شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الرجل البارد اللامبالي في المجتمع: المنبوذ والمحسود والملعون

الرجل البارد اللامبالي في المجتمع: المنبوذ والمحسود والملعون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 31 يوليو 201805:06 م
اقتحمتْ أبواب المترو وعيناها تذرفان الدموع وتردد كلمات لم يعتد الشحاذون في مصر استخدامها لاستعطاف قلوب المواطنين، كانت تقول بصوت عالٍ يسمعه تقريباً جميع من في العربة: "أرحموني من زوجي البارد" -لم تنتظر كثيرًا تفسيرات معنى كلمة "البرود" التي دارت في أذهان الركاب وراحت تلاحقها بكلمات أخرى تفك شفراتها- "العديم الإحساس، الذي يجلس في البيت ويطلب مني العمل وأنا في أمس الحاجة لتربية أولادي وسد بدل الإيجار، وهو لا يبالي". وقفت الشحاذة الأربعينية قرابة الدقيقة عند مدخل العربة حتى يسمعها الواقفون ثم مرت وهي تمد يدها وأخذت ممن رق قلبه ما أخذت ثم نزلت سريعاً من الباب الآخر للعربة التي تليها وتوارت عن الأنظار. لكنها تركت تعبيرًا عميقًا وفتحت بابًا للتساؤل عن نوعية هذا الرجل "البارد" وماذا يخبئ وراءه؟ يرى علماء النفس أن البرود عند الأشخاص هو مرادف للامبالاة التي يعرفونها بأنها حالة وجدانية سلوكية معناها أن يتصرف المرء بلا اهتمام في شؤون حياته وإن كان هذا في غيرمصلحته مع عدم توفر الإرادة على الفعل وعدم القدرة على الاهتمام بشأن النتائج. واللامبالي لا يهتم بالنواحي العاطفية أو الاجتماعية أو الاقتصادية وكذلك قد يبدي الكسل وعدم الحساسية. وقد يكون هذا التصرف جراء عدم قدرة المرء على حل المشكلات التي تواجهه أو ضعفه أمام التحديات. إضافة إلى استخفافه بمشاعر الآخرين أو باهتماماتهم كالطموح والآمال والهوايات الفردية أو المشاعر المختلفة كالحب والكراهية والخصام والحسد وغيرها لأن اللامبالي لا يجد أي فرق بين كل تلك المشاعر وإن لم يبد هذا الأمر صراحة أمام الآخرين.

عوامل تؤثر على الشخصية

الدكتور محمد مزيد، أستاذ علم النفس، قال إن هناك عاملين يؤثران في تشكل شخصية الفرد منذ صغره، أولهما النشأة الاجتماعية، فإذا عاش في أسرة جادة ستضفي بالإجمال عليه صفة تحمل المسؤولية والجدية في تصرفاته وأعماله. وإذا كان العكس فيتصف بحالة من السلبية وعدم تحمل المسؤولية وعدم تقدير الأمور ووزن خطورة الموقف. ثانيهما النماذج السلوكية في البيئة التي يعيش فيها ويحددها "الأب والأم"، فالأب المتواكل مثلًا سيخرج من تحت يده ابن سلبي وكسول ولديه شيء من البرود، كذلك الأم؛ فالأم المساعدة بشكل دائم تنتج ابنًا غير ناضج بعكس الأم المعلمة تنشئ جيلًا يعتمد على نفسه. via GIPHY وبشكل عام يقول عالم النفس إن السمات الشخصية التي يتميز بها الإنسان المصري هي الطيبة وحب النكات والسخرية، والتواكل، والاعتقاد في السحر، وعدم الحديث عن المستقبل والتركيز فقط مع الماضي، وهذه عند تحليلها ستجد أن أغلب من يتصف بها سلبي وغير مبالٍ. وأوضح مزيد لـ"رصيف 22" أن الشخص الذي يتصف بهذه العلامات يغلّب الجانب العاطفي على العقلي، مشيرًا إلى أن هذه النوعية يسهل التأثير عليها، فنجد مثلًا الإعلام المصري يستغل هذه الصفات لتمرير قرارات تلقى رفض شعبيًا، فمن يتصف بهذه الميزة ذاكرته ضعيفة ولا يركز في الأمور الجادة وفق مصطلح "مش فارقة معاه".

تجربة

آمال.م. موظفة لا تمل من سرد تجربتها مع زوجها اللامبالي الذي تصفه بعديم الفائدة وضعيف الشخصية تجاه متطلبات أسرته، وتضطر للعيش معه بسبب أولادها وكلام الناس- حسب تعبيرها.
قاعدة 5x5 تقترح أنه إذا كان أي شيء يزعجك لن يكون حاضراً أو يستحق اهتمامك خلال السنوات الخمس القادمة، فلا تنفق أكثر من 5 دقائق حول الموضوع.
وتضيف آمال خلال حديثها لـ"رصيف 22" أن زوجها نشأ مدللًا ولم يتعود على اتخاذ قرار بنفسه فانعكس ذلك على شخصيته، وأصبح اتكاليًا بشكل كبير. وتابعت: تكلفت بتزويج ابنتي "دعاء. ش" واشتريت لها الأجهزة الكهربائية وباقي جهاز العروس بالاستلاف من أقاربها وبالتقسيط دون أن يساعد حتى بالقليل أو يرف له جفن. فقط هو يصرف على نفسه حينما يحتاج أموالًا ولا يجد فيذهب للعمل كأجير ثم يعود لممارسة حياته المعتادة.

فوائد اللامبالاة

لكن الصورة ليست قاتمة تمامًا كما تبدو بالنظر إلى ما ذكر أعلاه فاللامبالاة والبرود مزايا لا يعرفها إلا من يفتقدها، فهل تذكر يوم نظرت بتأمل إلى من يتصف بها ورددت كلمات خافته: "ليتني مثلك لا أحمل الهم".

فن اللامبالاة

في كتاب فن المبالاة للكاتب الأمريكي مارك مانسون تحدث عن أهمية اللامبالاة وقال إن استحضارها في توقيت ما يكون مفيدًا. فلننظر للعالم ببساطة ولا نفرط في الاهتمام بأمر ما بأنه سينقذ العالم ولنقتنع بأنه هكذا على الدوام وسيظل هكذا، ويكون لديك عدم اكتراث بالشيء السيئ وأن تبطل مفعول الحلقة الجحيمية التي تمرر نفسها حتى لا تكره نفسك. وينصح مانسون في كتابه: كن كما لو أن أحدًا رشك بمسحوق اللامبالاة السحري تجد أنك توقفت عن كره نفسك ولا تشعر بالذنب أو الغضب والقلق. via GIPHY ويرشد مارك لعدم الاهتمام بأمور لا تسحق، فمثلًا لا تهتم وتنزعج من عامل محطة الوقود الوقح الذي رد إليك الباقي بقطع معدنية، أو تغضب حينما يلغي برنامج تليفزيوني تحبه أو تهتم بأن صديق غير صورته على فيسبوك. فلو ظللت تهتم أكثر من اللزوم ستخسر كل الجهات وحينها لا بد من اتباع فن اللامبالاة. لكن في المقابل يصف الشخص الذي لديه هدوء يخمد كل العواصف والشخص الذي لا يهزه شيء بأنه مضطرب عقلي يحتاج لعلاج نفسي.

قاعدة 5x5

يتسق هذا الحديث مع ما ذكره عالم النفس "مزيد" فقال إن هناك قاعدة في علم النفس تنص على أن الإنسان السوي في تفكيره يعتمد على قاعدة نفسية تسمى بـ 5by5 وتقترح أنه إذا كان أي شيء يزعجك لن يكون حاضراً أو يستحق اهتمامك خلال السنوات الخمس القادمة، فلا تنفق أكثر من 5 دقائق حول الموضوع. ولعل هذا ما انطبق على ما كان يفعله اللاعب المصري الشهير محمد صلاح، حينما رأيناه يقرأ باسترخاء كتاب "فن اللامبالاة" وهو في إحدى الطائرات. فالاستشارية النفسية ميرفت العماري، مدرسة علم النفس بجامعة عين شمس، قالت إن صلاح شخصية جادة وقراءته للكتب تشير إلى وعيه ونضجه العقلي. أما قراءته لكتاب اللامبالاة فتقول العماري إنه كان يريد تعلم طرق جديدة في كيفية التعامل مع المواقف وكيف يزن الأمور بشكل صحيح، وكيف يتعامل مع من يريد إفشاله، وأيضًا كيف يتعامل مع جمهوره، وهذا كله سيكون من خلال فهم الشخصية المصرية. وعن اللامبالاة تقول إن سببها المجتمع فلديه مشكلة في التربية بشكل عام. فالأم تربي ابنها على أنه ذو هيبة وفرغت الرجولة من مضمونها، في المقابل تربي بناتها على "سماع كلام أخوكي وزوجكي" تحت نظرية "ظل رجل ولا ظل حيطة". وتوضح أن بعض الرجال يضربون زوجاتهم ويأخذون أموالهن ويشربون بها مخدرات ومع ذلك لا تستطيع الزوجة الحديث، فهم يرون أن الأنوثة قلة قيمة أو قد تضطر للعيش معه جبرًا لتربية أولادها أو احترامًا لعادات وتقاليد موروثة. وبينت العماري في تصريح لـ"رصيف 22" أن هذا الشخص الذي لا يتفاعل مع الأحداث التي حوله غير طبيعي، فالطبيعي أن يُضغط الأب نفسيًا عند امتحانات ابنائه في الثانوية وأن يحمل هم زواج ابنائه، وبخلاف ذلك فكأنه ميت. via GIPHY وقالت إنها صادفت كثيرًا من هذه الشخصيات في عيادتها النفسية؛ لكنها رفضت وصفها بالظاهرة لكنها موجودة بكثرة في المجتمع، مشيرةً إلى أن هؤلاء الأشخاص ينالون نصيبهم من عدم التقدير في المجتمع.

قصيدة اللامبالي

هذه الصفة تحدث عنها الأدباء والشعراء منذ عقود، وكتب عنها الشاعر الفلسطيني أحمد درويش قصيدة كاملها سماها "اللامبالي" قال فيها: لا يـبالي بشيء . إذا قطعوا الماء عن بيته قال : لا بأس ! إن الشتاء قريب. وإن أوقفوا ساعة الكهرباء تثاءب : لا بأس ، فالشمس تكفي. وإن هددوه بتخفيض راتبه قال: لا لا بأس ! سوف أصوم عن الخمر والتبغ شهراً. وإن أخذوه إلى السجن قال : ولا بأس ، أخلو قليلاً إلى النفس في صحبة الذكريات وإن أرجعوه إلى بيته قال: لا بأس ! فالبيت بيتي. وقلت له مرة غاضباً : كيف تحيا غداً ؟ قال: لا شأن لي بغدي .. إنه فكرة لا تراودني. وأنا هكذا هكذا : لن يغيرني أي شيء، كما لم أغير أنا أي شيء ... فلا تحجب الشمس عني فقلت له : لستُ اسكندر المتعالي ولستَ ديوجين فقال: ولكن في اللامبالاة فلسفة ، إنها صفة من صفات الأمل!

اللامبالاة والفن

هذه الصفة حاضرة أيضًا بقوة في الفنون المسرحية والأعمال الفنية، وأتقنها عدد من الفنانين المصريين مثل "يونس شلبي- ومحمد هنيدي وأحمد حلمي وآخرين". ففي فيلم الناظر مثلًا يظهر الفنان أحمد حلمي "عاطف" غير مبالٍ بما حوله وهو "تابع أو إمعة" لصديقه "صلاح" الذي لا يختلف عنه كثيرًا وأصبح ناظرًا بين يوم وليلة. وفي أحد المشاهد يظهر عاطف وهو حامل لأعواد القصب ويسير في الشارع ببرود حتى عند مروره من أحد الشوارع، فحين مر من أمام إحدى السيارات المسرعة التي كانت تهدد حياته، كان هو يتابع حركة سقوط العود على الأرض بطريقة مستفزة.
وفي لقطة أخرى للفنان محمد هنيدي، يظهر وهو يرى معركة محتدمة بين عدد كبير من الأشخاص في الشارع وبدلًا من التدخل لوقفها يمر من أمامهم غير مبالٍ بما يحدث وهو يحمل طبق الفول وربطة البصل ويعود الى منزله.
أما هذه الصفة فجسدها بشكل كامل الفنان ماجد الكدواني "سيد" في فيلم "شيكامارا" الذي تدور احداثه حول زوجة شابة "الفنانة مي عز الدين" تعاني من برودة زوجها وضعف شخصيته وكسله فتضطر إلى العمل كسائقة ميكروباص لتنفق على أطفالها، فتتراكم عليها الأزمات. و"سيد" يجلس في المنزل محتضنًا زجاجات الخمر.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard