شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
السياسيون الـ

السياسيون الـ"بولشيت": يعلمون أنهم كاذبون ونعلم أنهم يعلمون ويعلمون أننا نعلم، ونصفق لهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 8 نوفمبر 201712:26 م

تجمع أهل القرية في حفلة للإمبراطور، وأُخذوا مبهورين بزيه الأنيق الغالي، حمل أب طفله ليشاركه إعجابه بزيّ الإمبراطور، وعندما نظر الطفل أشار بإصبعه إلى الأمبراطور قائلاً بكثير من الدهشة: "إنه عارٍ"، مما أثار استياء الأب والأهل والمحتشدين الذين لم تتمكن عيونهم من رؤية الأمير عارياً. دائماً، أتذكر هذه القصة لأديب الأطفال هانس أندرسون عندما أشاهد أحد الزعماء المحتالين يتحدثون عبر إحدى شاشات التلفزيون، أو أحد المرشحين للانتخابات البرلمانية، وهو يعلم أنه فاسد وكاذب، والناس يعلمون، وهو يعلم أنهم يعلمون، ولكنهم يصفقون له، ثم ينتخبونه، في دائرة عبثية لا تنتهي. ويظل التساؤل: ما الذي أعمى أبصارنا عن عورة الأمبراطور؟ وما الذي يردعنا عن اتخاذ المواقف ضده إذا رأينا عورته؟ سمّى ستيفن مكروناك، أستاذ في جامعة ألاباما في برمنجهام، حالات الخداع في التواصل بين الناس "التلاعب بالمعلومات". وكمتخصص، يقول عندما يختار شخص ما -الزعيم السياسي في مقالنا هذا- الخداع، ينتهك المبادئ العامة التي تحكم المتحدثين، تسمى النظرية "التلاعب بالمعلومات". وأشار إلى أن الرسائل الخادعة تعمل بشكل مخادع لأنها تنتهك سراً هذه المبادئ، مفترضاً أن هناك اتفاقاً مضمراً يحكم أي محادثة بين شخصين أو أكثر، ويعتمد مكروناك على نظرية غريس حول المبادئ العامة للنقاش.

كيف يتم التلاعب بالمعلومات؟

لنفهم عملياً طرق التلاعب يرجع العديد من الباحثين إلى ما اقترحه إتش بي غريس "1913-1988" في كتاب "المنطق والمحادثة"، حول المبادئ العامة التي تحكم شخصين يتحدثان عن موضوع ما. هناك مبادئ تندرج تحت اسم "مبدأ تعاوني"، وقسمها إلى أربعة ثوابت. يعني مقترح غريس هذا أننا حتى نحكم إذا ما كان المتحدث يتلاعب بنا أم لا، علينا أن نقيس ذلك بالمبادئ الأربعة: كم عدد المعلومات التي يُسمعنا إياها "الكم"، وهل كل هذه المعلومات صحيحة ومبرهنة "الكيف"، وهل جميعها مرتبط بالموضوع الذي يتحدث فيه، أم يستطرد في أمور أخرى "عدم التعلق"، وهل هذه المعلومات واضحة ومرتبة أو غامضة ومشتتة. فلنضع مقترح إتش بي غريس في أذهاننا عند حديثنا عن التلاعب بالمعلومات، وأنماط الكذب والخداع اللذين يمارسهما السياسي على شرائح واسعة من الشعب. قد تفاجأون بأن كثيراً من الساسة يكذبون في معظم الخطب، ولكن ثمة باحثين يرون أنه لا يجوز أن نطلق صفة الكذاب على السياسي الذي يمارس الكذب والخداع.

كذب الزعماء ضرورة عملية

يرى ستيفن مكروناك في مقال على موقع "سي إن إن ماني" أن الكذب هو خيار عملي، لا صفة شخصية، فلا يجوز أن نطلق وصف "كاذب" على أي شخص، ولكن يمكن أن ننعت الأفراد بـ"انعدام الأمانة" وبأنهم غير موثوق بهم. لعلكم مندهشون وغير متقبلين هذه الاستنتاجات، هذا حال مكروناك بعد أن قضى 30 عاماً في دراسة الكذب، فاكتشف مذهولاً أن الكذب نادر، والناس تضطر إليه لأسباب عملية. أول من سجل هذه الملاحظة الباحث الراحل روني تيرنر في دراسة نشرت في السبعينات. تيرنر وزملاؤه سجلوا محادثات مهمة للناس، وقاموا بدرس النتائج في المختبر، وبعد تحليل خلُصت النتائج إلى أن الناس تمارس أقل من الصدق الكامل، ويتخلل أحاديثها مبالغة طفيفة، ومعظم الناس أغفلوا بعض الحقائق، لكنهم لم يكذبوا كثيراً. يقول مكروناك إن لم تصدقوا تلك النتائج اسألوا أنفسكم كم مرة كذبتم أمس؟

ويراهن الكاتب على أن النتيجة ستكون منخفضة إن لم تصل إلى صفر. أما الشخصيات التي تعتاد الكذب فهي نسبة مئوية قليلة، تنتمي إلى المجرمين، تلك الفئة التي تغش وتسرق وتقتل، مما يضر بالجميع. النقطة الثانية التي لفت إليها مكرونك، بعد الأسباب العملية "الاضطرارية"، هي أن الناس تكذب عندما تكون لديها معلومات تسبب مشاكل إذا شاركتها مع آخرين. حسناً، يوضح المقال هذه النقطة، إذا ذهبتم إلى المكتبة وقمتم بأبحاث، وسألتكم زوجتكم أين كنتم؟ ستجيبون أنكم كنتم في المكتبة. لو ذهبتم إلى حفلة وقابلتم حبيبتكم السابقة وغازلتموها، بالتأكيد لو حدثتكم زوجتكم عنها ستكذبون، لماذا؟ لأن "الكذب في هذه الحالات أسهل من الإفصاح عن المعلومات الصحيحة". هنا نعرف متى يخدع الناس، عندما يضطر أحدهم إلى ذلك بسبب أفكار محرمة، أو سلوك مفسد ومدمر.

يقول الكاتب إن البعض يتساءل: إذاً لماذا تميل مرشحة الرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون والرئيس دونالد ترامب إلى الكذب؟ يجيب الكاتب أن كلاً منهما لديه تاريخ من السلوك المثير للريبة والازدواجية، كلينتون تصرفت بتهور في التعامل مع رسائل البريد الإلكتروني الحساسة، وأشارت إلى أن استخدامها جاء في الإطار المسموح به، ولكن ذلك كذبٌ واضح. ودونالد ترامب متهم بالتلاعب بالعقود، ووضع اسمه على ختم موافقة على جامعة متهمة بالتزوير، لذا لا عجب من أن يكذبا. ولكن ترامب يكذب بنسبة 70% في تصريحاته الانتخابية، فلماذا؟ بحسب الكاتب، فإن السبب بسيط: ترامب تعلّم في وقت ما من حياته الكذب وكوفئ عليه، تعلم أنه يمكن أن يكون أكثر كفاءة في الحصول على ما يريد بالكذب مقارنة بالصدق، ويعلق الكاتب: "لحسن حظ العالم، إن وجهة النظر هذه لا يتشاركها معظم الناس". والحقيقة أيضاً أننا نقدر الصدق والأمانة في المجال العام، ولكننا نميل إلى إدراك شيء مؤسف، إذا كان الكذب مصمماً لتفادي معلومة قد تمضي بكم إلى التهلكة، بحسب المقال، فهي ضرورة ضمن السياسة الوطنية، وأن تنتقدوا ذلك يبدو كأنكم تنتقدون احتياجنا لتنفس الهواء.

ضعوا أنفسكم مكان السياسيين ستغيرون من آرائكم وقناعاتكم وستطلقون الحقائق بطريقة تجعل الناخبين يصوتون لكم
ويقرب الكاتب كذب السياسيين منا كقراء أكثر ويقول: كلنا لدينا معلومات "إشكالية" في عقولنا، عندما يتعلق الأمر بعقائدنا، ومواقفنا، وقيمنا التي قد تضعنا على خلاف مع الآخرين، ضعوا أنفسكم مكان السياسيين ستغيرون من آرائكم وقناعاتكم، وستطلقون الحقائق بطريقة تجعل الناخبين يصوتون لك. فلا تتوقعوا من السياسيين إذاً أن يتصرفوا بشكل مختلف. بحسب مكروناك، كلنا مثل السياسيين كذابون لأننا نضطر إلى ذلك بسبب الازدواجية في حياتنا، أو بسبب أن الصدق يضر علاقتنا بالآخرين، وهكذا السياسيون أيضاً، ولكن ما غفل عنه الباحث هو أن علاقاتنا الإنسانية تحكمها المشاركة مع الأهل والأصدقاء وشركائنا، أو المصلحة المشتركة مثل زملاء العمل وشركائك في مشاريع اقتصادية أو مهمات وظيفية، ولكن ما يفعله السياسي ينتمي إلى حقل مختلف عن تجاربنا العامة، وهو السيطرة. يريد الامتياز، وفي بعض الحالات، تكون امتيازات السلطة على حساب حياة العامة من الناس الذين يُمارَس الخداع عليهم لإبقائهم تحت السيطرة راضين أو ساخطين.

الشعب يعبّر والزعيم يستعرض

وهذا هو ما يراه الباحث الاجتماعي  "إيفرنغ غوفمان". كل تصرف في حياتنا العادية يمكن تشبيهه بالمسرح، وحديثنا وعلاقاتنا أشبه ب"عرض الذات" كما سماها "إيفرنغ غوفمان"، وقسمه إلى نوعين، الأول "عرض الذات الحقيقية"، وهو ما ينطبق على معظم سلوكيات الناس العادية، ويعني أن "يعكس سلوك الإنسان ذاته الحقيقية بدون أقنعة"، وتكون "لغة جسده متلائمة مع رسالته الكلامية دون جهد". والنوع الثاني: "عرض الذات الإستراتيجية"، وهو ما يتعلق بالشخصيات العامة في خطبها وسلوكها في العلن، فلا يتصرف الزعماء على هواهم، ولكن يريدون خلف كلماتهم وسلوكياتهم ترك انطباع لدى الشعب عنهم. روبرت غرين ألف كتاباً يرصد ويفلسف ويؤرخ بل يعطي نصائح لهؤلاء الأشخاص، الذين يسعون إلى السيطرة، ولا يمتلكون أدنى ذرة من ضمير أو نزعات إنسانية. وصنف تلك الإستراتيجيات التي يتبناها هؤلاء في 33 طريقة، نستعرض هنا أكثرها قرباً من تلك التي يتبناها الزعماء السياسيون في تفاعلهم مع الحراك الشعبي، وفي تأثيرهم على الرأي العام بما يحفظ امتيازاتهم. إذ يتم التلاعب بالرأي العام، ونشر الشائعات، واحتكار الخير لأنفسهم، وإسقاط كل الشرور على أعدائهم، وممارسة القتل والانتهازية والخيانة كلما لاحت الفرصة.

الرئيس المتلاعب

أبرز تلك الإستراتيجيات "العدوانية المستكينة"، يعرّفها غرين بأنها "العدوانية الكامنة وراء ظاهر مذعن وحتى محب"، ويعتبرها إستراتيجية "شعبية". يقول شارحاً: "حين تطبقون إستراتيجية العدوانية السلبية تبدون متماشين مع الناس، ولا تظهرون أي مقاومة، لكنكم عملياً تهيمنون على الوضع، إذ ستظهرون بمظهر الشخص الساكن وحتى العاجز إلى حد ما، احرصوا على إخفاء عدوانيتكم". ويقول غرين إن هذه الإستراتيجية حين تكون واعية تتيح لنا قوة داخلية هائلة للتلاعب بالناس، وشن الحروب الشخصية عليهم: "أن تظهروا بمظهر الموافقين على أفكار الآخرين والمتماشين مع أمزجتهم وإرادتهم، فمحاولة معارضة الناس مباشرة أو السعي إلى تغيير أفكارهم، هذه كلها عناصر تؤدي إلى نتيجة عكسية غالباً، أما الواجهة المستكينة المذعنة فلا تمنحوهم شيئاً يمكّنهم من القتال ضده أو مقاومته". هنالك قوة أخرى لهذه الإستراتيجية هي عدم قدرتهم على فهم ما تفعلونه يمنحكم المجال للعمل خلف الكواليس فتدققون في تقدمهم وعزلهم عن الآخرين، وتستدرجونهم إلى خطوات تجعلهم معتمدين على دعمكم. ولا ينتهي خداع الساسة والزعماء عند هذا الحد، وكذلك استعداد الناس لابتلاع أكاذيبهم. لا تعتبر معرفة الناس أن الزعيم كاذب، وأنه لن ينفذ أجندة وطنية كافٍ لعدم ترشيحه والتعصب له، فهناك آليات نفسية تحكم العلاقة بين الجمهور والسياسي، تدفعه إلى أن يستمتع بأكاذيبه، ويصفق لها، وتجعل القائد غير مهتم بإقناع الناس بكذبه، ولكن بتسليتهم وإثارة مشاعرهم وخيالهم، إنها ظاهرة سماها عالم اجتماع الـ"Bullshit".

ترامب السياسي البولشيت

ابتكر الفيلسوف الأخلاقي هاري فرانكفورت مصطلح السياسي السفيه الـ"Bullshit" ويعرّفه بأنه تجاوز مرحلة الكذب، إنه لا يهتم بالحقيقة من الأساس، فهو يعرف أنه يكذب، ويعرف أن الناس تعرف أنه يكذب، ولا يبذل مجهوداً باتباع إستراتيجيات الخداع تلك التي صنفها روبرت غرين، ولكنه يتفنن في استعراض كذبه ليثير الجمهور لا ليقنعهم بكذبه. في مقال لجيف هانكوك أستاذ في جامعة ستانفورد، يدرس الخداع والتكنولوجيا، نشره موقع "سي إن إن ماني"، يشرح فيه الفرق بين السياسي المحتال "البولشيت" والكذاب، يقول إن ما يميز الاحتيال "أو السفاهة" أنه "فعل واعِ للخداع"، الاحتيال لا علاقة له بالاهتمام بالحقيقة، ويعتبر فرانكفورت ما هو جوهري في عملية الاحتيال "السفاهة" الـ"Bullshit"، اللامبالاة حيال الحقائق، وكيفية سير الأمور. الكذب هو زيف نضطر إليه، ولكن البولشيت ليس كذلك، البولشيت "السفاهة" هو مسألة إخفاء الناس افتقارهم إلى الالتزام بالحقيقة. السفهاء يتجاهلون الحقيقة بدلاً من الاعتراف بها أو تخريبها باتباع إستراتيجيات الخداع، إنهم أعداء للحقيقة أكثر من الكذابين.

لقد تغيرت أمزجة الناس ومواقفها، بحسب فرانكفورت، بطريقة سمحت لظهور وتولي السياسي السفيه مقاليد الأمور، فما الذي تغيّر فينا إلى هذه الدرجة؟ بات الناس مقتنعين بأنهم يفهمون في كل شيء من دون بذل مجهود في معرفة كل شيء، وراج بين الناس أن الحقائق ذاتية ونسبية وليست موضوعية، ما جعلهم غير جادين في البحث عن الحقائق، بقدر اهتمامهم بشكل "الحقيقة"، وأسلوب الحديث المسلي والمثير. هكذا إذاً، خدعنا الساسة الكذبة والمحتالون، إما باستخدام إستراتيجيات الخداع، أو باتباع فن البولشيت. والشعوب متأرجحة بين مخدوعين بتلك الإستراتيجيات، ومفتونين باستعراض الزعيم البولشيت، غير مبالين بالحقيقة، وبالعالم الذي ينحدر إلى الهاوية، وبظروفهم التي تزداد سوءاً، ليظل التساؤل أكثر إلحاحاً حول كيفية مقاومة أساليب الخداع، وتغيير مزاج الكثير من الناس اللامبالي والجائع إلى الاستثارة العاطفية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard