى داخل الإمبراطورية: مخابرات الهند ومخابرات القاهرة ومخابرات لندن. وكانت مخابرات الهند ترى أن حاكم الإمارة السعودية الثالثة عبد العزيز آل سعود هو أفضل مَن يمكن أن يقود الثورة العربية، بينما رأت مخابرات القاهرة، على ضوء مراسلات الحسين-مكماهون، أن حاكم الحجاز الحسين بن علي هو الأفضل، خاصة أن كونه هاشمياً يعطيه ثقلاً إسلامياً، كما أن تحوّل الحجاز إلى عاصمة للثورة العربية يعطيها نكهة إسلامية. وبالفعل، فإن المكانة الإسلامية الرفيعة للحجاز جعلت غير العرب يشاركون في الثورة العربية الكبرى، فقد نقلت بريطانيا المئات من مسلمي شبه الجزيرة الهندية إلى شبه الجزيرة العربية للمشاركة في "الجهاد" ضد العثمانيين، بحسب ما يذكره الكاتب البريطاني مايكل آشر في كتابه "لورنس... ملك العرب غير المتوّج". وقبل أن تحسم لندن الصراع بين الهند والقاهرة، عبر الاستقرار على رأي القاهرة في التعاون مع الشريف الحسين بتزكية من لورانس العرب، كان هنالك ضابط آخر أشد حنكة وشراسة من لورانس قد اكتسب سمعة كبرى في الجزيرة العربية، ولولا أنه لقي حتفه في إحدى المعارك الحربية لما كانت أسطورة لورانس العرب لتصعد ربما. إنه الكابتن شكسبير.

"شكسبير العرب"

بحسب دراسة نشرتها جامعة أكسفورد للباحث بيتر سلاغليتPeter Sluglett، وُلد ويليام هنري إيرفين شكسبيرWilliam Henry Irvine Shakespear، أو "شكسبير العرب" كما أسماه البعض، في 29 أكتوبر من عام 1878 في مدينة بومباي الهندية، حيث كانت تعمل أسرته ضمن صفوف الاحتلال البريطاني. تخرج الكابتن شكسبير من أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية عام 1896، وعاد إلى مستعمرة الهند البريطانية ضابطاً بالجيش البريطاني في سلاح المدفعية حتى وصل إلى قيادة سلاح الفرسان السابع عشر في البنغال عام 1899.

ولفت شكسبير الأنظار إليه بفعل قدراته السياسية والإدارية، فقررت إدارة الهند البريطانية استخدامه في العمل الدبلوماسي والاستخباراتي عام 1904 داخل الإدارة البريطانية للهند. وكما الحال مع العشرات من عملاء المخابرات الغربية، كان من الصعب العمل علناً في الصحراء العربية. لذا انخرط العملاء في السلك الأثري والجغرافي، فكان شكسبير مثلاً خبيراً في رسم الخرائط والتجوال في شبه الجزيرة العربية إضافة إلى أنه من أوائل الذين مارسوا فن التصوير الفوتوغرافي في صحاري الجزيرة العربية، وهو صاحب أول صورة فوتوغرافية لعدد من حكام الخليج أبرزهم عبد العزيز آل سعود.

ورسم للجيش البريطاني خرائط غير مسبوقة لشرق وشمال شبه الجزيرة العربية، ورصد أنماط الحياة الاجتماعية وأهم رجالات القبائل. أرشيف فوتوغرافي كامل أُرسل إلى أعتى خبراء المخابرات البريطانية في لندن، كما لو أن حملة عسكرية بريطانية كاملة وضعت قدمها على أرض آل سعود، حتى أصبح شكسبير من أهم المستكشفين الغربيين لتلك الصحاري.

قال عنه ضابط المخابرات البريطاني الشهير جون فيلبي: "لو واصل حياته فمن المشكوك فيه أن نرى لورانس العرب يظهر في غرب الجزيرة العربية لاحقاً"... "شكسبير العرب" وعمله بجانب الملك عبد العزيز بن سعود
الضابط البريطاني "شكسبير العرب"... لم يكن مجرد مستشار عسكري في الخيمة، ولكنه كان الرجل الثاني في الجيش السعودي بعد عبد العزيز بن سعود، وكان يشارك بجانبه على أرض المعارك
وإلى جانب إجادته اللغات الفارسية والأردو والبشتو، أتقن شكسبير اللغة العربية بطلاقة، إضافة إلى فهمه الكامل للتقاليد والعادات والأزياء العربية، من قبل أن تطأ قدميه أرض شبه الجزيرة العربية. وفي عام 1909، تقرر تعيينه نائباً للمقيم البريطاني في الخليج بيرسي كوكس ومندوباً لبريطانيا في الكويت قبل أن يمدّ نفوذه إلى البحرين أيضاً. ولكن بحلول عام 1910، ورغم منصبه في الكويت، أصبح المستشار العسكري لأمير نجد الشيخ عبد العزيز ابن سعود كما كان يُعرف وقتذاك، أو الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية، كما نعرفه اليوم. 

المستشار العسكري لابن سعود

في 11 يناير 1902، سيطر عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود برفقة جيش عشائري على الرياض التي كانت واقعة تحت حكم آل رشيد الشمّريين، حكام حائل. هكذا بدأت مسيرة الإمارة السعودية الثالثة. وعام 1904 قام بالزحف على القصيم ما وسّع من نفوذ أمير الرياض وجعله يتطلع للسيطرة على باقي إمارات نجد، شرق الجزيرة العربية. وفي ذاك التوقيت، كانت بريطانيا تريد استخدام السعودية الثالثة من أجل هزيمة حلفاء الدولة العثمانية في شبه الجزيرة العربية وتمليك الجزيرة إلى حلفائها. وتفهّم عبد العزيز هذا الأمر مبكراً، خاصةً أن حلفاء الدولة العثمانية هم مَن أسقطوا السعوديتين الأولى والثانية، تارة على يد المصريين وتارة على يد عشائر شمّر، حكام إمارة حائل. 

قابل ابن سعود النقيب ويليام شكسبير للمرة الأولى في الكويت عام 1909، وسرعان ما نشأت بينهما صداقة قوية. وبعد بضعة أشهر من مغادرة ابن سعود الكويت عائداً إلى نجد، لحق به شكسبير. لم يكن شكسبير مجرد مستشار عسكري في الخيمة، ولكنه كان الرجل الثاني في الجيش السعودي بعد ابن سعود، فكان يشارك بجانبه على أرض المعارك، مرتدياً بدلة عسكرية كاملة، وكان يقوم بتصوير الأحداث ويصدر أوامر عسكرية لفرق العشائر اعتماداً على خبرته العسكرية، ما وفّر للجيش السعودي وقتذاك تفوقاً استراتيجياً على باقي الجيوش العشائرية التي واجهها. وبحسب المؤرخ والرحالة اللبناني أمين الريحاني في كتابه "تاريخ نجد الحديث"، ساهم شكسبير العرب بدور رئيسي في سيطرة ابن سعود على إقليم الإحساء العثماني، عام 1913، وطرد منه الحامية العثمانية، ما جعل الأخير ملكاً على نجد وجعله يتطلع إلى بدء الزحف على حائل حيث حكم أسرة آل رشيد. ومثلما كان لورانس العرب متحمساً للثورة العربية بل وناقداً لبريطانيا بسبب عدم تقديمها الدعم الكافي للثوار، كان شكسبير العرب بدوره يرى أن بريطانيا يجب أن ترسل مزيداً من المال والسلاح إلى ابن سعود وكان يتهمها بأنها لا تقدّر أهميته بالقدر الكافي. لعبت توصيات شكسبير دوراً مهماً في عقد اتفاق العقير، إثرَ اجتماع بين الأمير عبد العزيز آل سعود والسير آرثر باريت، ممثل حكومة بريطانيا، في مارس 1914، وبموجبه وسعت لندن مساعداتها ودعمها لإمارة نجد السعودية.

ونظراً للحدود المشتركة بين إمارة نجد السعودية وولاية البصرة العراقية، في جنوب العراق اليوم، كان شكسبير العرب مهندس حماية الجيش السعودي لظهر الجيش البريطاني خلال عملية احتلال البصرة وجنوب العراق عام 1914.

مصرع شكسبير

بدأت المواجهات العسكرية بين نجد السعودية وحائل الشمرية، واندلعت معركة جراب بين الجيشين، وقاد شكسبير الجيش السعودي، في وجود ابن سعود، نظراً لأن الإمام سعود الثاني بن عبد العزيز آل رشيد كان يُعَدّ أهم حليف للعثمانيين في الجزيرة العربية، وحائل أو إمارة جبل شمر كانت تُعتبر آخر حليف قوي للعثمانيين في المنطقة العربية. بدأت المعركة في 17 يناير 1915، وسُحق الجيش السعودي على يد الجيش الشمّري في هزيمة عرقلت فكرة إسناد راية الثورة العربية الكبرى إلى آل سعود، وجعلت بريطانيا تحسم أمرها بتقليد الأسرة الهاشمية زعامة الثورة على حساب الأسرة السعودية، وتوقف استمرار الزحف السعودي على حائل والحجاز إلى حين انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918). 

سقط شكسبير العرب صريعاً في تلك الموقعة وقُيّدت وفاته بتاريخ 24 يناير 1915، وظلت قصة وفاته لغزاً، وإن كان جثمانه قد ووري الثرى في الكويت عقب استعادته. وفي يناير 2015، في الذكرى المئوية لوفاة شكسبير العرب الغامضة، كشفت المكتبة البريطانية British Library، وهي المكتبة الوطنية للمملكة المتحدة وتُعتبر ثاني أكبر مكتبة في العالم بعد مكتبة الكونغرس، عن تفاصيل مقتله. وبناء على شهادات جُمعت من القوة السعودية، ذات الاتصال الوثيق ببريطانيا، فإن المستشار البريطاني لأمير السعودية أصيب برصاصة في مرفقه الأيمن خلال المعركة، ثم أسره الجيش الشمري حياً وظل في الأسر فترة قبل أن يُعدَم برصاصتين، الأولى في رأسه والثانية في ظهره، وقُطع رأسه، وأرسلت خوذته العسكرية إلى الحامية العثمانية في المدينة المنورة، حيث قامت السلطات العثمانية بتعليقها على أسوار المدينة في رسالة لابن سعود تفيد بأن علاقته مع البريطانيين أصبحت معروفة لشعوب الحجاز. 

ترك الجيش الشمّري جثمان النقيب البريطاني في أرض المعركة مع المئات من القتلى من أبناء العشائر المؤيدة لآل سعود. ولاحقاً عثر الجيش السعودي على الجثمان فنُقل بمعرفة بريطانيا إلى الكويت حيث دُفن ولا يزال حتى اليوم. ورغم وفاته في سن السابعة والثلاثين، إلا أن توصيته الأخيرة بتوسيع الاعتماد على آل سعود تكللت بالنجاح لاحقاً، بتوقيع المعاهدة البريطانية السعودية، أو اتفاقية دارين (القطيف) في 26 ديسمبر 1915، ثم بإعطاء الضوء الأخضر لسلطان نجد باجتياح حائل والحجاز عقب انتهاء الحرب العالمية. ورثى ضابط المخابرات البريطاني الشهير جون فيلبي، الذى عمل مستشاراً لابن السعود منذ عام 1917 حتى وفاة الأخير عام 1953، شكسبير قائلاً: "إن وفاته وإنْ كانت خسارة لبلده إلا أنها كانت كارثة على القضية العربية، ولو نجا وواصل حياته فمن المشكوك فيه أن نرى لورانس العرب يظهر في غرب الجزيرة العربية لاحقاً".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard