شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
حين غزت شوارع القاهرة... تنورة

حين غزت شوارع القاهرة... تنورة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 7 فبراير 201803:02 م

"إيه يا مزّة؟ عليّا الطلاق حصان... والنبي مش بردانة؟ إركبي مش هتندمي". لا ليست هذه كل العبارات التي سمعتها وأنا في طريقي إلى مطعم مشهور بطعامه المشوي في أحد شوارع القاهرة. لم أختر التوجّه إليه مشياً، فقد أنذرتني صديقتي المصرية أنها ليست مسؤولة عن الأضرار التي قد تنتج من ذلك، لكننا اضطررنا للسير بضعة أمتار بسبب صعوبة إيجاد موقف للسيارة. أمتار قليلة خلتها دهراً من شدّة الإحراج الذي شعرت به. فالكلمات التي سمعتها لا يمكن أن تصنّف في خانة المجاملات البريئة أو الإعجاب بالشكل. بل هي أشبه باغتصاب نظري وشفهي من خلال عبارات جنسيّة تحوّل المرأة إلى كائن رخيص. رخيص جداً.

لم تكن المرّة الأولى التي أزور فيها القاهرة بل هي العاشرة. وأدرك جيداً أن المدينة تلك لم تعد منفتحة كما عهدناها في أفلام الأبيض والأسود، عندما كانت الممثلات الفاتنات يملن بخصورهن المنحوتة ولباس الرقص المثير على أنغام موسيقى الشرق. تغيّرت ملامح المدينة وثقافة شعبها لأسباب كثيرة، وتغيّرت معهما النظرة إلى جسد المرأة بالطبع. كل ذلك بات معلوماً للجميع، والنساء في مصر أيضاً يدركن أن أي قطعة "لحم" صغيرة يمكن أن تعرضهن لأبشع أنواع التحرش اللفظي، وبحسب صديقتي يمكن أن تصل إلى محاولة اللمس متى أتيحت الفرصة. مشوار الألف ميل الذي سرناه وأنا أمسك يد صديقتي التي ظنّت أن عبارات مثل "بس يا ولا.. أسكت ولا.. خليك في حالك" ستردع الرجال وتشعرهم بالخجل، أيقظ في داخلي مشاعر وتساؤلات لم يسبق أن لاحظتها خلال زياراتي السابقة.

هل غياب الثقافة الجنسية هو السبب؟

سؤال طرحته على ذاتي قبل أن أتوجه به إلى عدد من الأصدقاء في مصر لإدراكهم أكثر بواقع مجتمعهم. ماذا لو كانت الثقافة الجنسية المحدودة في المنطقة العربية عموماً سبباً لهذا الكبت الجنسي الذي يجعل من كومة "لحم" أن تثير غرائز الرجل المصري فيصبح راغباً في التهامها على الفور؟
هل اعتبرني فتاة ليل كما يحلو لهم تسميتها؟ ربما فتاة أجنبية لا تدرك قواعد المجتمع؟ أم امرأة تحب التنانير؟
يقول أحمد وهو طبيب مصري، إنه سيفرض الحجاب على بناته ليس فقط من منطلق ديني بل لأنه يرغب في حمايتهن من نظرات الشارع التي لا ترحم على حدّ قوله. ويعتبر أن غياب برامج التثقيف الجنسي يحوّل المرأة إلى كائن جنسي من واجبه تلبية رغبات الرجل، وجسدها منبع تلك الرغبات. جسدها، بحسب أحمد، يجب أن يكون ملك زوجها فقط، فهو الوحيد الذي يملك الحق في تأمّله. وإن رآه شخص غريب فهذا نوع من أنواع الفحش والخيانة. تكون حينها المرأة هي الملامة فتتعرض للإهانة مرّتين. مرّة بفعل التحرش ومرّة بمعاقبتها على ذنب لم ترتكبه. جسد المرأة بحسب أحمد وعدد لا يستهان به من رجال مصر ليس ملكها. أي أنها لا تمتلك الحق بالتصرف به كما تشاء. لا باللبس ولا بالتعامل مع الرغبة ولا حتى بالتمتع بكونه أداة إغراء لها. نعم لها قبل الرغبة في إغراء الآخرين. فتختار ارتداء "الملاية" أو اللباس الفضفاض الخالي من الألوان اللافتة لكي لا يراها أحد. وكأن جمالها الخارجي خطيئة يجب أن تداريها.

دراسة حديثة نشرها موقع Egyptian Streets قامت بها منظمة الأمم المتحدة بالتعاون مع جمعية برازيلية تعنى بالتفرقة الجندرية، أشارت إلى أن 43% من الرجال المصريين يعتقدون أن النساء يحبون سماع الألفاظ الجنسية، لأنهن يشعرن باهتمام الرجل. وكانت تقارير سابقة صادرة عن منظمة الأمم المتحدة قد أشارت إلى أن 99% من نساء مصر تعرضن للتحرش اللفظي مرّة على الأقل.

وفي الدراسة إشارة مهمة إلى أن المجتمع المصري يلوم الضحية على الفعل إما لأنها أثارت الرجال بلباسها أو لأنها موجودة في مكان مكتظ ليس من حقها الوجود فيه. هناك أسباب عديدة تساهم في انتشار تلك الظاهرة بحسب الباحثين الاجتماعيين كالفقر والأميّة أو الحاجة الجنسية المكبوتة وعدم القدرة على الزواج. لكن مع الأسباب تلك، وإن كانت مبررة وصحيحة، لا يمكن أن ننكر أن المجتمع المصري، والنساء جزء منه، بات شبه مستسلم لدرجة أن بإمكانه أن يشهد حالة تحرش دون أن يثور أو يعترض.

هل يحدد لباس المرأة هويتها؟

منذ فترة ليست ببعيدة، أثار كلام وزير لبناني غضب الشارع حين اعتبر أن المرأة التي تمشي في مكان عام، وهي غير محتشمة، لا يمكن أن توجه الملامة لرجل إذا تحرش بها. كلام الوزير لم يكن بعيداً عن نظرات صديقتي التي، ما إن وصلنا إلى المطعم سالمتين وجلسنا إلى إحدى الطاولات الجانبية، حتى رمقتني بنظرة غريبة لم أميّز إن كانت ممازحة أم نابعة من خوف وقالت لي "ربنا ستر وماحدش لمسك.. إنت متخيلة هم ممكن يكونوا قولوا عليكي إيه؟". سؤال آخر استفزني. ورحت أتخيل سيناريو ذلك الشاب العشريني الذي مرّ بجانبي وغازلني وهو يتأمل ما ظهر من لباسي العصري. هل اعتبر أنني عاهرة؟ راقصة؟ فتاة ليل كما يحلو للمصريين تسميتها؟ أو ربما فتاة أجنبية لا تدرك قواعد المجتمع المصري؟ أم قد يكون اعتبرني مجرد امرأة تحب ارتداء التنانير؟ الاحتمال الأخير بدا لي غير واقعي.

فيما أتأمل لباس صديقتي التي نجحت في تغليف مفاتن جسدها جيداً بقميص واسع يصلح لامرأة كما لرجل، سألت نفسي لماذا باتت المرأة العربية ممنوعة من الاستمتاع بجسمها المتميز عن الرجال؟ لماذا باتت شبه مجبرة في العديد من المدن العربية، إن لم يكن من خلال قوانين واضحة فمن خلال نظرات تحرش أبشع من أي قانون، على أن تخفي جمالها الطبيعي؟ هل كل ما تملك المرأة من جماليات في الشكل والمضمون، في الأخلاق والعمل والمبادئ، بات يختصر في بضعة سنتمترات ناقصة في قميص أو تنورة؟

خرجت من المطعم وقد أصرّت صديقتي على أن تكون السيارة منتظرة أمام الباب لكي لا تتكرر "الكارثة" كما أسمتها. وأخذت أراقب النساء اللواتي يمشين في شوارع القاهرة وتساءلت هل هن مثل صديقتي استسلمن لقواعد المجتمع وعدم قدرتهن على مواجهة التحرش اللفظي الذي قد يتعرضن له في أي وقت ومكان. في ظلّ غياب قوانين تحميهن من التحرش ومن نظرات الرجال المقززة بل على العكس، مع وجود أشخاص ما زالوا يجدون لذلك مبررات، فبتن هن المسؤولات عن أي خطأ في اللباس إن ظهر ما لا يجب أن يظهر وفق تقاليد اجتماعية بالية. أم أنهن مثلي ما زلن يملكن الرغبة في التغيير والتحرر من مفاهيم تسرق منهن الأنوثة والحق في الحرية واستعادة ملكية الجسد؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard