شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هذا هو ما نجنيه نحن الفيجيتيريان...

هذا هو ما نجنيه نحن الفيجيتيريان...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 2 نوفمبر 201706:29 م

أذكر أني كنت في التاسعة من عمري حين أدركت أن الجبن الذي أتناوله يومياً في وجبة الإفطار مصنوع من حليب البقر، حينذاك توقفت عن تناوله كلياً وقررت أن أستبدله بمنتجات غذائية آخرى ليست منتجة من الحيوانات. وكان أهمها الزعتر. لم أكن أطيق شرب الحليب، ولم أزل أمقت رائحته. ربما بسبب إصرار إحدى جاراتنا على إقناعي بتناوله مع منكهات مختلفة مثل العسل والقرفة وماء الزهر، وهي تلاحقني حاملة فنجاناً فاتراً من الحليب كي أعدل عن قراري. وهي بإصرارها لم تكن تفهم أن مشكلتي مع عدم تناول مثل هذه الأطعمة لا تنتهي بتراجعي عن قرار ما قد اتخذته، وأنا في مثل هذه السن الصغيرة التي لا أدرك فيها أصلاً معنى اتخاذ قرار بمثل هذه الأهمية. بالفعل، لا يدرك البعض معنى أن يكون الإنسان نباتياً، ليس لقرار ما، بل لأن النفس لا تقبل أن يتناول صاحبها أطعمة حيوانية، أو يشتمها أو يراها.

بعيداً عن كل ما يقال عن حماية حقوق الحيوان، بل لسبب ما في الجسد نفسه يجعله يتقيأ حين يرى ثماراً بحرية ودجاجاً نيئاً تنتشر منه رائحة الزفر، أو حين يتذكر لون الدم الممتزج بقطعة سميكة من اللحم. لم تصر عائلتي يوماً عليّ كي أتناول هذا النوع من الغذاء، وقد حاولت أمي تعويض هذا النقص بشتى الطرق، فكانت تطهو لي دائماً طعاماً يخلو من اللحم. لكن معاناتي بدأت عندما توقفت أمي عن إعداد الطعام بنفسها، فرحتُ أبحث عن طعام "فيجيتريان" في مطاعم الوجبات السريعة، كبرغر الكينوا والفيجي، كما مطاعم الأكلات اليومية حيث أطباق اللوبياء والبامية بزيت، مع مختلف أنواع السلطات بالتأكيد. وهو أمر تمكنت من تحقيقه في لبنان بطريقة أو بأخرى وتعرفت مع مرور الوقت على المطاعم التي أستطيع الاعتماد عليها.

لكن الكارثة الحقيقية حصلت فعلاً حين سافرت في رحلة تدريب إلى مصر. كانت رحلة السفر الأولى لي خارج لبنان إلى بلد يطهى فيه الطعام بكثير من السمن، بما في ذلك الخضراوات والأرز! حينذاك مكثت أربعة أيام وأنا أتناول الفاكهة المتنوعة والكورن فليكس وخبز الباغيت والسلطة، إلى أن التقيت الشيف المسؤول في "أوتيل الإسكندرية" الذي مكثت فيه سبعة أيام، وطلبت الخضروات المطهوة مع زيت الزيتون والأوريغانو على العشاء لا أكثر، وكانت هذه وجبتي الوحيدة في الأيام الثلاثة اللاحقة الى أن غادرت الإسكندرية إلى بيروت.

ومع أني بقيت جالسة من دون أن أتناول أي طعام، شعرت للحظة بأنني على مشارف الإغماء من هول المشهد
لأنني نباتية فقط... يظنون أنني مريضة دائماً ويحاولون إقناعي بتناول اللحوم!
تكررت زيارتي للإسكندرية والقاهرة وعمان، لكن بمعاناة أقل، ليس لأنني وجدت الأطباق التي تناسبني، بل لأنني اعتدت أن أكتفي بتناول القليل من الأطعمة خلال سفري. "هذا هو ما نجنيه نحن الفيجيتيريان"، قلتها مرة حين كنت في الإسكندرية للمرة الثانية لا سيما حين اضطررت للانضمام إلى زميلاتي المشاركات في التدريب إلى طاولة عشاء في مطعم قريب مخصص للأطعمة البحرية، بدعوة من القائمين على التدريب. ليلتذاك امتلأت الطاولة بأنواع مختلفة من الأثمار البحرية مثل الشوربة والسلطات والمتبلات، ومع أني بقيت جالسة من دون أن أتناول أي طعام، شعرت للحظة بأنني على مشارف الإغماء من هول المشهد الذي رأيته. ما أنقذني هو زجاجة العطر التي لم أتردد في جذبها من حقيبتي والرش منها بكثافة على يدي وشمّ العطر مرات ومرات حتى أزيلت جميع الأطباق من أمامي، وانتهى الكابوس الذي استمر نحو نصف ساعة شعرت كأنه عمر كامل لا ينتهي.

لم أشعر يوماً بأنّي مختلفة عن الأخرين لمجرد أنني لا أتقبل نوعاً معيّناً من الطعام، لكن لم يتوارَ معظم أصدقائي وأقاربي عن تمييزي في حديثهم، كأني هبطت عليهم من كوكب آخر، مع سؤالهم المعتاد: "هل أنت بصحة جيدة؟"، لأن وجهة نظرهم تفترض أن كل أنواع الأمراض التي قد تصيبني، كالزكام، أو بعض الأمراض المتخيلة غير الموجودة أصلاً في علوم الطب، ناتجة حتماً من عدم تناولي اللحوم أو الألبان، والأسوأ بكل تأكيد أن معظم أولئك الأشخاص يعتقدون بأني سأشفى بمجرد أن أتناولها، من دون الحاجة حتى إلى الأدوية، فقط علي أن أتناول اللحوم! أتساءل أحياناً ماذا لو أنني كنت من الأشخاص الذين يتقبلون الأطعمة الحيوانية: "كنت بالطبع سأتخذ قراري بعدم تناولها رأفةً بالحيوانات التي تذبح بطريقة موجعة". أو ربما سأكون مثل كثيرين من أصدقائي الذين يعشقون الشاورما والطاووق والبرغر، ويقولون إنني محرومة من لذة تناول مثل هذه الأطعمة، لذلك أنا لا أفقه العيش بسعادة. ومع ذلك لم يدفعني قولهم هذا إلى تجربة اللذة التي يتحدثون عنها، ولم أفكر فيها قط لأنني ببساطة لا أهتم بما يقولون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard